فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل مكة وبنيانها

باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا، وقوله تعالى: [البقرة: 125 - 128] {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

( باب) بيان ( فضل مكة) زادها الله تعالى شرفًا ورزقنا العود إليها على أحسن حال بمنه وكرمه ( و) في ( بنيانها) ، أي الكعبة ( وقوله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه أي في بيان تفسير قوله تعالى: ( {وإذ جعلنا البيت}) أي الكعبة ( {مثابة للناس}) من ثاب القوم إلى الموضع إذا رجعوا إليه.
أي: جعلنا البيت مرجعًا ومعاذًا يأتونه كل عام ويرجعون إليه فلا يقضون منه وطرًا، أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماده ( {وأمنًا}) من المشركين أبدًا فإنهم لا يتعرضون لأهل مكة ويتعرضون لمن حولها، أولاً يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقيل: يأمن الحاج من عذاب الآخرة من حيث أن الحج يجب ما قبله ( {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى}) مقام إبراهيم الحجر المعروف أو المسجد الحرام أو الحرم أو مشاعر الحج.
وقد صح أن عمر قال: يا رسول الله هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: "نعم".
قال: أفلا نتخذه مصلّى: فأنزله الله ( {واتخذوا}) الخ.
وهو عطف على
اذكروا نعمتي أو على معنى مثابة أي ثوبوا إليه واتخذوا أو مقدّر بقلنا أي: وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة أو مدعى والأمر للاستحباب بالاتفاق ( {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أمرناهما ( {أن طهّرا بيتي}) أي: بأن طهرا وهو بمعنى الوحي عدّى بإلى يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به وأخلصاه ( {للطائفين}) حوله ( {والعاكفين}) المقيمين عنده أو المعتكفين فيه ( {والركع السجود}) جمع راكع وساجد أي المصلين، واستدلّ به على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت خلافًا لمالك رحمه الله في الفرض.
( {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا}) البلد أو المكان ( {بلدًا آمنًا}) أي ذا أمن كقوله تعالى: {في عيشة راضية} [الحاقة: 21 والقارعة: 7] وآمنًا أهله كقولك: ليل نائم ( {وارزق

أهله من الثمرات})
فاستجاب الله دعاءه بأن بعث الله تعالى جبريل عليه الصلاة والمسلام حتى اقتلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة فسميت الطائف قاله المفسرون ( {من آمن منهم بالله واليوم الآخر}) أبدل من آمن من أهله بدل البعض للتخصيص.
( {قال ومن كفر}) عطف على من آمن وهو من كلام الله تعالى نبه الله سبحانه أن الرزق عام دنيوي يعم المؤمن والكافر لا الإمامة والتقدم في الدين أو مبتدأ تضمن معنى الشرط ( {فأمتعه قليلاً) خبره، وقليلاً: نصب بالمصدر والكفر، وإن لم يكن سبب التمتع لكنه سبب تقليله بأن يجعله مقصورًا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب ولذلك عطف عليه ( {ثم أَضطّره إلى عذاب النارو}) أي ألجئه إليه ( {وبئس المصير}) .
أي العذاب.
فحذف المخصوص بالذم ( {وإذ يرفع إبراهيم القواعد}) الأساس ( {من البيت}) ورفعها البناء عليها وظاهره أنه كان مؤسسًا قبل إبراهيم، ويحتمل أن يكون المواد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت ( {وإسماعيل}) ، كان يناوله الحجارة يقولان ( {ربنا تقبل منا}) بناء البيت ( {إنك أنت السميع}) .
لدعائنا ( {العليم}) بنياتنا ( {ربنا واجعلنا مسلمين لك}) مخلصين لك منقادين ( {ومن ذريتنا}) أي واجعل بعض ذريتنا ( {أمة}) جماعة ( {مسلمة لك}) خاضعة مخلصة، وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا بهم الأتباع، وخصا بعضهم لما أعلما في ذريتهما ظلمة وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله فإنه مما يشوّش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا قاله القاضي: ( {وأرنا}) قال البيضاوي: من رأى بمعنى أبصر أو عرف ولذلك بتجاوز مفعولين.
وقال أبو حيان: أي تصرنا إن كانت من رأي البصرية، والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد، وإن كانت من رؤية القلب فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين، فإذا دخلت عليها همزة النقل تعدّت إلى ثلاثة وليس هنا إلا اثنان فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين، وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب وشرحها بقوله: عرف فهي عنده تأتي بمعنى عرف أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب اهـ.

