فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77]

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91] .

(باب قول الله تعالى) في سورة آل عمران: ({إن الذين يشترون}) يستبدلون ({بعهد الله}) بما عاهدون عليه من الأيمان بالرسول ({وأيمانهم}) وبما حلفوا به من قولهم لنؤمنن به ولننصرنه ({ثمنًا قليلاً}) متاع الدنيا ({أولئك لا خلاق لهم}) لا نصيب لهم ({في الآخرة}) ونعيمها وهذا مشروط بالإجماع بعدم التوبة فإن تاب سقط الوعيد ({ولا يكلمهم الله}) كلامًا يسرهم ({ولا ينظر إليهم يوم القيامة}) نظر رحمة ولا ينيلهم خيرًا وليس المراد منه النظر بتقليب الحدقة إلى المرئي تعالى الله عن ذلك ({ولا يزكيهم}) ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة أو لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه كثناء المزكي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24] وقد تكون بغير واسطة إما في الدنيا كما قال تعالى {التائبون العابدون} [التوبة: 112] وأما في الآخرة كما قال تعالى {سلام قولاً من رب رحيم} [يس: 58] .

ثم لما بين تعالى حرمانهم مما ذكر من الثواب بين كونهم في العقاب فقال: ({ولهم عذاب أليم}) [آل عمران: 77] مؤلم كذا في رواية كريمة سياق الآية إلى آخرها وقال في رواية أبي ذر: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} الآية.
واستفيد من الآية أن العهد غير اليمين لعطف العهد عليه.

(وقوله) ولأبي ذر وقول الله تعالى (جل ذكره {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم}) فعلة بمعنى المفعولة كالقبضة والغرفة أي لا تجعلوه معرضًا للحلف من قولهم فلان عرضة لكذا أي معرّض.
قال كعب:
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول
وقال حسان:
هم الأنصار عرضتها اللقاء
وهما بمعنى معرّض لكذا أو اسم لما تعرضه على الشيء فيكون من عرض العود على الإناء
فيعترض دونه ويصير حاجزًا ومانعًا، والمعنى على هذا النهي أن يحلفوا بالله على أنهم لا يبرون ولا يتقون ويقولون لا نقدر نفعل ذلك لأجل حلفنا أو من العرضة وهي القوّة والشدة يقال جمل عرضة للسفر أي قويّ عليه وقال الزبير:
فهذي لأيام الحروب وهذه ... للهوى وهذي عرضة لارتحالنا
أي قوّة وعدة أي لا تجعلوا اليمين بالله قوّة لأنفسكم في الامتناع من البر وقوله ({أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس}) عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإِصلاح بين الناس واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخًا، ويجوز أن تكون اللام تعليلية ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم عرضة لأن تبروا وفي ذلك نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، وذلك لأنه من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك.
قال الشاعر:
ولا تجعليني عرضة للوائم
وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله {ولا تطع كل حلاف مهين} وقال تعالى {واحفظوا أيمانكم} [المائدة: 89] وكان الخلف يمدحون بالإقلال من الحلف والحكمة في الأمر بتقليل الإيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع فلا يؤمن من إقدامه على الإيمان الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي من اليمين، وأيضًا كلما كان الإنسان أكثر تعظيمًا لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعظم وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية ({والله سميع}) لأيمانكم ({عليم}) [البقرة: 224] بنياتكم، وسقط لأبي ذر من قوله (أن تبروا) إلى آخر الآية.

(وقوله جل ذكره {ولا تشتروا بعهد الله ثمنًا قليلاً}) عرضًا من الدنيا يسيرًا ({إن ما عند الله}) من ثواب الآخرة ({هو خير لكم إن كنتم تعلمون}) [النحل: 95] وقوله تعالى: ({وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}) هي البيعة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الإسلام إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ((ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها}) بعد توثيقها باسم الله ({وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً}) [النحل: 91] شاهدًا ورقيبًا، وفي رواية أبي ذر {ولا تشتروا بعهد الله ثمنًا قليلاً} إلى قوله {ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} قال في الفتح: وسقط ذلك لجميعهم ووقع فيه تقديم وتأخير والصواب قوله {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} إلى قوله {ولا تشتروا بعهد الله ثمنًا قليلاً} ووقع في رواية النسفيّ بعد قوله عز وجل {عرضة لأيمانكم} ما نصه وقوله {ولا تشتروا يعده الله ثمنًا قليلاً} الآية وقوله {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} الآية.


[ قــ :6327 ... غــ : 6676 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِىَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.

وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن الأعمش) سليمان الكوفي (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من حلف على) موجب (يمين صبر) بإضافة يمين لصبر مصححًا عليها في الفرع كأصله لما بينهما من الملابسة والأكثر على تنوين يمين فيكون صبر صفة له مصدر بمعنى المفعول أي مصبورة كما في الرواية الأخرى على يمين مصبورة فيكون على التجوّز بوصف اليمين بذلك لأن اليمين الصبر هي التي يلزم الحاكم الخصم بها والمصبور في الحقيقة الحالف لا اليمين، أو المراد أن الحالف هو الذي صبر نفسه وحبسها على هذا الأمر العظيم الذي لا يصبر أحد عليه فالحالف هو الصابر واليمين مصبورة أي مصبور عليها.
وزاد المؤلّف في الأشخاص من رواية أبي معاوية وفي الشرب من رواية أبي حمزة كلاهما عن الأعمش هو فيها فاجر لكن رواية أبي معاوية هو عليها فاجر وكأن فيها حذفًا تقديره هو في الإقدام عليها كاذب حال كونه (يقتطع بها) بسبب اليمين (مال امرئ مسلم) أو ذمي ونحوه وفي صحيح مسلم حق امرئ مسلم بيمينه (لقي الله وهو عليه غضبان) جواب من وغضبان لا ينصرف لزيادة الألف والنون أي فيعامله معاملة المغضوب عليه فيعذبه (أنزل الله) عز وجل (تصديق ذلك) {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانكم ثمنًا قليلاً} [آل عمران: 77] (إلى آخر الآية) ليس في رواية أبي ذر إلى آخر الآية.
وفي مسلم والترمذي: عن أبي وائل عن عبد الله من طريق جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين مرفوعًا: "من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه" الحديث.
ثم قرأ علينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وظاهره أن الآية نزلت قبل وسبق في تفسير سورة آل عمران أنها نزلت فيمن أقام سلعته بعد العصر فحلف كاذبًا فيحتمل أنها نزلت في الأمرين معًا.




[ قــ :637 ... غــ : 6677 ]
- فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فِىَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِى بِئْرٌ فِى أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِى فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ» قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».

(فدخل الأشعث بن قيس) المكان الذي كانوا به (فقال: ما حدثكم أبو عبد الرَّحمن) عبد الله بن مسعود (فقالوا) ولأبي ذر قالوا (كذا وكذا.
قال) الأشعث (في) بتشديد التحتية
(أنزلت) هذه الآية (كانت) وللحموي والمستملي كان (لي بئر في أرض ابن عم لي) اسمه معدان وقيل جرير بن الأسود الكندي ولقبه الجفشيش بفتح الجيم وسكون الفاء وبالشينين المعجمتين بينهما تحتية ساكنة، وفي رواية أبي معاوية كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني ولا تضاد بين قوله ابن عم لي وقوله من اليهود لأن جماعة من أهل اليمن كانوا تهودوا وقد ذكر أنه أسلم فيقال إنما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أولاً (فأتيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي فادعيت عليه (فقال) لي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(بينتك أو يمينه) بالرفع فيهما إما فاعل بفعل مقدر أي تحضر بينتك تشهد لك أو فحقك يمينه فيمينه خبر مبتدأ محذوف أو لك يمينه فيكون مبتدأ والخبر في الجار والمجرور، ويحتمل أن يكون بينتك خبر مبتدأ محذوف أي الواجب بينتك أو يمينه إن لم يكن لك بيّنة.
قال الأشعث: (فقلت: إذًا يحلف عليها) على البئر (يا رسول الله) وإذا حرف جواب ينصب الفعل المضارع بشروط ثلاثة: أن يكون أوّلاً فلا يعتمد ما بعدها على ما قبلها كما تقول في جواب من قال: أزورك إذًا أكرمك بالنصب فإن اعتمد ما بعدها على ما قبلها رفعت نحو قولك: أنا إذًا أكرمك.
الثاني: أن يكون مستقلاً فلو كان حالاً وجب الرفع نحو قولك لمن قال: جاء الحاج إذًا أفرح تريد الحالة التي أنت فيها.
الثالث: أن لا يفصل بينهما وبين الفعل بفاصل ما عدا القسم والنداء ولا، فإن دخل عليها حرف عطف جاز في الفعل الرفع والنصب والرفع أكثر نحو قوله تعالى: ({ وإذًا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً} [الإسراء: 76] والفعل هنا في الحديث إن أريد به الحال فهو مرفوع وإن أريد به الاستقبال فهو منصوب وكلاهما في الفرع كأصله والرفع رواية غير أبي ذر وفي رواية أبي معاوية إذن يحلف ويذهب بمالي، وفي رواية أبي معاوية قال: ألك بيّنة؟ فقلت: لا فقال لليهودي احلف وفي رواية أي حمزة فقال لي: شهودك؟ قلت: ما لي شهود.
قال: فيمينه، وفي رواية أي وائل من طريق ولده علقمة فانطلق ليحلف (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من حلف على يمين صبر) بالإضافة أو بالتنوين كما مر (وهو) أي والحال أنه (فيها فاجر) أي كاذب وقيد به ليخرج الجاهل والناسي والمكره (يقتطع بها) أي بسبب يمينه (مال امرئ مسلم) ويقتطع يفتعل من القطع كأنه قطعه عن صاحبه أو أخذ قطعة من ماله بالحلف المذكور (لقي الله) تعالى (يوم القيامة وهو عليه غضبان).

وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا وصف وحدد وعرفه المتداعيان لكن لم يقع في الحديث تصريح بوصف ولا تحديد، فاستدلّ به القرطبي على أن الوصف والتحديد ليسا بلازمين لذاتهما بل يكفى في صحة الدعوى تمييز المدعى به تمييزًا ينضبط به.
قال في الفتح: ولا يلزم من ترك ذكر التحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع ولا يستدل بسكوت الراوي عنه بأنه لم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطًا بدليله فإذا ثبت حمل على أنه ذكر في الحديث ولم ينقله الراوي.

وسبق كثير من فوائد هذا الحديث في الشرب والأشخاص ويأتي في الأحكام إن شاء الله تعالى.