فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما ينهى عن إضاعة المال

باب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَ { إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} ،.

     وَقَالَ  فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} .
.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} وَالْحَجْرِ فِي ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عَنِ الْخِدَاعِ.

(باب ما ينهى) أي النهي (عن إضاعة المال) صرفه في غير وجهه أو في غير طاعة الله (وقول الله تعالى) في سورة البقرة ({ والله لا يحب الفساد} ) [البقرة: 205] وعند النسفيّ مما ذكره في فتح الباري { إن الله لا يحب الفساد} ولعله سهو من الناسخ وإلاّ فالأول هو لفظ التنزيل (و) قوله تعالى في سورة يونس: ({ إن الله لا يصلح عمل المفسدين} ) [يونس: 81] لا يجعله ينفعهم وقال ابن حجر ولابن شبويه والنسفيّ: وإن الله لا يحب بدل لا يصلح وهذا سهو والأول هو التلاوة (وقال في قوله تعالى) في سورة هود ({ أصلاتك تأمرك أن نترك} أي بترك ({ ما يعبد آباؤنا} ) من الأصنام ({ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87] من البخس والظلم ونقص المكيال والميزان وقد يتبادر إلى الأذهان عطف أن نفعل على أن نترك لأنه يرى أن والفعل مرتين وبينهما حرف العطف وذلك باطل لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون وإنما هو عطف على ما فهو معمول للترك أي بترك

أن نفعل كذا في المغني لابن هشام، وتفسير البيضاوي وغيرهما.
وقال زيد بن أسلم: كان مما ينهاهم شعيب عليه السلام عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم وكانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة.
(وقال تعالى) في سورة النساء ({ ولا تؤتوا السفهاء} ) النساء والصبيان ({ أموالكم} ) [النساء: 5] يقول لا تعمدوا إلى أموالكم التي خوّلكم الله وجعلها لكم معيشة فتعطونها إلى أزواجكم وبنيكم فيكونوا هم الذين يقومون عليكم ثم تنظروا إلى ما في أيديهم ولكن أمسكوا أموالكم وأنفقوا أنتم عليهم في كسوتهم ورزقهم.

وعن أبي أمامة مما رواه ابن أبي حاتم بسنده قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها" وعنده أيضًا عن أبي هريرة { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} قال: الخدم وهم شياطين الإنس.

وعند ابن جرير عن أبي موسى: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهًا وقد قال: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} ، ورجل كان له دين على رجل فلم يشهد عليه.

وقال الطبري: الصواب عندنا أنها عامة في حق كل سفيه (والحجر في ذلك) بالجر عطفًا على إضاعة المال أي: والحجر في السفه.

والحجر في اللغة المنع وفي الشرع المنع من التصرفات المالية والأصل فيه { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6] الآية.
وقوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا} [البقرة: 282] الآية.
وقال ابن كثير في تفسيره: ويؤخذ الحجر على السفهاء من هذه الآية يعني قوله تعالى: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} .

والحجر نوعان: نوع شرع لمصلحة الغير كالحجر على المفلس للغرماء والراهن للمرتهن في المرهون والمريض للورثة فى ثلثي ماله والعبد لسيده والمكاتب لسيده ولله تعالى والمرتد للمسلمين.

ونوع شرع لمصلحة المحجور عليه وهو ثلاثة: حجر الجنون والصبا والسفه وكلٍّ منها أعمّ مما بعده.

(وما ينهى عن الخداع) في البيع وهو عطف على سابقه أيضًا.


[ قــ :2305 ... غــ : 2407 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي أُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ.
فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ".


وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عبد الله بن دينار) أنه قال (سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رجل) هو حبان بن منقذ أو والده منقذ بن عمرو (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إني أخدع) بضم الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال آخره عين مهملتين أي أغبن (في البيوع، فقال) عليه الصلاة والسلام له:
(إذا بايعت فقل لا خلابة) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وبعد الألف موحدة أي لا خديعة (فكان الرجل يقوله) وهذه واقعة عين وحكاية حال فمذهب الحنفية والشافعية أن الغبن غير لازم سواء قل الغبن أو أكثر وهو الأصح من روايتي مالك.
وقال البغداديون من أصحابه: للمغبون الخيار بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة وإن كان دونه فلا وكذا قاله بعض الحنابلة.

