فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب القصاص يوم القيامة "

باب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَهْىَ الْحَاقَّةُ لأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ، وَحَوَاقَّ الأُمُورِ.
الْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ وَاحِدٌ، وَالْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَالصَّاخَّةُ.
وَالتَّغَابُنُ: غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ.

( باب) كيفية ( القصاص) بكسر القاف ( يوم القيامة وهي) أي يوم القيامة ( الحاقة لأن فيها الثواب وحواق الأمور الحقة والحاقة) بفتح الحاء المهملة وتشديد القاف في الكل ( واحد) في المعنى قاله الفرّاء في معاني القرآن.
وقال غيره: الحاقة التي يحق وقوعها أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف حقيقتها أو تقع حواق الأمور من الحساب والجزاء على الإسناد المجازي ( والقارعة) من أسماء يوم القيامة أيضًا لأنها تقرع القلوب بأهوالها ( و) كذا من أسمائها ( الغاشية) لأنها تغشى الناس بشدائدها ( والصاخة) مأخوذة من قوله صخ فلان فلانًا إذا أصمه وسميت بذلك لأن صيحة القيامة مسمعة لأمور الآخرة ومصمة عن أمور الدنيا ( والتغابن غبن) بسكون الموحدة ( أهل الجنة من أهل النار) لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس مستعار من تغابن التجار
ومن أسمائها أيضًا يوم الحسرة ويوم التلاق إلى غير ذلك مما جمعه الغزالي والقرطبي فبلغ نحو الثمانين اسمًا.


[ قــ :6195 ... غــ : 6533 ]
- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِى شَقِيقٌ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ».
[الحديث 6533 - طرفه في 6864] .

وبه قال: ( حدّثنا عمر بن حفص) بضم العين قال: ( حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: ( حدّثنا الأعمش) سليمان قال: ( حدثني) بالإفراد ( شقيق) هو ابن سلم ( قال: سمعت عبد الله) بن مسعود ( -رضي الله عنه-) يقول: ( قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( أول ما يقضى بين الناس) بضم التحتية يوم القيامة ( بالدماء) التي جرت بينهم في الدنيا ولأبي ذر عن الكشميهني وابن عساكر في نسخة في الدماء بلفظ في بدل الموحدة وفيه تعظيم أمر الدماء فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم وهي حقيقة بذلك، فإن الذنوب تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها أو بحسب فوات المعصية المتعلقة بعدمها وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد.
قال بعض المحققين: ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه، ثم يحتمل من حيث اللفظ أن تكون الأولية مخصوصة بما يقع فيه الحكم بين الناس، وأن تكون عامّة في أولية ما يقضى فيه مطلقًا، ومما يقوي الأول حديث أبي هريرة المروي في السنن الأربعة مرفوعًا "إن أول ما يحاسب العبد عليه يوم القيامة صلاته" الحديث وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين ولفظه: أول ما يحاسب العبد عليه صلاته وأول ما يقضى بين الناس في الدماء".

ورجال حديث الباب كلهم كوفيون وأخرجه المؤلّف أيضًا في الديات ومسلم في الحدود والترمذي في الديات والنسائي في المحاربة وابن ماجة في الديات.




[ قــ :6196 ... غــ : 6534 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ».

وبه قال: ( حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: ( حدثني) بالإفراد ( مالك) الإمام ( عن سعيد المقبري) بضم الموحدة ( عن أبي هريرة) عبد الرَّحمن بن صخر -رضي الله عنه- ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( من كانت عنده مظلمة) بفتح اللام وكسرها والكسر هو الذي في اليونينية وهو الأشهر وهو
اسم لما أخذه المرء بغير حق ( لأخيه) المسلم ولأبي ذر عن الكشميهني من أخيه ( فليتحلله منها) أي ليسأله أن يجعله في حل وليطلب منه براءة ذمته قبل يوم القيامة ( فإنه) أي الشأن ( ليس ثم) بفتح المثلثة أي ليس هناك يعني يوم القيامة ( دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من) أصل ثواب ( حسناته) ما يوازي العقوبة عن السيئة فيزاد على ثواب المظلوم وما زاد مما تفضل الله به من مضاعفة الحسنة إلى عشرة إلى ما شاء الله فإنه يبقى لصاحبه ( فإنه لم يكن له) للظالم ( حسنات أخذ) بضم الهمزة وكسر المعجمة ( من) عقوبة ( سيئات أخيه فطرحت عليه) .
وفي حديث ابن مسعود عند أبي نعيم يؤخذ بيد العبد فينصب على رؤوس الناس وينادى عليه.
هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت فيأتون فيقول الرب آت هؤلاء حقوقهم فيقول: يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؟ فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا كل إنسان بقدر طلبته فإن كان ناجيًا وفضل من حسناته مثقال حبة من خردل ضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة.

