فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل العمل في أيام التشريق

باب فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات}: أَيَّامُ الْعَشْرِ.
وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ.

(باب فضل العمل في أيام التشريق) الثلاثة بعد يوم النحر، أو: هو منها عملاً بسبب التسمية به، لأن لحوم الأضاحي كانت تشرك فيها بمنى، أيّ تقدد، ويبزر بها للشمس.

أو: أنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر، لأنها إنما تصلّي بعد أن تشرق الشمس، فصارت تبعًا ليوم النحر.

أو: من قول الجاهلية:
أشرق ثبير كيما نغير
أي ندفع فننحر.

وحينئذ فإخراجهم يوم النحر منها إنما هو لشهرته بلقب خاص، وهو: يوم العيد، وإلاّ فهي في الحقيقة تبع له في التسمية.

وقد روى أبو عبيد، من مرسل الشعبي، بسند رجاله ثقات: "من ذبح قبل التشريق فليعد".
أي: قبل صلاة العيد.
لكن مقتضى كلام الفقهاء واللغويين: أنها غيره، والله تعالى أعلم.

(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما، مما وصله عبد بن حميد في تفسيره (واذكروا {الله في أيام معلومات}) [الحج: 28] باللام هي: (أيام العشر) الأول من ذي الحجة.

قال: (والأيام المعدودات) بالدال: هي (أيام التشريق) الثلاثة: الحادي عشر من ذي الحجة: يوم القرّ بفتح القاف، لأن الحجاج يقرّون فيه بمنى، والثاني عشر، والثالث عشر: المسمّيان بالنفر الأول لجواز النفر فيه لمن تعجل، والنفر الثاني.

ويقال لها: أيام منى، لأن الحجاج يقيمون فيها بمنى.
وهذا، أي قوله: واذكروا {الله في أيام معلومات} باللام، رواية كريمة وابن شبويه، وهي خلاف التلاوة، لأنها في سورة البقرة: معدودات بالدال، ولأبي ذر، عن الحموي والمستملي {واذكروا الله في أيام معدودات) بالدال، وهي مخالفة للتلاوة أيضًا، لأنها، وإن كانت موافقة لآية البقرة في {معدودات} بالدال لكنها مخالفة لها من حيث التعبير بفعل الأمر، موافقة لآية الحج في التعبير بالمضارع، لكن تلك: أي: آية الحج، {معلومات} باللام مع إثبات: اسم، في قوله: {ويذكروا اسم الله} ولأبي ذر أيضًا، عن

الكشميهني، مما في الفتح والعمدة {ويذكروا الله في أيام معلومات} باللام بلفظ سورة الحج، لكنه حذف لفظ: اسم.

وبالجملة فليس في هذه الروايات الثلاثة ما يوافق التلاوة، ومن ثم استشكلت.

وأجيب: بأنه لم يقصد بها التلاوة، وإنما حكي كلام ابن عباس.
وابن عباس إنما أراد تفسير المعدودات والمعلومات.

نعم، في فرع اليونينية، مما رقم له بعلامة أبي ذر، عن الكشميهني: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} باللام، وهذا موافق لما في الحج.

(وكان ابن عمر) بن الخطاب (وأبو هريرة) رضي الله عنهم، مما ذكره البغوي والبيهقي معلقًا عنهما، (يخرجان إلى السوق في أيام العشر) الأول من ذي الحجة (يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما).

قال البرماوي كالكرماني: هذا لا يناسب الترجمة، إلا أن المصنف، رحمه الله كثيرًا ما يضيف إلى الترجمة ما له أدنى ملابسة استطرادًا.

وقال في الفتح: الظاهر أنه أراد تساوي أيام التشريق بأيام العشر، لجامع ما بينهما مما يقع فيهما من أعمال الحج.

(وكبر محمد بن علي) الباقر، فيما وصله الدارقطني في: المؤتلف، عنه في: أيام التشريق بمنى، (خلف النافلة) كالفريضة.
وفي ذلك خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في الباب اللاحق مع غيره.


[ قــ :940 ... غــ : 969 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ».
قَالُوا: وَلاَ الْجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الْجِهَادُ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَىْءٍ».

وبالسند قال: (حدثنا محمد بن عرعرة) بفتح العينين المهملتين، وبالراءين (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران الأعمش، (عن مسلم البطين) بفتح الموحدة وكسر المهملة وسكون التحتية آخره نون، لقب به لعظم بطنه، وهو كوفي (عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس) رضي الله عنهما (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال):
(ما العمل) مبتدأ، يشمل أنواع العبادات: كالصلاة والتكبير، والذكر، والصوم، وغيرها (في أيام) من أيام السنة، وهو متعلق المبتدأ، أو خبره قوله: (أفضل منها) الجار والمجرور متعلق

بأفضل، والضمير عائد إلى العمل، بتقدير الإعمال كما في قوله تعالى {أو الطفل الذين} [النور: 31] كذا قرره البرماوي والزركشي.

