فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة

باب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ.

     وَقَالَ  مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: الْجَزَعُ الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ.

     وَقَالَ  يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
( باب من لم يظهر حزنه عند) حلول ( المصيبة) فترك ما أبيح له من إظهاره قهرًا للنفس بالصبر الذي هو خير، قال الله تعالى: { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ويظهر: بضم أوله، من الرباعي، وحزنه: نصب على المفعولية.

( وقال محمد بن كعب القرظي) حليف الأوس: ( الجزع: القول السيئ) الذي يبعث الحزن

غالبًا ( والظن السيئ) هو: اليأس من تعويض الله المصاب في العاجل ما هو أنفع له من الفائت، أو: الاستبعاد لحصول ما وعد به من الثواب على الصبر.

ومناسبة هذا لما ترجم له من حيث المقابلة، وهي ذكر الشيء وما يضادّه معه، وذلك أن ترك إظهار الحزن من القول الحسن، والظن الحسن وإظهاره مع الجزع الذي يؤديه إلى ما حظره الشارع، قول سيئ وظن سيئ.

( وقال يعقوب عليه السلام { إنما أشكو بثي} ) هو أصعب هم لا يصبر صاحبه على كتمانه، فيبثه وينشره للناس ( { وَحُزْنِي إِلَى الله} ) [يوسف: 86] لا إلى غيره.

ومناسبته للترجمة من جهة أنه لما ابتلي صبر، ولم يشك إلى أحد ولا بث حزنه إلا إلى الله تعالى.


[ قــ :1252 ... غــ : 1301 ]
- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "اشْتَكَى ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ، قَالَ فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ.
فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ.
فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: كَيْفَ الْغُلاَمُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ.
وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ.
قَالَ فَبَاتَ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا".
قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ.
[الحديث 1301 - طرفه في: 5470] .

وبه قال: ( حدّثنا بشر بن الحكم) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة والحكم بفتحتين النيسابوري، قال: ( حدّثنا سفيان بن عيينة) قال: ( أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري ابن أخي أنس ( أنه سمع أنس بن مالك، رضي الله عنه، يقول) :
( اشتكى) أي: مرض ( ابن لأبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري، وابنه هو: أبو عمير، صاحب النغير، كما قاله ابن حبان في روايته، وغيره، وكان غلامًا صبيحًا، وكان أبو طلحة يحبه حبًّا شديدًا، فلما مرض حزن عليه حزنًا شديدًا حتى تضعضع ( قال: فمات، وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته) أم سليم، وهي أم أنس بن مالك ( أنه قد مات هيأت شيئًا) أعدت طعامًا، وأصلحته أو هيأت شيئًا من حالها، وتزينت لزوجها تعريضًا للجماع، أو هيأت أمر الصبي بأن غسلته وكفنته وحنطته، وسجت عليه ثوبًا، كما في بعض طرق الحديث، فهو أولى ( ونحته) بفتح النون والحاء المهملة المشدّدة، أي: جعلته ( في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال) لها: ( كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت) أي: سكنت ( نفسه) بسكون الفاء واحدة الأنفس.

تعني: أن نفسه كانت قلقة منزعجة لعارض المرض، فسكنت بالموت.
وظن أبو طلحة أن

مرادها: سكنت بالنوم لوجود العافية، ولأبي ذر: هذا بإسقاط التاء، نفسه، بفتح الفاء، واحد الأنفاس، أي سكن.
لأن المريض يكون نفسه عاليًا فإذا زال مرضه سكن.
وكذا إذا مات.
وفي رواية معمر، عن ثابت: أمسى هادئًا ( وأرجو أن يكون قد استراح) تعني أم سليم: من نكد الدنيا وتعبها، ولم تجزم بكونه استراح أدبًا، أو: لم تكن عالمة أن الطفل لا عذاب عليه، ففوّضت الأمر إلى الله تعالى، مع وجود رجائها بأنه استراح من نكد الدنيا.

قال أنس: ( وظن أبو طلحة أنها صادقة) بالنسبة إلى ما فهمه من كلامها وإلا فهي صادقة بالنسبة إلى ما أرادت مما هو في نفس الأمر، ولذا ورد: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، والمعاريض هي ما احتمل معنيين، وهذا من أحسنها، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه، لكن ورّت به عن المعنى الذي كان يحزنها، ألا ترى أن نفسه قد هدأت، كما قالت بالموت واْنقطاع النفس، وأوهمته أنه استراح من قلقه، وإنما هو: من هم الدنيا.
وفيه مشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها، وشرط جوازها أن لا تبطل حق مسلم.
( قال) أنس ( فبات) معها أي: جامعها ( فلما أصبح اغتسل) .

