فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله

باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَولُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12] .

هذا ( باب) بالتنوين ( أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) ولغير الكشميهني مجاهد بالميم صفة لمؤمن.
( وقوله تعالى) : بالرفع عطفًا على أفضل ( { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} ) استفهام في اللفظ إيجاب في المعنى ( { تنجيكم} ) تخلصكم ( { من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} ) استئناف مبين للتجارة وهو الأجمع بين الإيمان والجهاد والمراد به الأمر وإنما جيء به بلفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال كأنها وجدت وحصلت ( { ذلكم} ) أي ما ذر من الإيمان والجهاد ( { خير لكم} ) في أنفسكم وأموالكم ( { إن كنتم تعلمون} ) العلم ( { يغفر لكم ذنوبكم} ) جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر قال القاضي: ويبعد جعله جوابًا لهل أدلكم لأن مجرد دلالته لا يوجب المغفرة ( { ويدخلكم} ) عطف على يغفر لكم ( { جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك} ) ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة ( { الفوز العظيم} ) [الصف: 10 - 12] .
وفي نسخة بعد قوله من { عذاب أليم} إلى { الفوز العظيم} .


[ قــ :2659 ... غــ : 2786 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ.
قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ".
[الحديث 2786 - طرفه في: 6494] .

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه ( قال: حدّثني) بالإفراد ( عطاء بن يزيد) من الزيادة ( الليثي) بالمثلثة ( أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- حدّثه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل) ؟ قال في الفتح: لم أقف على اسم السائل، وقد سبق أن أبا ذر سأل عن نحو ذلك، وللحاكم: أي الناس أكمل إيمانًا؟ ( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( مؤمن) أي أفضل الناس مؤمن ( يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) .
لما فيه من بذلهما لله مع
النفع المتعدي، وعند النسائي: إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن
التبعيضية وذلك يقوي قول من قال أن قوله مؤمن يجاهد المقدّر بقوله أفضل الناس مؤمن يجاهد عام
مخصوص وتقديره من أفضل الناس لأن العلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسُّنن وقادوهم إلى
الخير أفضل وكذا الصديقون.
( قالوا: ثم من) ؟ يلي المؤمن المجاهد في الفضل ( قال) : عليه الصلاة
والسلام ( مؤمن) أي ثم يليه مؤمن ( في شعب من الشعاب) بكسر الشين المعجمة وسكون العين
المهملة في الأول وفتحها في الثاني آخره موحدة هو ما انفرج بين الجبلين وليس بقيد بل على سبيل
المثال.
والغالب على الشعاب الخلوّ عن الناس فلذا مثل بها للعزلة والانفراد فكل مكان يبعد عن
الناس فهو داخل في هذا المعنى كالمساجد والبيوت ولمسلم من طريق معمر عن الزهري: رجل
معتزل ( يتقي الله ويدع الناس من شره) وفيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من الغيبة واللغو
ونحوهما وهو مقيد بوقوع الفتنة.

وفي حديث بعجة بفتح الموحدة والجيم بينهما عين مهملة ساكنة ابن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويدع الناس إلا من خير".
رواه مسلم وابن حبان.

وروى البيهقي في الزهد عن أبي هريرة مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من هرب بدينه من شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بسخط الله فإذا كان ذلك كذلك كان هلاك الرجل على يد زوجته وولده فإن لم يكن له زوجة ولا ولد كان هلاكه على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يد قرابته أو الجيران".
قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "يعيرونه بضيق المعيشة فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها نفسه".
أما عند عدم الفتنة فمذهب الجمهور أن الاختلاط أفضل لحديث الترمذي: المؤمن الذي يخال الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخال الناس ولا يصبر على أذاهم.

وحديث الباب أخرجه البخاري أيضًا في الرقاق، ومسلم وأبو داود في الجهاد، وابن ماجه في الفتن.




[ قــ :660 ... غــ : 787 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.
وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ».

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي هريرة ( عن الزهري) محمد بن مسلم أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( سعيد بن المسيب أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- ( قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) : ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قال:
( مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) أي الله أعلم بعقد نيّته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا والجملة معترضة بين قوله مثل المجاهد في سبيل الله وبين قوله: ( -كمثل الصائم) نهاره ( القائم-) ليله، وزاد مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة: "كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة" وزاد النسائي من هذا الوجه: "الخاشع الراكع الساجد" ومثله بالصائم لأن الصائم ممسك لنفسه عن الأكل والشرب واللذات، وكذلك المجاهد ممسلك لنفسه على محاربة العدوّ وحابس نفسه على من يقاتله وكما أن الصائم القائم الذي لا يفتر ساعة من العبادة مستمرًّا الأجر كذلك المجاهد لا يضيع ساعة من ساعاته بغير أجر.
قال تعالى: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة} إلى قوله: { إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 10] .

( وتوكل الله) أي تكفل الله تعالى على وجه الفضل منه ( للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة) أي بتوفيه بدخوله الجنة في الحال بغير حساب ولا عذاب كما ورد: إن أرواح الشهداء تسرح في الجنة ( أو يرجعه) بفتح أوّله أي أو أن يرجعه إلى مسكنه حال كونه ( سالمًا مع أجر) وحده ( أو غنيمة) مع أجر وحذف الأجر من الثاني للعلم به إذ لا يخلو المجاهد عنه فالقضية مانعة الخلو لا مانعة الجمع أو لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بدون الغنيمة إذ القواعد تقتضي بأنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها.
وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلاّ تعجلوا ثلثي أجرهم ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" فهذا صريح ببقاء بعض الأجر مع حصول الغنيمة فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من ثواب الغزو.

وفي التعبير بثلثي الأجر حكمة لطيفة، وذلك أن الله تعالى أعدّ للمجاهد ثلاث كرامات:
دنيويتان وأُخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة، والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له ثلثا ما أعدّ الله له وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوّضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته، وليس المراد ظاهر حديث الباب أنه إذا غنم لا يحصل له أجر، وقيل إن أو بمعنى الواو وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي في شرحه للمصابيح والتقدير بأجر وغنيمة، وكذا رواه مسلم بالواو وفي بعض رواياته، ورواه الفريابي وجماعة عن يحيى بن يحيى بصيغة أو، وكذا مالك في موطئه ولم يختلف عليه إلا في رواية يحيى بن بكير عنه بالواو، ولكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال وكذا وقع عند النسائي وأبي داود بإسناد صحيح، فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين القول بأن "أو" في هذا الحديث بمعنى "الواو" كما هو مذهب نحاة الكوفة، لكن استشكله ابن دقيق العيد من حيث أنه إذا كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين كان ذلك داخلاً في الضمان فيقتضي أنه لا بدّ من حصول الأمرين لهذا المجاهد وقد لا يتفق له ذلك فما فرّ منه الذي ادّعى أن "أو" بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه يلزم على ظاهرها أن من رجع بغنيمة رجع بغير أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو وأن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معًا.

وأجاب في المصابيح: بأنه إنما يرد الإشكال إذا كان القائل بأنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة إلى آخره، وأما إن سكت عن هذا التفسير فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن يكون التقدير أو يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مرّ والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة، وإن حصلت فلا لم يرد الإشكال المذكور عليه لاحتمال أن يكون تنكير الأجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا يحصل له ذلك الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه النسائي في الجهاد أيضًا.