( {مناسكنا}) متعبداتنا في الحج أو مذابحنا.
وروى عبد بن حميد عن أبي مجلز قال، لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل فأراه الطواف بالبيت سبعًا قال: وأحسبه بين الصفا والمروة ثم أتى به عرفة فقال" أعرفت؟ قال: نعم، قال: فمن ثم سميت عرفات ثم أتى به جميعًا فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة، ثم أتى به منى فعرض لهما الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات فقال: أرمه بها وكبّر مع كل حصاة ( {وتب علينا}) ، استتابة لذريتهما لأنهما معصومان أو عما فرط منهما سهوًا، ولعلهما قالاه هضمًا لأنفسهما وإرشادًا لذريتهما ( {إنك أنت التواب الرحيم}) [البقرة: الآيات: 125 - 126 - 127 - 128] لمن تاب.
وهذه أربع آيات ساقها المصنف كلها كما هو في رواية كريمة، وللباقين بعض الآية الأولى، ولأبي ذر كلها ثم قال: إلى قوله التواب الرحيم.


[ قــ :1517 ... غــ : 1582 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي

عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَرِنِي إِزَارِي، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ".

وبالسند قال: ( حدّثنا) بالجمع ولأبوي ذر والوقت: حدثني ( عبد الله بن محمد) المسندي الجعفي قال: ( حدثنا أبو عاصم) النبيل هو أحد شيوخ المؤلّف أخرج عنه في غير موضع بواسطة ( قال: أخبرني) بالإفراد ( ابن جريج) بضم الجيم الأولى وفتح الراء عبد الملك بن عبد العزيز ( قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا ( عمرو بن دينار) بفتح العين ( قال: سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري ( -رضي الله عنهما- يقول) : ولغير الكشميهني قال: ( لما بنيت الكعبة) قبل المبعث بخمس سنين وكانت قريش خافت أن تنهدم من السيول، وقد اختلف في عدد بنائها والذي تحصل من ذلك أنها بنيت عشر مرات: بناء الملائكة قبل خلق آدم وذلك لما قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] الآية خافوا وحافوا بالعرش ثم أمرهم الله تعالى أن يبنوا في كل سماء بيتًا وفي كل أرض بيتًا.
قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتًا، وقد روي أن الملائكة حين أسست الكعبة انشقت الأرض إلى منتهاها وقذفت فيها حجارة أمثال الإبل فتلك القواعد من البيت التي وضع عليها إبراهيم وإسماعيل.

ثم بناء آدم عليه الصلاة والسلام رواه البيهقي في دلائل النبوّة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا من طريق ابن لهيعة وفيه أنه قيل له: أنت أوّل الناس وهذا أوّل بيت وضع للناس، لكن قال ابن كثير: أنه من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف، والأشبه أن يكون موقوفًا على عبد الله.

ثم بناء بني آدم من بعده بالطين والحجرة فلم يزل معمورًا يعمرونه هم ومن بعدهم حتى كان زمن نوح فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بوّئ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فبناه كما هو ثابت بنص القرآن، وجزم الحافظ، بن كثير بأنه أوّل من بناه وقال: لم يجيء خبر عن معصوم أنه كان مبنيًّا قبل الخليل وقد كان المبلغ له ببنائه عن الملك الجليل جبريل فمن ثم قيل: ليس ثم في هذا العالم بناء أشرف من الكعبة لأن الآمر ببنائها الملك الجليل والمبلغ والمهندس جبريل، والباني الخليل، والتلميذ إسماعيل.

