فهرس الكتاب

إرشاد الساري - بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}

باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 106 - 108] .
الأَوْلَيَانِ وَاحِدُهُمَا أَوْلَى، وَمِنْهُ: أَوْلَى بِهِ.
عُثِرَ: ظُهرَ.
أَعْثَرْنَا: أَظْهَرْنَا.

( باب) بيان سبب نزول ( قول الله تعالى) ولأبي ذر عز وجل ( { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} ) أي شهادة اثنين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو التقدير فيما أمرتم شهادة بينكم والمراد بالشهادة الإشهاد وأضافها إلى الظرف على الاتساع ( { إذا حضر أحدكم الموت} ) أحدكم نصب على المفعولية وإذا حضر ظرف للشهادة وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الاجل ( { حين الوصية} ) بدل من إذا حضر قال في الكشاف: وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها وخبر المبتدأ الذي هو شهادة بينكم
قوله ( { اثنان} ) وجوّز الزمخشري أن يكون اثنان فاعل شهادة بينكم على معنى فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان ( { ذوا عدل} ) أي أمانة وعقل ( { منكم} ) من المسلمين أو من أقاربكم ( { أو آخران من غيركم} ) من غير المسلمين يعني أهل الكتاب عند فقد المسلمين أو من غير أقاربكم ( { إن أنتم ضربتم في الأرض} ) أي سافرتم فيها ( { فأصابتكم مصيبة الموت} ) أي قاربتموها وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميّين عند فقد المسلمين أن يكون ذلك في سفر وأن يكون في وصية، وهذا مروي عن الإمام أحمد وهو من أفراده وخالفه الأئمة الثلاثة في ذلك وإن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282] وقد أجمعوا على ردّ شهادة الفاسق والكافر شر من الفاسق نعم جوّز أبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض ( { تحبسونهما} ) تمسكونهما لليمين ليحلفًا ( { من بعد الصلاة} ) صلاة العصر أو صلاة أهل دينهما ( { فيقسمان} ) فيحلفان ( { بالله إن ارتبتم} ) أي ظهرت لكم ريبة من اللذين ليسا من أهل ملّتكم إنهما خانا فيحلفان حينئذٍ بالله ( { لا نشتري به} ) بالقسم ( { ثمنًا} ) لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ( { ولو كان} ) المشهود عليه ( { ذا قربى} ) أي قريبًا إلينا وجوابه محذوف أي لا نشتري ( { ولا نكتم شهادة الله} ) أي الشهادة التي أمر الله بإقامتها ( { إنّا إذًا لمن الآثمين} ) إن كتمناها ( { فإن عُثر} ) فإن اطلع ( { على أنهما} ) أي الشاهدين ( { استحقا إثمًا} ) أي استوجباه بالخيانة والحنث في اليمين ( { فآخران} ) فشاهدان آخران من قرابة الميت ( { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم} ) الإثم أي فيهم ولأجلهم وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم فعلى بمعنى في كقوله على ملك سليمان أي في ملك سليمان ( { الأوليان} ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هما الأوليان كأنه قيل: ومن هما؟ فقيل: هما الأوليان.
وقيل بدل من الضمير في يقومان أو من آخران أي الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما من الأجانب ( { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} ) أي أصدق منهما وأولى بأن تقبل ( { وما اعتدينا} ) فيما قلنا فيهما من الخيانة ( { إنّا إذًا لمن الظالمين} ) [المائدة: 106، 107] إن كنا قد كذبنا عليهما.

ومعنى الآيتين كما قاله، القاضي: أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته أو يوصي إليهما احتياطًا فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطّلع على أنهما كذبا بأمارة ومظنة حلف آخران من أولياء الميت، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثبت إن كانا وصيين وردّ اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى.