وحديث الباب أخرجه الترمذي.




[ قــ :6197 ... غــ : 6535 ]
- حَدَّثَنِى الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِىِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِى الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِى دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِى الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِى الدُّنْيَا».

وبه قال: ( حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر وابن عساكر: حدّثنا ( الصلت بن محمد) بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها فوقية ابن محمد بن عبد الرَّحمن الخاركي بالخاء المعجمة والراء والكاف قال: ( حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء مصغرًا أبو معاوية البصري وقرأ هذه الآية: { ونزعنا ما في صدورهم من غل} [الأعراف: 43] من حقد كان في القلب أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم أي طهر قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادّ والتحابب، وذكر هذه الآية بين رجال الإسناد ليبين أن متن الحديث كالتفسير لها ( قال) يزيد بن زريع: ( حدّثنا سعيد) بكسر العين ابن أبي عروبة ( عن قتادة) بن دعامة ( عن أبي المتوكل) علي بن داود ( الناجي) بالنون وبعد الألف جيم مكسورة نسبة إلى بني ناجية بن سامة بن لؤي قبيلة ( أن أبا سعيد) سعد بن مالك ( الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وعند الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع بهذا السند إلى أبي سعيد الخدري عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه الآية { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين} قال:
( يخلص المؤمنون من النار) بفتح التحتية وضم اللام من يخلص أي ينجون من السقوط فيها
بعدما يجوزون الصراط ( فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار) قيل إنها صراط آخر، وقيل إنها من تتمة الصراط وإنها طرفه الذي يلي الجنة.
قال القرطبي: وهؤلاء المؤمنون هم الذين علم الله أن القصاص لا يستنفد حسناتهم، وقال في الفتح: ولعل أصحاب الأعراف منهم على القول الراجح قال: وخرج من هذا صنفان من دخل الجنة بغير حساب ومن أوبقه عمله من الموحدين، وأما الناجون فقد يكون عليهم تبعات فيخلصون ولهم حسنات توازنها أو تزيد عليها ( فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا) بضم التحتية وفتح القاف من يقص مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر عن الكشميهني فيقتص بضم التحتية وسكون القاف وزيادة فوقية مفتوحة بعدها كذا في الفرع بضم التحتية.
وقال الحافظ ابن حجر، وتبعه العيني: بفتحها فتكون اللام على هذه الرواية زائدة والفاعل محذوف وهو الله تعالى أو من أقامه في ذلك، وفي رواية شيبان عن قتادة السابقة في المظالم فيقتص بعضهم من بعض ( حتى إذا هذبوا) بضم الهاء وكسر الذال المعجمة المشددة بعدها موحدة من التهذيب ( ونقوا) بضم النون والقاف المشددة من التنقية وأصله نقيوا استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى سابقتها بعد حذف حركتها.
وقال الجوهري: التهذيب كالتنقية ورجل مهذب أي مطهر الأخلاق، فعلى هذا قوله ونقوا تفسير لقوله هذبوا وأدخل واو العطف بين المفسر والمفسر، والمراد التخليص من التبعات فإذا خلصوا منها ( أذن لهم) بضم الهمزة وكسر المعجمة ( في دخول الجنة) وليس في قلوب بعضهم على بعض غل أي حقد كامن في قلوبهم بل ألقى الله فيها التواد والتحاب ( فو) الله ( الذي نفس محمد بيده لأحدهم) بفتح اللام للتأكيد واحد مبتدأ خبره قوله ( أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله) الذي كان ( في الدنيا) .

قال في شرح المشكاة فيما قرأته: فيه هدى لا يتعدى بالباء بل باللام وإلى فالوجه أن يضمن معنى اللصوق أي ألصق بمنزله هاديًا إليه قال: وفي معناه قوله تعالى { يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار} [يونس: 9] أي يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة فجعل تجري من تحتهم الأنهار بيانًا له وتفسيرًا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها، وأما ما أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد وصححه الحاكم عن عبد الله بن سلام أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينًا وشمالاً فهو محمول على من لم يحبس بالقنطرة أو على الجميع والمراد أن الملائكة تقول لهم ذلك قبل دخول الجنة فمن دخل كانت معرفته بمنزله فيها كمعرفته بمنزله في الدنيا لأن منازلهم تعرض عليهم غدوًّا وعشيًّا.

وحديث الباب مرّ في المظالم.