ثم بناء العمالقة، ثم جرهم رواه الفاكهي بسنده عن عليّ وذكر المسعودي أن الذي بناه من جرهم هو الحرث بن مضاض الأصغر، ثم بناء قصي بن كلاب كما ذكر الزبير بن بكار، ثم بناء قريش وحضره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعًا، وقيل عشرين ونقصوا من طولها ومن عرضها لضيق النفقة بهم، ثم بناء عبد الله بن الزبير وسببه توهين الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير بمكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة لمعاندة يزيد بن معاوية فهدمها حتى بلغت الأرض يوم السبت منتصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وبناها على قواعد
إبراهيم وأدخل فيها ما أخرجته منها قريش في الحجر فجعل لها بابين لاصقين بالأرض أحدهما بابها الموجود الآن والآخر المقابل له المسدود، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد وفرغ منها في سنة خمس وستين كما ذكره المسبحي العاشر بناء الحجاج، وكان بناؤه للجدار الذي من جهة الحجر بسكون الجيم والباب الغربي المسدود عند الركن اليماني وما تحت الباب الشرقي وهو أربعة أذرع وشبر على ما ذكره الأزرقي، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير، واستمر بناء الحجاج إلى الآن وقد أراد الرشيد أو أبوه أو جدّه أن يعيده على ما فعله ابن الزبير فناشده مالك في ذلك وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك فتركه، ولم يتفق لأحد من الخلفاء ولا غيرهم تغيير شيء مما صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته، وكذا وقع الترميم في الجدار الذي بناه الحجاج غير مرة وفي السقف وفي سلم السطح وجدّد فيها الرخام، وأوّل من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك فيما قاله ابن جريج وهذا الحديث مرسل لأن جابرًا لم يدرك بناء قريش، لكن يحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو ممن حضره من الصحابة.
وقد روى الطبراني وأبو نعيم في الدلائل من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير قال: سألت جابرًا هل يقوم الرجل عريانًا فقال: أخبرني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما انهدمت الكعبة الحديث.
لكن ابن لهيعة ضعيف، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان عن أبي الزبير ذكره أبو نعيم فإن كان محفوظًا وإلا فقد حضره من الصحابة العباس فلعل جابرًا حمله عنه قاله في الفتح وجواب لما قوله:
( ذهب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعباس) عمه ( ينقلان الحجارة) على أعناقهما ( فقال العباس للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجعل إزارك على رقبتك) أي لتقوى به على حمل الحجارة ففعل عليه الصلاة والسلام ذلك ( فخر) أي وقع ( إلى الأرض وطمحت) بالواو والطاء المهملة والميم والحاء المهملة المفتوحات ولأبي ذر: فطمحت بالفاء ( عيناه) أي شخصتا وارتفعتا ( إلى السماء) والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق.
قال ابن المنير: فيه دليل على أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان متعبدًا قبل البعثة بالفروع التي بقيت محفوظة كستر العورة، لأن سقوطه إلى الأرض عند سقوط الإزار خشية من عدم الستر في تلك اللحظة اهـ.

وهذا يردّه ما في الدلائل للبيهقي عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه قال: لما بنت قريش انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخ ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا.
قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوّته.
وفي التهذيب للطبراني: إني لمع غلمان هم أسناني قد جمعنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك.
وعند السهيلي في خبر آخر لما سقط ضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودي من السماء أن اشدد إزارك يا محمد.
وفي رواية أن الملك نزل فشدّ عليه إزاره فوضح أن استتاره لم يكن مستند إلى شرع متقدم ( فقال:) عليه الصلاة والسلام لعمه العباس

( أرني) بكسر الراء وسكونها أي أعطني ( إزاري) لأن الإراءة من لازمها الإعطاء فأعطاه فأخذ ( فشده عليه) زاد زكريا بن إسحاق في روايته السابقة في باب كراهية التعري في أوائل الصلاة فما رئي بعد ذلك عريانًا.

وفي هذا الحديث التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالإفراد والسماع والقول، ورواته ما بين بخاري وبصري ومكّي، وأخرجه أيضًا في بنيان الكعبة ومسلم في الطهارة.




[ قــ :1518 ... غــ : 1583 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنهم- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا: أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ"
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ -رضي الله عنه-: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.

وبه قال ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي ( عن مالك) الإمام ( عن ابن شهاب) الزهري ( عن سالم بن عبد الله) بن عمر ( أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر) الصديق ( أخبره) أباه ( عبد الله بن عمر) بن الخطاب بنصب عبد الله على المفعولية والفاعل مضمر ( عن عائشة) متعلق بأخبر ( -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها) :
( ألم تري) مجزوم بحذف النون أي ألم تعرفي ( أن قومك) قريشًا ( لما) ولأبوي ذر والوقت: حين ( بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم) ( فقلت: يا رسول الله ألا تردّها على قواعد إبراهيم) ؟ جمع قاعدة وهي الأساس ( قال) عليه الصلاة والسلام: ( لولا حدثان قومك) قريش بكسر الحاء وسكون الدال المهملتين وفتح المثلثة مبتدأ خبره محذوف وجوبًا أي موجود يعني قرب عهدهم ( بالكفر لفعلت) أي لرددتها على قواعد إبراهيم، وفيه دليل على ارتكاب أيسر الضررين دفعًا لأكبرهما، لأن قصور البيت أيسر من افتتان طائفة من المسلمين ورجوعهم عن دينهم ( فقال عبد الله) بن عمر ( -رضي الله عنه-) وعن أبيه بالإسناد المذكور: ( لئن كانت عائشة -رضي الله عنها- سمعت هذا من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ليس شكًا في قولها ولا تضعيفًا لحديثها فإنها الحافظة المتقنة، لكنه جرى على ما يعتاد في كلام العرب من الترديد للتقرير واليقين كقوله تعالى: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] ( ما أرى) بضم الهمزة ما أظن ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر) بسكون الجيم أي يقربان منه وزاد معمر ولا طاف الناس من وراء الحجر ( إلا أن البيت) الكعبة ( لم يتمم) ما نقص منه وهو الركن الذي كان في الأصل ( على قواعد إبراهيم) عليه السلام، فالموجود الآن في جهة

الحجر بعض الجدار الذي بنته قريش فلذلك لم يستلمهما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلو استلمهما أو غيرهما من البيت أو قبل ذلك لم يكره ولا هو خلاف الأولى بل هو حسن لما في الاستقصاء عن الشافعي أنه قال: وأي البيت قبل فحسن غير أنا نأمر بالاتباع اهـ.