( { ذلك} ) الذي تقدم من بيان الحكم ( { أدنى} ) أقرب ( { أن يأتوا} ) أي الشهداء على نحو تلك الحادثة ( { بالشهادة على وجهها} ) من غير تحريف ولا خيانة فيها ( { أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم} ) اي أقرب إلى أن يخافوا ردّ اليمين بعد يمينهم على المدّعين فيحلفون على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم ( { واتقوا الله} ) أن تحلفوا كاذبين أو
تخونوا ( { واسمعوا} ) الموعظة ( { والله لا يهدي القوم الفاسقين} ) أي لا يرشد من كان على معصية، وساق في رواية أبي ذر من قوله: { يا أيها الذين آمنوا} إلى قوله: { من غيركم} ثم قال إلى قوله: { والله لا يهدي القوم الفاسقين} .
وقال المؤلّف: ( الأوليان وأحدهما أولى ومنه أولى به) : أي أحق به، وقوله: ( عثر) أي ( أظهر) قاله أبو عبيدة في المجاز ( أعثرنا) أي ( أظهرنا) .
قاله الفراء وهذا كله ثابت في رواية الكشميهني فقط.


[ قــ :2653 ... غــ : 2780 ]
- وَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلِفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} .

( وقال لي علي بن عبد الله) المديني ( حدّثنا) وهذا وصله المؤلّف في التاريخ فقال: حدّثنا علي بن المديني قال: حدّثنا ( يحيى بن آدم) بن سليمان المخزومي قال: ( حدّثنا ابن أبي زائدة) يحيى بن زكريا واسم أبي زائدة ميمون الهمداني القاضي ( عن محمد بن أبي القاسم) الطويل ( عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه) سعيد ( عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه ( قال: خرج رجل من بني سهم) هو بزيل بضم الموحدة وفتح الزاي مصغرًا عند ابن ماكولا، ولابن منده من طريق السدي عن الكلبي بديل بن أبي مارية بدال مهملة بدل الزاي وليس هو بديل بن ورقاء فإنه خزاعي وهذا سهمي، وفي رواية ابن جريج أنه كان مسلمًا ( مع تميم الداري) الصحابي المشهور وكان نصرانيًّا وكان ذلك قبل أن يسلم ( وعدي بن بداء) بفتح الموحدة وتشديد المهملة ممدودًا مصروفًا وكان عدي نصرانيًّا.
قال الذهبي: لم يبلغنا إسلامه من المدينة للتجارة إلى أرض الشام ( فمات) بزيل ( السهمي بأرض ليس بها مسلم) وكان لما اشتدّ وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ( فلما قدما) عليهم ( بترِكَته فقدوا جامًا) بفتح القاف وبالجيم وتخفيف الميم.
قال في الفتح: أي إناء، وتعقبه العيني فقال: هذا تفسير الخاص بالعام وهو لا يجوز لأن الإناء أعم من الجام والجام هو الكأس انتهى.
والذي ذكره البغوي وغيره من المفسرين: أنه إناء من فضة منقوش بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال، وكذا في رواية ابن جريج عن عكرمة إناء من فضة منقوش بذهب.
( من فضة مخوّصًا من ذهب) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والواو المشددة آخره صاد مهملة أي فيه خطوط طوال كالخوص كانا أخذاه من متاعه، وفي رواية ابن جريج عن عكرمة أن السهمي المذكور مرض فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه ثم أوصى إليهما فلما مات فتحا متاعه ثم قدما على أهله فدفعا
إليهم ما أراد ففتح أهله متاعه فوجدوا الوصية وفقدوا أشياء فسألوهما عنها فجحدًا فرفوعهما إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنزلت هذه الآية إلى قوله: { لمن الآثمين} [المائدة: 106] ( فأحلفهما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم وجد الجام بمكة.
فقالوا)
أي الذين وجد الجام معهم ( ابتعناه من تميم وعدي فقام رجلان) عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ( من أوليائه) أي من أولياء بزيل السهمي ( فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما) يعني يميننا أحق من يمينهما ( وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} ) زاد أبو ذر ( { إذا حضر أحدكم الموت} ) .