فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من بلغ ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر

باب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِى الْعُمُرِ
لِقَوْلِهِ: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] .

هذا ( باب) بالتنوين يذكر فيه ( من بلغ) من العمر ( ستين سنة فقد أعذر الله) عز وجل ( إليه في العمر) وأعذر بالعين المهملة والذال المعجمة والهمزة فيه للإِزالة أي أزال الله عذره فلم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مدّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه، إذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية ونسبة الاعتذار إلى الله مجازية، والمعنى أن الله تعالى لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به ( لقوله) عز وجل: ( { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} ) توبيخ من الله أي فيقول الله تعالى لهم توبيخًا.
قال الزجاج: أي أو لم نعمركم العمر الذي يتذكر فيه من تذكر.
وقال أبو البركات النسفيّ: يجوز أن تكون ما نكرة موصوفة أي تعميرًا يتذكر فيه من تذكر.
وقال ابن الحاجب: ما لا يستقيم أن تكون نافية من
حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما اللفظ فلأنها يجب قطعها عن نعمركم لأنه لا يجوز أن يكون النفي من معموله، وأيضًا فإن الضمير في فيه يرجع إلى غير مذكور، وأما المعنى فلأن قوله: { أو لم نعمركم} إنما سيق لإثبات التعمير وتوبيخهم على تركهم التذكير فيه، فإذا جعل نفيًا كان فيه إخبار عن نفي تذكر متذكر فيه فظاهره على ذلك نفي التعمير لأنه إذا كان زمانًا لا يتذكر فيه متذكر لزم أن لا يكون تعميرًا وهو خلاف قوله: { أو لم نعمركم} اهـ.

وقوله { أو لم نعمركم} متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم، واختلف في مقدار العمر المراد هنا فعن علي بن الحسين زيد العابدين سبع عشرة سنة.
وعن وهب بن منبه أربعون سنة.
وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله عز وجل، وعن ابن عباس ستون سنة وهو الصحيح كما سيأتي في حديث أبي هريرة أول أحاديث هذا الباب، وعن ابن عباس مما رواه ابن مردويه سبعون سنة، فالإِنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين ثم يشرع بعد ذلك في النقص والهرم.

إذا بلغ الفتى ستين عامًّا ... فقد ذهب المسرة والهناء
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به ويزيح عنهم العلل كان هذا هو الغالب على أعمار هذه الأمة، فعند أبي يعلى من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة معترك المنايا ما بين ستين وسبعين، لكن إبراهيم بن الفضل ضعيف، وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك".
رواه الترمذي في كتاب الزهد.
( { وجاءكم النذير} ) [فاطر: 37] زاد أبو ذر يعني الشيب وهو مروي عن ابن عباس وغيره.
وقال السدي وعبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: المراد به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصحيح عن قتادة فيكون احتج عليهم بالعمر والرسل.


[ قــ :6082 ... غــ : 6419 ]
- حَدَّثَنِى عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ مُطَهَّرٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِىٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِىِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً».
تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلاَنَ عَنِ الْمَقْبُرِىِّ.

وبه قال: ( حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر بالجمع ( عبد السلام بن مطهر) بضم الميم وفتح الطاء المهملة والهاء المشددة المفتوحة ابن حسام أبو ظفر الأزدي البصري قال: ( حدّثنا عمر بن عليّ) بضم العين وفتح الميم ابن عطاء بن مقدّم المقدّمي البصري ( عن معن بن محمد) بفتح الميم وسكون العين المهملة ( الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة إلى غفار، وعمر بن علي مدلس وقد رواه عن معن بالعنعنة، لكن أخرج الحديث أحمد بن عبد الرزاق عن معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد فصرح فيه بالسماع والمبهم هو معن بن محمد الغفاري ( عن سعيد بن أبي سعيد) ذكوان ( المقبري) بضم الموحدة نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان يسكن عندها وسقط المقبري لأبي ذر ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
كذا لأبي ذر ولغيره فقال: بفاء قبل القاف.

( أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله) أي أطال حياته ( حتى بلغه ستين سنة) أي لم يبق فيه موضعًا للاعتذار حيث أمهله إلى طول هذه المدة ولم يعتذر يقال أعذر الرجل إذا بلغ أقصى الغاية في العذر.
وقال التوربشتي: ومنه قولهم أعذر من أنذر أي أن بالعذر وأظهره وهو مجاز عن القول فإن العذر لا يتوجه على الله، وإنما يتوجه له على العبيد وحقيقة المعنى فيه أن الله لم يترك شيئًا في الاعتذار يتمسك به، قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدًّا لهذا لأنها قريبة من معترك المنايا وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من الله تعالى بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية، قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة سن الطفولية ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون بين الستين إلى السبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط فينبغي له الإِقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوّة.