قال أبو عبد الله الأبي: وهذا الذي قاله ابن عمر من فقهه ومن تعليل العدم بالعدم علل عدم الاستلام بعدم أنهما من البيت.

وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في أحاديث الأنبياء وفي التفسير، ومسلم في الحج والنسائي فيه وفى العلم وفي التفسير.




[ قــ :1519 ... غــ : 1584 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ.
قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ".

وبه قال: ( حدّثنا مسدد) قال: ( حدّثنا أبو الأحوص) بفتح الهمزة وسكون الحاء آخره صاد مهملتين بينهما واو مفتوحة سلام بن سليم الجعفي قال: ( حدّثنا أشعث) بهمزة مفتوحة فمعجمة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فمثلثة ابن أبي الشعثاء المحاربي ( عن الأسود بن يزيد) من الزيادة ( عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الجدر) بفتح الجيم وسكون الدال المهملة، ولأبي ذر عن المستملي: عن الجدار بكسر ثم فتح فألف ( أمن البيت هو) ؟ بهمزة الاستفهام ( قال:) عليه الصلاة والسلام ( نعم) هو منه لما فيه من أصول حائطه وظاهره أن الحجر كله من البيت، وبذلك كان يفتي ابن عباس.
وقد روى عبد الرزاق عنه أنه قال: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت فلم يطاف به إن لم يكن من البيت، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آخر الطريق الرابعة لحديث عائشة هذا قول يزيد بن رومان الذي رواه عن عكرمة أنه أراه لجرير بن حازم فحرره ستة أذرع أو نحوها مع زيادة من فرائد الفوائد.

قالت عائشة: ( قلت) : أي لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال) ( إن قومك) قريشًا ( قصرت) بتشديد الصاد المفتوحة، ولأبي ذر: قصرت بتخفيفها مضمومة ( بهم النفقة) : أي لم يتسعوا لإتمامه لقلة ذات يدهم.
وقال في فتح الباري: أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي، ويوضحه ما ذكره ابن إسحاق في السيرة أن أبا وهب بن عائذ بن عمران بن

مخزوم قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبًا ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس اهـ.

قالت عائشة: ( قلت فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال) عليه الصلاة والسلام ( فعل ذلك قومك) بكسر الكاف فيهما لأن الخطاب لعائشة ( ليدخلوا من شاؤوا) ولأبي ذر عن المستملي: يدخلوها بغير لام وزيادة الضمير ( ويمنعوا من شاءوا) زاد مسلم: فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، ( ولولا أن قومك حديث) بالتنوين ( عهدهم بالجاهلية) برفع عهدهم على الفاعلية، ولأبي ذر عن الكشميهني: بجاهلية منكرًا، وسبق في العلم من طريق الأسود حديث عهد بكفر، ولأبي عوانة من طريق عبادة عن عروة عن عائشة: حديث عهد بشرك ( فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر) أي يخاف إنكار قلوبهم إدخال الجدر ( في البيت) وجواب لولا محذوف أي لفعلت ذلك، وقد رواه مسلم عن سعيد بن منصور عن أبي الأحوص بلفظ: أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل، فأثبت جواب لولا وللإسماعيلي من طريق شيبان عن أشعث ولفظه:
لنظرت فأدخلت ( وأن ألصق بابه بالأرض) فلا يكون مرتفعًا، ونقل ابن بطال عن علمائهم أن النفرة التي خشيها عليه الصلاة والسلام أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم.

وهذا الحديث أخرجه أيضًا مسلم وابن ماجة في الحج.




[ قــ :150 ... غــ : 1585 ]
- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْلاَ حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا".
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: خَلْفًا يَعْنِي بَابًا.

وبه قال: ( حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين وفتح الموحدة لقب عبد الله القرشي الهباري الكوفي غلب عليه وهو من ولد هبار بن الأسود قال: ( حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة ( عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام ( عن عائشة -رضي الله عنها-) .

قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: كذا رواه مسلم من طريق أبي معاوية، والنسائي من طريق عبدة بن سليمان، وأبو عوانة من طريق علي بن مسهر وأحمد عن عبد الله بن نمير كلهم عن هشام، وخالفهم القاسم بن معن فرواه عن هشام عن أبيه عن أخيه عبد الله بن الزبير عن عائشة أخرجه أبو عوانة، ورواية الجماعة أرجح فإن رواية عروة عن عائشة لهذا الحديث مشهورة من غير وجه، فسيأتي في الطريق الرابعة من رواية يزيد بن رومان عنه، وكذا لأبي عوانة من طريق قتادة وأبي النضر كلاهما عن عروة عن عائشة بغير واسطة، ويحتمل أن يكون عروة حمل عن أخيه عن عائشة منه شيئًا زائدًا على روايته عنها كما وقع للأسود بن يزيد مع ابن الزبير فيما تقدم شرحه في كتاب العلم اهـ.


( قالت: قال لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( ولولا حداثة قومك بالكفر) بفتح الحاء والدال المهملتين ثم المثلثة بعد الألف ( لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن قريشًا استقصرت بناءه) اقتصرت على هذا القدر لقصور النفقة عن تمامة ثم عطف المؤلّف على قوله لبنيته قوله: ( وجعلت له) بتاء التكلم فاللام ساكنة.
وقال في التنقيح كالقابسي بفتح اللام وسكون التاء يعني فيكون مسندًا إلى ضمير المؤنث فالتاء ساكنة لأنها تاء التأنيث اللاحقة للفعل، فيكون: وجعلت معطوفًا على استقصرت وهو وهم.
قال: وروي بإسكان اللام وضم التاء اهـ.

وهذا الأخير هو الظاهر لما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ( خلفًا) بسكون اللام بعد فتح الخاء المعجمة وآخره فاء.

( قال: أبو معاوية) محمد بن خازم بالخاء والزاي المعجمتين مما وصله مسلم والنسائي ( حدّثنا هشام) هو ابن عروة ( خلفًا يعني بابًا) من خلفه يقابل هذا الباب المقدم حتى يدخلوا من المقدم ويخرجوا من الذي خلفه، وعلى هذا التفسير يتعين كون جعلت مسندًا إلى ضمير المتكلم وهو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا إلى ضمير يعود إلى قريش كما قاله الزركشي على ما لا يخفى، والتفسير المذكور من قول هشام كما بينه أبو عوانة من طريق علي بن مسهر عن هشام قال: الخلف الباب ولم يقع في رواية مسلم والنسائي هذا التفسير، وأخرجه ابن خزيمة عن أبي كريب عن أبي أسامة، وأدرج التفسير ولفظه: وجعلت له خلفًا يعني بابًا آخر من خلف.




[ قــ :151 ... غــ : 1586 ]
- حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ".
فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما- عَلَى هَدْمِهِ.
قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ.
قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ.
فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: هَا هُنَا.
قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا.

وبالسند قال: ( حدّثنا بيان بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم وبيان بفتح الموحدة وتخفيف التحتية وبعد الألف نون البخاري المتوفى سنة ثنتين وعشرين ومائتين قال: ( حدّثنا يزيد) من الزيادة هو ابن هارون كما جزم به أبو نعيم في مستخرجه قال: ( حدّثنا جرير بن حازم) بالحاء المهملة والزاي، وجرير بالجيم المفتوحة والراء المكررة بينهما تحتية قال: ( حدّثنا يزيد بن رومان) بضم الراء وسكون الواو وتخفيف الميم وبعد الألف نون غير مصروف، ويزيد من الزيادة وهو مولى آل الزبير ( عن عروة) بن الزبير بن العوّام.

قال الحافظ ابن حجر: كذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه، فأخرجه أحمد بن حنبل وأحمد بن سنان وأحمد بن منيع في مسانيدهم عن هكذا، والنسائي عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، والإسماعيلي من طريق هارون الجمال والزعفراني كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحرث بن أبي أسامة فرواه عن يزيد بن هارون فقال: عن عبد الله بن الزبير بدل عروة بن الزبير، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه فكأن يزيد بن رومان سمعه من الآخوين.
قال الحافظ ابن حجر: قد تابعه محمد بن مشكان كما أخرجه الجوزقي عن الدغولي عنه عن وهب بن جرير ويزيد قد حمله عن الآخوين، لكن رواية الجماعة أوضح فهي أصح ( عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها) :
( يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية) بإضافة حديث لعهد عند جميع الرواة.
قال المطرزي: وهو لحن إذ لا يجوز حذف الواو في مثل هذا، والصواب حديثو عهد بواو الجمع كذا نقله الزركشي والحافظ ابن حجر والعيني وأقروه، وأجاب صاحب المصابيح بأنه لا لحن فيه ولا خطأ والرواية صواب وتوجه بنحو ما قالوه في قوله تعالى { ولا تكونوا أول كافر به} [البقرة: 41] حيث قالوا: إن التقدير أول فريق كافر أو فوج كافر يعنون أن مثل هذه الألفاظ مفردة بحسب اللفظ وجمع بحسب المعنى فيجوز لك رعاية لفظه تارة ومعناه أخرى كيف شئت، فانقل هذا إلى الحديث تجده ظاهرًا لا خفاء بصوابه.
وقال صاحب اللامع: قد توجه بأن فيعلاً يستعمل للمفرد والجمع والمؤنث والمذكر كما في: { إن رحمت الله قريب من المحسنين} وخرج عليه خبير بنو لهب إذا قلنا أنه خبر مقدم، فإذا صحت الرواية وجب التأويل.

( لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه) بضم الهمزة أي من الحجر ( وألزقته بالأرض) بحيث يكون بابه على وجهها غير مرتفع عنها وألزقته بالزاي كألصقته بالصاد، ( وجعلت له بابين بابًا شرقيًا) مثل الوجود الآن ( وبابًا غربيًا فبلغت به أساس إبراهيم) عليه الصلاة والسلام.
( فذلك الذي حمل ابن الزبير) عبد الله ( على هدمه) البيت.
زاد وهب وبنائه والإشارة في قوله ذلك إلى ما روته عائشة -رضي الله عنها- عنه عليه الصلاة والسلام مع عدم وجود ما كان عليه الصلاة والسلام يخافه من الفتنة وقصور النفقة كما في حديث عطاء عند مسلم بلفظ: وقال ابن الزبير: سمعت عائشة تقول: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابًا يدخل منه الناس وبابًا يخرجون منه فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس" الحديث.

( قال يزيد) : بن رومان بالإسناد السابق: ( وشهدت ابن الزبير حين هدمه) وكان قد هدمه حتى بلغ به الأرض ( و) حين ( بناه) وكان في سنة خمس وستين.
وقال الأزرقي: في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين وجمع بينهما بأن الابتداء كان في سنة أربع والانتهاء في سنة خمس، وأيدوه

بأن في تاريخ المسجى أن الفراغ من بناء البيت كان في سنة خمس وستين.
زاد المحب الطبري أنه كان في شهر رجب.
( وأدخل فيه من الحجر) خمسة أذرع.
قال يزيد بن رومان: ( وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل) وفي كتاب مكة للفاكهي من طريق أبي أويس عن يزيد بن رومان: فكشفوا له أي لابن الزبير عن قواعد إبراهيم وهي صخر أمثال الخلف من الإبل ورأوه بنيانًا مربوطًا بعضه ببعض.
وعند عبد الرزاق من طريق ابن سابط عن زيد: أنهم كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلفة والحجارة مشتبك بعضها ببعض.
وفي رواية للفاكهي عن عطاء قال: كنت في الأبناء الذين جمعوا على حفره فحفروا قامة ونصفًا فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عروق المروة فضربوه فارتجت قواعد البيت فكبر الناس فبني عليه، وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض فتركه مكشوفًا ثمانية أيام ليشهدوا عليه فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل وجه ووجه حجران ووجه حجر ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر.

( قال جرير) : هو ابن حازم المذكور ( فقلت له) أي ليزيد بن رومان: ( أين موضعه) أي الأساس؟ ( قال: أريكه الآن فدخلت معه الحجر فأشار إلى مكان) منه ( فقال: هاهنا.
قال جرير: فحزرت)
بتقديم الزاي على الراء المهملة أي قدرت ( من الحجر) بكسر الحاء وسكون الجيم ( ستة أذرع) بالذال المعجمة جمع ذراع، ولأبي ذر: ست أذرع ( أو نحوها) .

قال في المصابيح: والسبب في كونه حرز ذلك ولم يقطع به أن المنقول أنه لم يكن حول البيت حائط يحجز الحجر من سائر المسجد حتى حجزه عمر بالبنيان ولم ينبه على الجدر الذي كان علامة على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن زاد ووسع قطعًا للشك، وصار الجدر في داخل التحجيز فلذلك حرز جرير ولم يقطع اهـ.

وهذا نقله المهلب عن ابن أبي زيد بلفظ: إن حائط الحجر لم يكن مبنيًا في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر حتى كان عمر فبناه قطعًا للشك، وفيه نظر لأن هذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر ولم يزل الحجر موجودًا في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما يصرح به كثير من الأحاديث الصحيحة، وهل الصحيح أن الحجر كله من البيت حتى لا يصح الطواف في جزء منه أو بعضه؟ فيصح جزم النووي بالأول كابن الصلاح لحديث الصحيحين: الحجر من البيت، وأبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين والبغوي بالثاني.