وهذا الحديث قد سبق في باب ما يكره من الخداع في البيع من كتاب البيوع، ومطابقته لما ترجم له هنا من حيث إن الرجل كان يغبن في البيوع وهو من إضاعة المال.




[ قــ :306 ... غــ : 408 ]
- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ.
وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ.

     وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ».

وبه قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني ( عثمان) بن أبي شببة قال ( حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد ( عن منصور) هو ابن المعتمر ( عن الشعبي) عامر بن شراحيل ( عن وراد) بتشديد الراء الكوفي ( مولي المغيرة بن شعبة) وكاتبه ( عن المغيرة بن شعبة) بن مسعود الثقفي الصحابي المشهور أسلم قبل الحديبية وولي إمرة البصرة ثم الكوفة المتوفى سنة خمسين على الصحيح أنه قال: ( قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( إن الله) عز وجل ( حرم عليكم عقوق الأمهات) وكذا حرم عقوق الآباء وخص الأمهات بالذكر لأن برهن مقدم على بر الأب في التلطف والحنو لضعفهن فهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارًا لتعظيم موقعه ( ووأد) بفتح الواو وسكون الهمزة دفن ( البنات) أحياء حين يولدن وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهية فيهن وقيل: إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر ابنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخيّر ابنته فاختارت زوجها فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حيّة فتبعه العرب على ذلك ( ومنع) بفتحات بغير صرف، ولأبي ذر: ومنعًا بسكون النون مع تنوين العين أي وحرم عليكم منع الواجبات من الحقوق ( وهات) بالبناء على الكسر فعل أمر من الإيتاء أي وحرم أخذ ما لا يحل من أموال الناس أو يمنع الناس رفده ويأخذ رفدهم ( وكره لكم قبل) كذا ( وقال) فلان كذا مما يتحدث به من فضول الكلام ( وكثرة السؤال) في العلم للامتحان وإظهار المراء أو مسألة الناس أموالهم أو عما لا يعني وربما يكره المسؤول الجواب فيفضي إلى سكوته فيحقد عليهم أو يلتجئ إلى أن يكذب، وعد منه قول الرجل لصاحبه أين كنت، وأما السائل المنهي عنها في زمنه عليه الصلاة والسلام فكان ذلك خوف أن

يفرض عليهم ما لم يكن فرضًا وقد أمنت الغائلة ( و) كره أيضًا ( إضاعة المال) السرف في إنفاقه كالتوسع في الأطعمة اللذيذة والملابس الحسنة وتمويه الأوافي والسقوف بالذهب والفضة لما ينشأ عن ذلك من القسوة وغلظ الطبع.
وقال سعيد بن جبير إنفاقه في الحرام والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه لأن الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقًا أخرويًّا هو أهم منه.

والحاصر أن في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعًا فلا شك في منعه.

والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعًا فلا ريب في كونه مطلوبًا بالشرط المذكور.

والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين.

أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله فهذا ليس بإسراف.

والثاني: ما لا يليق به عرفًا وهو ينقسم أيضًا إلى قسمين: ما يكون لدفع مفسدة ناجزة أو متوقعة فليس هذا بإسراف، والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك والجمهور علي أنه إسراف.

وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح إذا كان في غير معصية فهو مباح.
قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قاله اهـ.

وقد صرّح بالمنع القاضي حسين، وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وصحح في باب الحجر من الشرح، وفي المحرر أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي والذي يترجح أنه ليس مذمومًا لذاته لكنه يفضي غالبًا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدّى إلى المحذور فهو محذور.

ورواة هذا الحديث كلهم كوفيون ومنصور وشيخه وشيخ شيخه تابعيون، وسبق في باب قول الله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافًا} [البقرة: 73] من كتاب الزكاة.