فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قصاص المظالم

كتاب في المظالم والغصب
وقول الله تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} : المقنِعُ والمقمِحُ واحد.
( بسم الله الرحمن الرحيم) .
( كتاب في المظالم) جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها حكاه الجوهري وغيره والكسر أكثر ولم يضبطها ابن سيده في سائر تصرفها إلا بالكسر وفي القاموس، والمظلمة بكسر اللام وكثمامة ما يظلمه الرجل فلم يذكر فيه غير الكسر، ونقل أبو عبيد عن أبي بكر بن القوطية: لا تقول العرب مظلمة بفتح اللام إنما هي مظلمة بكسرها وهي اسم لما أخذ بغير حق والظلم بالضم.
قال صاحب القاموس وغيره: وضع الشيء في غير موضعه.
( والغصب) وهو لغة أخذ الشيء ظلمًا، وقيل أخذه جهرًا بغلبة وشرعًا الاستيلاء على حق الغير عدوانًا، وسقط حرف الجرّ لأبي ذر وابن عساكر، والمظالم بالرفع والغصب عطف عليه وسقط لفظ كتاب لغير المستملي وللنسفي كتاب الغصب باب في المظالم.
( وقول الله تعالى) بالجرّ عطفًا على سابقه ( { ولا تحسبن} ) يا محمد ( { الله غافلاً عما يعمل الظالمون} ) أي لا تحسبه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنيعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعدّه عدًّا، فالمراد تثبيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو هو خطاب لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً لجهله بصفاته تعالى، وعن ابن عيينة تسلية للمظلوم وتهديدًا للظالم ( { إنما يؤخرهم} ) يؤخر عذابهم ( { ليوم تشخص فيه الأبصار} ) أي تشخص فيه أبصارهم فلا تقرّ في أماكنها من شدة الأهوال، ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى المحشر فقال: ( { مهطعين مقنعي رؤوسهم} ) [إبراهيم: 43] أي رافعي رؤوسهم ( المقنع) بالنون والعين ( والمقمح) بالميم والحاء المهملة معناهما ( واحد) وهو رفع الرأس فيما أخرجه الفريابي عن مجاهد وهو تفسير أكثر أهل اللغة، وسقط قوله المقنع إلى آخره في رواية غير المستملي والكشميهني وزاد أبو ذر هنا.


باب قِصَاصِ الْمَظَالِمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: { مُهْطِعِينَ} مُدِيمِي النَّظَرِ.
وَيُقَالُ مُسْرِعِينَ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.
{ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} يَعْنِي جُوفًا لاَ عُقُولَ لَهُمْ { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} .

( باب قصاص المظالم) أي يوم القيامة وسقط التبويب والترجمة هنا لأبي ذر وثبتا عنده بعد قوله المقنع والقمح واحد وسقطت الواو من قوله وقال مجاهد.
( وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي أيضًا ( مهطعين) أي ( مديمي النظر) لا يطرفون هيبة وخوفًا وسقط وقال لأبي ذر، ولأبوي ذر والوت: مدمني النظر.
( ويقال: مسرعين) أي إلى الداعي كما قال تعالى: { مهطعين إلى الداع} [القمر: 8] وهذا تفسير أبي عبيدة في المجاز ( { لا يرتد إليهم طرفهم} ) بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم ( { وأفئدتهم هواء} يعني جوفًا) بضم الجيم وسكون الواو خاوية خالية ( لا عقول لهم) لفرط الحيرة والدهشة وهو تشبيه محض لأنها ليست بهواء حقيقة، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فراغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة ( { وأنذر الناس} ) يا محمد ( { يوم يأتيهم العذاب} ) يعني يوم القيامة أو يوم الموت فإنه أول يوم عذابهم وهو مفعول ثانٍ لأنذر ولا يجوز أن يكون ظرفًا لأن القيامة ليست بموطن الإنذار ( { فيقول الذين ظلموا} ) بالشر والتكذيب ( { ربنا أخّرنا إلى أجل قريب} ) أخّر العذاب وردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه ( { نجب دعوتك ونتبع الرسل} ) جواب للأمر ونظيره قوله تعالى: { لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصدّق} [المنافقون: 10] ( { أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال} ) على إرادة القول وفيه وجهان أن يقولوا ذلك بطرًا وأشرًّا ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديدًا وأمهلوا بعيدًا وقوله { ما لكم} جواب القسم وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله أقسمتم، ولو حكي لفظ المقسمين لقيل ما لنا من زوال، والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء وقيل لا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرهم بالبعث لقوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38] قاله الزمخشري.

( { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} ) بالكفر والمعاصي كعاد وثمود ( { وتبين لكم كيف فعلنا بهم} ) بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم ( { وضربنا

لكم الأمثال}
)
من أحوالهم أي بيّنّا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة ( { وقد مكروا مكرهم} ) أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل ( { وعند الله مكرهم} ) ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه أو عنده ما يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه ( { وإن كان مكرهم} ) في العظم والشدة ( { لتزول منه الجبال} ) مسوّى لإزالة الجبال معدًّا لذلك وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتًا وتمكّنًا، وتنصره قراءة ابن مسعود: وما كان مكرهم وقرئ لتزول بلام الابتداء على معنى وإن كان مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع عن أماكنها ( { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} ) [إبراهيم: 47] يعني قوله إنّا لننصر رسلنا كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني على الأول إيذانًا بأنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله: { إن الله لا يخلف الميعاد} [آل عمران: 9] وإذا لم يخلف وعده أحدًا فكيف يخلف رسله ( { إن الله عزيز} ) غالب لا يماكر قادر لا يدافع ( { ذو انتقام} ) لأوليائه من أعدائه كما مرّ ولفظ رواية أبي ذر { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} إلى قوله: { إن الله عزيز ذو انتقام} وعنده بعد قوله: { وأنذر الناس} الآية.


[ قــ :2335 ... غــ : 2440 ]
- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ، لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا».

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ.
[الحديث 2440 - طرفه في: 6535] .

وبه قال: ( حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) هو ابن راهويه قال: ( أخبرنا معاذ بن هشام) البصري قال: ( حدّثني) بالإفراد ( أبي) هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ( عن قتادة) بن دعامة بن قتادة الدوسي البصري الأكمه أحد الأعلام ( عن أبي المتوكل) علي بن دؤاد بدال مضمومة بعدها واو بهمزة ( الناجي) بالنون والجيم ( عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( إذا خلص المؤمنون) نجوا ( من) الصراط المضروب على ( النار حبسوا بقنطرة) كائنة ( بين الجنة و) الصراط الذي على متن ( النار فيتقاصون) بالصاد المهملة المشدّدة المضمومة من القصاص، والمراد به تتبع ما بينهم من المظالم وإسقاط بعضها ببعض، وللكشميهني: فيتقاضون بالضاد المعجمة المفتوحة
المخففة ( مظالم كانت بينهم في الدنيا) من أنواع المظالم المتعلقة بالأبدان والأموال فيتقاصون بالحسنات والسيئات، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته ولا يدخل أحد الجنة ولأحد عليه تباعة ( حتى إذا نُقوا) بضم النون والقاف المشددة مبنيًّا للمفعول من التنقية، ولأبي ذر عن المستملي: تقصوا بفتح المثناة الفوقية والقاف وتشديد الصاد المهملة المفتوحة أي أكملوا التقاص ( وهذبوا) بضم الهاء وتشديد الذال المعجمة المكسورة أي خلصوا من الآثام بمقاصصة بعضها ببعض ( أذن لهم بدخول الجنة) بضم الهمزة وكسر المعجمة ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقي لكل واحد من الحسنات ( فو) الله ( الذي نفس محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده) استعارة لنور قدرته ( لأحدهم) بالرفع مبتدأ وفتح اللام للتأكيد ( بمسكنه في الجنة) وخبر المبتدأ قوله ( أدل) بالدال المهملة ( بمنزله) وللحموي والمستملي: بمسكنه ( كان في الدنيا) وإنما كان أدل لأنهم عرفوا مساكنهم بتعريضها عليهم بالغداة والعشي.

وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الرقاق.

( وقال يونس بن محمد) المؤدب البغدادي فيما وصله ابن منده في كتاب الإيمان قال: ( حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن التيمي مولاهم النحوي البصري نزيل الكوفة يقال إنه منسوب إلى نحوة بطن من الأزد لا إلى علم النحو ( عن قتادة) بن دعامة قال: ( حدّثنا أبو المتوكل) هو الناجي وغرض المؤلّف بسياق هذا التعليق تصريح قتادة بالتحديث عن أبي المتوكل.