وقال الرافعي: إنه الصحيح لحديث الباب وحديث مسلم عن الحرث عن عائشة: فإن لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه قريبًا من سبعة أذرع.
وله من طريق سعيد بن مينا عن عبد الله بن الزبير عنها: وزدت فيه ستة أذرع، ولسفيان بن عيينة في جامعه أن ابن الزبير زاد ستة أذرع مما يلي الحجر، وله أيضًا ستة أذرع وشبر، لكن قال ابن الصلاح منتصرًا لما ذهب إليه:

اضطربت الروايات في ذلك ففي الصحيحين: الحجر من البيت، وروى ستة أذرع، وروي ست أو نحوها، وروي خمس، وروي قريبًا من سبع وحينئذ يتعين الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين.
وقال الحافظ زين الدين العراقي في شرح سنن أبي داود: ظاهر نص الشافعي في المختصر أن الحجر كله من البيت وهو مقتضى كلام جماعة من أصحابه، وقال النووي: إنه الصحيح وبه قطع جماهير أصحابنا وقال هذا هو الصواب.

وتعقب بأن الجمع بين المختلف من الأحاديث ممكن وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب، لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع ولم يتعذر ذلك هنا فيتعين حمل المطلق على المقيد، وإطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازًا وحينئذ فالرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق منها على المقيد، ولم تأت رواية صريحة بأن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت، وإنما قال النووي: ذلك نصرة لما صححه أن جميع الحجر من البيت، وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على إيجاب الطواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه، لكن لا يلزم منه أن يكون كله من البيت فقد نص الشافعي كما ذكره البيهقي في المعرفة أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع، ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم، فيحتمل أن يكون رأي إيجاب الطواف من ورائه احتياطًا ولأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما طاف خارجه وقد قال: "خذوا عني مناسككم" وكما لا يصح الطواف داخل البيت لا يصح داخل جزء منه فلا يصح على الشاذروان بفتح الذال المعجمة وهو الخارج عن عرض جدار البيت مرتفعًا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع تركته قريش لضيق النفعة، فلو كان في الطواف ومس جدار البيت في موازاة الشاذروان لا يصح على الأصح لأن بعض بدنه في البيت، والصحيح من مذهب الحنابلة لا يجزئه وقطعوا به.
وعند الشيخ تقي الدين بن تيمية: إنه ليس من الكعبة فعلى الأول لو الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح لأن معظمه خارج البيت قال: في الرعاية الكبرى: لكن قال المرداوي: ويحتمل عدم الصحة.
وقال الحنفية: يصح طواف من لم يحترز منه، لكن قال العلامة ابن الهمام: وينبغي أن يكون طوافه وراء الشاذروان لئلا يكون طوافه في البيت بناء على أنه منه.
وقال الكرماني من الحنفية: الشاذروان ليس من البيت عندنا، وعند الشافعي منه حتى لا يجوز الطواف عليه، والقول قوّلنا لأن الظاهر أن البيت هو الجدار المرئي قائمًا إلى أعلاه اهـ.

ومشهور مذهب المالكية كالشافعية، وعبارة الشيخ بهرام: ومن واجبات الطواف أن يطوف وجميع بدنه خارج عن شاذروان البيت وهو البناء المحدودب الذي في جدار البيت وأسقط من أساسه ولم يرفع على استقامته اهـ.

ونحوه قال الشيخ خليل في التوضيح: لكن نازع الخطيب أبو عبد الله بن رشيد بضم الراء وفتح المعجمة في رحلته في ذلك محتجًا بما حاصله أن لفظ الشاذروان لم يوجد في حديث صحيح ولا سقيم ولا عن أحد من السلف ولا ذكر له عن فقهاء المالكية إلا ما وقع في الجواهر لابن شاس،
وتبعه ابن الحاجب وهو بلا شك منقول من كتب الشافعية، وأقدم من ذكر ذلك منهم المزني ومن ذكره منهم كابن الصلاح والنووي مقربان اليمانيين على قواعد إبراهيم والآخرين ليسا عليها، فلو كان الشاذروان من البيت لكان الركن الأسود داخلاً في البيت ولم يكن متممًا على قواعد إبراهيم، فمن أين نشأ الشاذروان وقد انعقد الإجماع على أن المبيت متمم على قواعد إبراهيم من جهة الركنين اليمانيين، ولذلك استلمهما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون الآخرين، وأن ابن الزبير لما هدمه حتى بلغ به الأرض وبناه على قواعد إبراهيم إنما زاد فيه من جهة الحجر وأقامه على الأسس الظاهرة التي عاينها العدول من الصحابة وكبراء التابعين، وأن الحجاج لما نقض البيت بأمر عبد الملك لم ينقضه إلا من جهة الحجر خاصة، وهذا أمر معلوم مقطوع به مجمع عليه منقول بالسند الصحيح في الكتب المعتمدة التي لا يشك فيها أحد، وهو يرد قول ابن الصلاح: إن قريشًا لما رفعوا الأساس بمقدار ثلاثة أصابع من وجه الأرض وهو القدر الظاهر الآن من الشاذروان الأصلي قبل تزليقه نقصوا عرض الجدار عن عرض الأساس الأول.
قال ابن رشيد: وكيف يقال أن هذا القدر الظاهر نقصته قريش من عرض الجدار، وهل بقي لبناء قريش أثر؟ فالسهو والغلط فيما نقله ابن الصلاح مقطوع به، ولعل ابن الصلاح نقله عن التاريخيين، وإلا فهذا لم يأت في خبر صحيح ولا روي من قول صاحب يصح سنده، ولو صح لاشتهر ونقل، وإنما وضع هذا البناء حول البيت ليقيه السيول كما قاله ابن عبد ربه في كتاب العقد في صفة الكعبة.