قلت: ورأيت لأبي الفرج بن الجوزي الحافظ جزءًا لطيفًا سماه تنبيه الغمر بمواسم العمر ذكر فيه أنها خمسة: الأول من وقت الولادة إلى زمن البلوغ، والثاني إلى نهاية شبابه خمس وثلاثين، والثالث إلى تمام الخمسين وهو الكهولة قال: وقد يقال له كهل لما قبل ذلك، والرابع إلى تمام السبعين وذلك زمان الشيخوخة، والخاص إلى آخر العمر قال: وقد يتقدم ما ذكرنا من السنين ويتأخر.

( تابعه) أي تابع معن بن محمد ( أبو حازم) سلمة بن دينار مما رواه النسائي عن يعقوب بن عبد الرَّحمن عن أبي حازم ( و) تابع معنا أيضًا ( ابن عجلان) محمد فيما رواه الطبراني في الأوسط عن عبد الرزاق عن معمر عن منصور بن المعتمر عن محمد بن عجلان كلاهما ( عن المقبري) أبي سعيد ذكوان عن أبي هريرة بلفظ: من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر.




[ قــ :6083 ... غــ : 640 ]
- حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ: فِى حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأَمَلِ».
قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى يُونُسُ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ.

وبه قال: ( حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: ( حدّثنا أبو صفوان عبد الله بن سعيد) الأموي نزل مكة قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا ( يونس) بن يزيد الأيلي ( عن ابن شهاب) الزهري
أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( سعيد بن المسيب أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( لا يزال قلب) المرء ( الكبير) أي الشيخ ( شابًّا) قويًا ( في اثنتين) أي خصلتين ( في حب الدنيا) المال ( و) محبة ( طول الأمل) أي العمر كما فسرا في الحديث اللاحق وأشار إلى قوة استحكام حبه للمال أو هو من باب المشاكلة والمطابقة.
وقال في المصابيح: فيه إيهام الطباق بين الكبير والشاب والاستعارة في شابًّا والتوشيع في قوله: في اثنتين الخ إذ هو عبارة عن أن يأتي في عجز الكلام بمثنى مفسر بمعطوف ومعطوف عليه كقوله:
إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر
والحديث أخرجه مسلم في الزكاة والنسائي في الرقائق.

( قال الليث) ولأبي ذر: قال ليث بن سعد الإِمام مما وصله الإِسماعيلي من طريق أبي صالح كاتب الليث عنه ( حدثني) بالإفراد ( يونس) بن يزيد الأيلي ( و) قال ( ابن وهب) عبد الله مما وصله مسلم عن حرملة عنه ( عن يونس) أيضًا ( عن ابن شهاب) الزهري أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( سعيد) هو ابن المسيب ( وأبو سلمة) بن عبد الرَّحمن بن عوف ولفظ الأول كلفظ حديث الباب إلا أنه قال: المال بدل الدنيا ولفظ الآخر: قلب الشيخ شاب على حب اثنتين طول الحياة وحب المال، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة وزاد في أوله أن ابن آدم يضعف جسمه وينحل لحمه من الكبر وقلبه شاب.




[ قــ :6084 ... غــ : 641 ]
- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ».

رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ.

وبه قال: ( حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: ( حدّثنا هشام) الدستواني قال: ( حدّثنا قتادة) بن دعامة ( عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) وسقط ابن مالك لغير أبي ذر ( قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( يكبر ابن آدم) بفتح الموحدة أي يطعن في السن ( ويكبر) بفتح الموحدة أيضًا في الفرع فيهما كأصله وتضم أي ويعظم فعبّر عن الكثرة وهي كثرة عدد السنين بالعظم ( معه اثنان حب المال وطول العمر) وفي رواية أبي عوانة عن قتادة عند مسلم يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص على المال والحرص على العمر.
قال القرطبي: فيه كراهة الحرص على طول العمر وكثرة المال وأن ذلك ليس بمحمود.
وقال غيره: الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه فهو راغب في بقائها فأحب لذلك طول العمر وأحب المال لأنه أعظم
في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبًا طول العمر فكلما أحس بقرب نفاد ذلك اشتدّ حبه له ورغبته له في دوامه.

والكرى عند الصباح يطيب
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر
( رواه) أي الحديث ( شعبة) بن الحجاج ( عن قتادة) بن دعامة عن أنس وصله مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة بلفظ: سمعت قتادة عن أنس بنحوه، وأخرجه أحمد عن محمد بن جعفر بلفظ: يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان، وأراد المؤلّف بإيراد هذا التعليق دفع توهم الانقطاع فيه لكون قتادة مدلسًا، وقد عنعنه لكن شعبة لا يحدث عن المدلسين إلا بما علم أنه داخل في سماعهم فيستوي في ذلك التصريح والعنعنة بخلاف غيره.