فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل، وإن لم يكن حجر عليه الإمام

باب مَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالإِصْلاَحِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهِ فَإِنْ أَفْسَدَ بَعْدُ مَنَعَهُ، لأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ،.

     وَقَالَ  لِلَّذِي يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَالَهُ
( ومن باع) بواو العطف على سابقه ولأبوي ذر والوقت: باب من باع ( على الضعيف) العقل ( ونحوه) وهو السفيه ( فدفع) وللأبوين: ودفع ( ثمنه إليه وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه) وهذا حاصل ما فعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيع المدبر ( فإن أفسد بعد) بالضم أي فإن أفسد الضعيف العقل بعد ذلك ( منعه) من التصرف ( لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن إضاعة المال) كما مر قريبًا ( وقال) عليه السلام ( للذي يخدع في البيع) أي يغبن فيه ( إذا بايعت فقل لا خلابة) كما مرّ أيضًا ( ولم يأخذ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماله) أي مال الرجل الذي باع غلامه لأنه لم يظهر عنده سفهه حقيقة إذ لو ظهر لمنعه من أخذه.



[ قــ :2312 ... غــ : 2414 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ، فَكَانَ يَقُولُهُ".

وبه قال: ( حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد ( عبد العزيز بن مسلم) القسملي المروزي ثم البصري قال: ( حدّثنا عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان رجل) اسمه حبان بن منقذ الأنصاري الصحابي ابن الصحابي المازني ( يخدع في البيع) وكان قد شج في بعض مغازيه مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحجر من بعض الحصون فأصابته في رأسه مأمومة فتغير بها لسانه وعقله ولكنه لم يخرج عن التمييز ( فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بعد أن شكا إليه ما يلقى من الغبن.

( إذا بايعت فقل لا خلابة) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة ( فكان يقوله) وعند الدارقطني فجعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له الخيار فيما يشتريه ثلاثًا فلو كان الغبن مثبتًا للخيار إلى اشتراط الخيار ثلاثًا ولا احتاج أيضًا إلى قوله "لا خلابة" فهي واقعة عين وحكاية حال مخصوصة بصاحبها لا تتعداه إلى غيره.

وفي الترمذي من حديث أنس أن رجلاً كان في عقدته ضعف وكان يبايع وأن أهله أتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا رسول الله احجر عليه فدعاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنهاه، فقال: يا رسول الله إني لا أصبر عن البيع فقال: "إذا بايعت فقل هاء ولا خلابة".
واستدلّ به الشافعي وأحمد على حجر السفيه الذي لا يحسن التصرف، ووجه ذلك أنه لا طلب أهله إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحجر عليه دعاه فنهاه عن البيع وهذا هو الحجر.

وقال الترمذي: وفي الباب عن ابن عمر حديث أنس حسن صحيح غريب والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم وقالوا: يحجر على الرجل الحر في البيع والشراء إذا كان ضعيف العقل، وهو قول أحمد وإسحاق ولم ير بعضهم أن يحجر على الحر البالغ انتهى.
وهو قول الحنفية.

وسبق هذا الحديث في باب ما يكره من الخداع في البيع في كتاب البيوع.




[ قــ :313 ... غــ : 415 ]
- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ".

وبه قال: ( حدّثنا عاصم بن علي) الواسطي قال: ( حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن ( عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني ( عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري ( -رضي الله عنه- أن رجلاً) من الصحابة يسمى بأبي مذكور ( أعتق عبدًا له) يقال له يعقوب ( ليس له مال غيره) وأطلق العتق هنا وقيده في الرواية السابقة بقوله عن دبر فيحمل المطلق على المقيد جميعًا بين

الحديثين ( فردّه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) تدبيره ( فابتاعه منه) أي ابتاع العبد من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بثمانمائة درهم ( نعيم بن النحام) بنون مفتوحة وحاء مهملة مشددة، وقوله ابن النحام وقع كذلك في مسند أحمد وفي الصحيحين وغيرهما، لكن قال النووي قالوا وهو غلط وصوابه فاشتراه النحام فإن المشتري هو نعيم وهو النحام سمي بذلك لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة لنعيم" والنحمة الصوت، وقيل هو السعلة، وقيل النحنحة.
ونعيم هذا قرشي من بني عدي أسلم قديمًا قبل إسلام عمر، وكان يكتم إسلامه.
قال مصعب الزبيري: كان إسلامه قبل عمر، ولكنه لم يهاجر إلا قبيل فتح مكة وذلك لأنه كان ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم فلما أراد أن يهاجر قال له قومه أقم ودن بأي دين شئت.

وقال الزبير ذكروا أنه لما قدم المدينة قال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا نعيم إن قومك كانوا خيرًا لك من قومي" قال: بل قومك خير يا رسول الله قال: "إن قومي أخرجوني وإن قومك أقرّوك" فقال نعيم: يا رسول الله إن قومك أخرجوك إلى الهجرة وإن قومي حبسوني عنها انتهى.

فإن قلت: ما وجه المناسبة بين الترجمة وما ساقه معها؟ فالجواب ما قاله ابن المنير وهو أن العلماء اختلفوا في سفيه الحال قبل الحكم هل تردّ عقوده، واختلف قول مالك في ذلك واختار البخاري ردّها، واستدلّ بحديث المدبر وذكر قول مالك في ردّ عتق المديان قبل الحجر إذا أحاط الدين بماله ويلزم مالكًا ردّ أفعال سفيه الحال لأن الحجر في المديان والسفيه مطّرد، ثم فهم البخاري أنه يردّ عليه حديث الذي يخدع فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اطّلع على أنه يخدع وأمضى أفعاله الماضية والمستقبلة فنبّه على أن الذي ترد أفعاله هو الظاهر السفه البيّن الإضاعة كإضاعة صاحب المدبر وأن المخدوع في البيوع يمكنه الاحتراز، وقد نبّهه الرسول على ذلك ثم فهم أنه يرد عليه كون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعطى صاحب المدبر ثمنه ولو كان بيعه لأجل السفه لما سلم إليه الثمن فنبّه على أنه إنما أعطاه بعد أن أعلمه طريق الرشد وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه وما كان السفه حينئذٍ فسقًا وإنما كان لشيء من الغفلة وعدم البصيرة بمواقع المصالح فلما بيّنها كفاه ذلك ولو ظهر للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك أنه لم يهتد ولم يرشد لمنعه التصرف مطلقًا وحجر عليه.