وقال ابن تيمية أنه جعل عماد البيت وأيّده بأن داخل الحجر تحت حائط الكعبة الشاذروان فيكون هذا الشاذروان نظير الشاذروان الذي هو خارج البيت ولم يقل أحد أن هذا في الحجر له حكم الشاذروان الخارج ولا أنه عماد وأن الخارج شاذروان فكون هذا الشاذروان مراعى في الطواف لا دليل عليه، ومثل هذا لا يثبت إلا بالإجماع الصحيح المتواتر النقل اهـ.

وأقول قول ابن رشيد: إنه لم يوجد لفظ الشاذروان عن أحد من السلف، ونسبه ابن الصلاح إلى السهو والغلط فيما نقله من ذلك يقال عليه هذا الإمام الأعظم الشافعي قد قال ذلك فيما نقله عنه البيهقي في كتابه معرفة السنن والأخبار، وعبارته قال الشافعي: فكل طواف طافه على شاذروان الكعبة أو في الحجر أو على جداره فكما لم يطف.
قال الشافعي: أما الشاذروان فأحسبه مبنيًا على أساس الكعبة ثم يقتصر بالبنيان عن استيطافه، ولا ريب أن الشافعي من أجل السلف ثم إنه لا يلزم من كونه عليه الصلاة والسلام كان يستلم الركنين اليمانيين عدم وجود الشاذروان ووجوده ليس مانعًا من استلامهما لصدق القول بأنهما على القواعد، وليس فيما نقله ابن رشيد تصريح بأن ابن الزبير وضع البناء على أساس إبراهيم عليه السلام بحيث لم يبق شيئًا مما يسمى شاذرون، ولا وقفت على ذلك في شيء من الروايات، فيحتمل أن يكون الأمر كذلك وأن يكون على حد بناء قريش فأبقي ما قيل أنهم أبقوه، وإذا احتمل الأمر واحتمل سقط الاستدلال به.
نعم هدم ابن الزبير لجميع البيت الظاهر منه أنه كان ليعيده على القواعد بحيث لم يترك شيئًا منها خارجًا عن الجدار من جميع جوانبه وإلا فلو كان

غرضه إعادة ما نقصته قريش من جهة الحجر فقط لاكتفى بهدم ذلك فهدمه لجميعه وإعادته لا بد وأن يكون لغرض صحيح، وليس ثم سوى إعادته على بناء الخليل من غير أن يترك منه شيئًا، لكن روى مسلم في صحيحه عن عطاء قال: احترق البيت زمن يزيد بن معاوية قال ابن الزبير: يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها.
قال ابن عباس: إني أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتًا أسلم الناس عليه وأحجارًا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال ابن الزبير: لو أن أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف ببيت ربكم إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمر، فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها الحديث.
فلم يقل أني أريد إعادته على قواعد إبراهيم بل قال جوابًا لابن عباس حيث قال: إني أرى أن تصلح ما وهى لو أن أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ففيه مع ما قبله إشعار بأن الداعي له على الهدم والبناء زيادة ما نقصته قريش من البيت من جهة الحجر وما وهى بسبب الحريق فلم يتعين أن الهدم كان متمحضًا لإعادتها كلها على القواعد بحيث لا يترك منها شيئًا، ولم أر في شيء من الأحاديث التصريح بأن قريشًا أبقت من الأساس ما يسمى شاذروان، بل السياق مشعر بالتخصيص بالحجر فليتأمل.

وهذا الحديث من علامات النبوة حيث أعلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائشة بذلك فكان الذي تولى نقضها وبناءها ابن اختها ابن الزبير ولم ينقل أنه قال ذلك لغيرها من الرجال والنساء، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لها: فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع رواه مسلم في صحيحه.