وفي رواية أنس بن سيرين: فقربت إليه العشاء، فتعشى، ثم أصاب منها.
وفي رواية حماد بن ثابت: ثم تطيبت.
وزاد جعفر عن ثابت: فتعرضت له حتى وقع بها، وفي رواية سليمان عن ثابت: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها.
وليس ما صنعته من التنطع، وإنما فعلته إعانة لزوجها على الرضا والتسليم، ولو أعلمته بالأمر في أول الحال لتنكد عليه وقته، ولم يبلغ الغرض الذي أرادته منه، ولعلها عند موت الطفل قضت حقه من البكاء اليسير.

( فلما أراد) أبو طلحة ( أن يخرج، أعلمته أنه قد مات) قال في الفتح: زاد سليمان بن المغيرة، كما عند مسلم فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا أهل بيت عارية، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاْحتسب ابنك.
قال: فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني.

وفي رواية عبد الله فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت قومًا أعاروا متاعًا، ثم بدا لهم فيه فأخذوه، فكأنهم وجدوا في أنفسهم، زاد حماد في روايته عن ثابت: فأبوا أن يردّوها، فقال أبو طلحة: ليس لهم ذلك إن العارية مؤدّاة إلى أهلها، ثم اتفقا، فقالت: إن الله أعارنا غلامًا، ثم أخذه منا.
زاد حماد: فاسترجع ( فصلّى مع النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم أخبر النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بما كان منهما) بالتثنية، وللكشميهني: منها بضمير المؤنثة المفردة ( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما) لعل: هنا، بمعنى: عسى، بدليل دخول أن على خبره، ولأبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر: لهما في ليلتهما بضمير الغائب، وفي رواية أنس بن سيرين: اللهم بارك لهما ... وفيه تنبيه على أن المراد بقوله: أن يبارك، وإن كان لفظه لفظ الخبر، الدعاء.


وزاد في رواية أنس بن سيرين: فولدت غلامًا.
وفي رواية عبد الله بن عبد الله: فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة.

( قال سفيان) بن عيينة بالإسناد المذكور.
( فقال رجل من الأنصار) هو: عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، كما عند البيهقي، وسعيد بن منصور: ( فرأيت لها تسعة أولاد، كلهم قد قرأ القرآن) .
كذا في رواية أبي ذر، والأصيلي، ولابن عساكر ولغيرهم: فرأيت لهما أي: من ولد ولدهما عبد الله الذي حملت به تلك الليلة من أبي طلحة، كما في رواية عباية، عند سعيد بن منصور، ومسدد، والبيهقي، بلفظ: فولدت له غلامًا.
قال عباية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبعة بنين.
قال ابن حجر: ففي رواية سفيان تجوّز في قوله: لهما، أي على رواية ثبوتها، لأن ظاهره أنه من ولدهما، بغير واسطة، وإنما المراد من أولاد ولدهما.

وتعقبه العيني بعد أن ذكر عبارته بلفظ: لهما، فقال: لا نسلم التجوز في رواية سفيان، لأنه ما صرح في قوله.
قال رجل من الأنصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن ولم يقل: رأيت منهما أو: لهما تسعة.
اهـ.
فاْنظر وتعجب من هذا التعقب.

ووقع في رواية سفيان هنا: تسعة أولاد، بتقديم الفوقية على السين.

وفي رواية عباية المذكور: سبعة بنين كلهم قد ختم القرآن بتقديم السين على الموحدة فقيل: إحداهما تصحيف، أو أن المراد بالسبعة من ختم القرآن كله، وبالتسعة من قرأ معظمه.

وذكر ابن المديني من أسماء أولاد عبد الله بن أبي طلحة، وكذا ابن سعد، وغيره، من أهل العلم بالأنساب، من قرأ القرآن وحمل العلم: إسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، وعمير، وعمرو ومحمد، وعبد الله، وزيد والقاسم.

وهذا الحديث أخرجه مسلم.