وتعقبه المحقق ابن الدماميني فقال: هذا غلط، لأن الطفل يطلق على الواحد والجماعة بلفظ واحد، بخلاف العمل، وزاد فخرّجه على أن يكون الضمير عائدًا إلى العمل، باعتبار إرادة القربة مع عدم تأويله بالجمع، أي:
ما القربة في أيام أفضل منها (في هذا العشر) الأول من ذي الحجة.
كذا في رواية أبي ذر عن الكشميهني بالتصريح: بالعشر، وكذا عند أحمد، عن غندر، عن شعبة بالإسناد المذكور.
بل في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ: عشر الحجة.

وممن صرّح بالعشر أيضًا ابن ماجة، وابن حبان، وأبو عوانة.

ولكريمة عن الكشميهني: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه".
بتأنيث الضمير مع إبهام الأيام.
وفسرها بعض الشارحين بأيام التشريق لكون المؤلّف ترجم لها، وهو يقتضي نفي أفضلية العمل في أيام العشر على أيام التشريق.

ووجهه صاحب بهجة النفوس: بأن أيام التشريق أيام غفلة، والعبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها، كمن قام في جوف الليل وأكثر الناس نيام، وبأنه وقع فيها محنة الخليل بولده عليهما الصلاة والسلام، ثم منّ عليه بالفداء.

وهو معارض بالنقول كما قاله في الفتح: فالعمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها من أيام الدنيا من غير استثناء شيء.
وعلى هذا فرواية كريمة شاذة لمخالفتها رواية أبي ذر، وهو من الحفاظ عن شيخهما الكشميهني، لكن يعكر عليه ترجمة المؤلّف: بأيام التشريق.

وأجيب: باشتراكهما في أصل الفضيلة لوقوع أعمال الحج فيهما، ومن ثم اشتركا في مشروعية التكبير.

وفي رواية أبي الوقت، والأصيلي وابن عساكر: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه".
بتأنيث الضمير، وهي ظرف مستقر، حال من الضمير المجرور "بمن" وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في أيام غيره من السنة، لزم منه أن تكون أيام العشر أفضل من غيرها من أيام السنة، حتى يوم الجمعة منه أفضل منه في غيره، لجمعه الفضيلتين.

وخرج البزار وغيره، عن جابر مرفوعًا: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر".
وفي حديث عند ابن عمر المروي "ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر".
وهو يدل على أن أيام العشر أفضل من يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام، وأيضًا فأيام العشر تشتمل على يوم عرفة وقد روي: أنه أفضل أيام الدنيا، والأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعًا، وقد أقسم الله تعالى بها، فقال:

{وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2] وقد زعم بعضهم: أن ليالي عشر رمضان: أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر.

قال الحافظ ابن رجب: وهذا بعيد جدًّا، ولو صح حديث أبي هريرة، المروي في الترمذي: "قيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر".
لكان صريحًا في تفضيل لياليه على ليالي عشر رمضان، فإن عشر رمضان فضل بليلة واحدة، وهذا جمع لياليه متساوية.

والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين من العلماء: إن مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها.
انتهى.

واستدلّ به على فضل صيام عشر الحجة لاندراج الصوم في العمل، وعورض بتحريم صوم يوم العيد.

وأجيب: بحمله على الغالب، ولا ريب أن صيام رمضان أفضل من صوم العشر، لأن فعل الفرض أفضل من النفل من غير تردّد، وعلى هذا فكل ما فعل من فرض في العشر فهو أفضل من فرض فعل في غيره، وكذا النفل.

(قالوا): يا رسول الله (ولا الجهاد)؟ أفضل منه، وزاد أبو ذر: في سبيل الله (قال) عليه الصلاة والسلام.

(ولا الجهاد) في سبيل الله، ثم استثنى جهادًا واحدًا هو أفضل الجهاد فقال: (إلا رجل خرج) أي: إلا عمل رجل.
فهو مرفوع على البدل، والاستثناء متصل، وقيل: منقطع أي: لكن رجل خرج يخاطر بنفسه فهو أفضل من غيره أو مساوٍ له.

وتعقبه في المصابيح بأنه: إنما يستقيم على اللغة التميمية، وإلا فالمنقطع عند غيرهم واجب النصب.

ولأبي ذر، عن المستملي: إلا من خرج حال كونه (يخاطر) من المخاطرة، وهي ارتكاب ما فيه خطر (بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء) من ماله، وإن رجع هو أو لم يرجع هو ولا ماله، بأن ذهب ماله واستشهد.
كذا قرره ابن بطال.

وتعقبه الزين بن المنير بأن قوله فلم يرجع بشيء، يستلزم أنه يرجع بنفسه ولا بد.

وأجيب: بأن قوله: "فلم يرجع بشيء" نكرة في سياق النفي فتعمّ ما ذكره.

وعند أبي عوانة من طريق إبراهيم بن حميد عن شعبة: إلا من عقر جواده، وأهريق دمه وعنده، من رواية القاسم بن أيوب: إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله.


وفي هذا الحديث أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره.

ورواته كوفيون إلا شيخه فبصري، والثاني بسطامي، وفيه التحديث، والعنعنة، وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة: في الصيام، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.