فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود

باب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ».

     وَقَالَ  قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي، فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] .
قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُخْرَى؟.

هذا ( باب) بالتنوين ( اليمين على المدّعي عليه) دون المدّعي ( في الأموال والحدود) .
وقال الكوفيون: تختص اليمين بالمدّعى عليه في الأموال دون الحدود.
( وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله قريبًا
( شاهداك أو يمينه) برفع شاهداك خبر مبتدأ محذوف أي المثبت لدعواك أو الحجة لك شاهداك أو مبتدأ خبره محذوف أي شاهداك هما المطلوبان في دعواك أو شاهداك هما المثبتان لدعواك ويمينه عطف عليه.

( قال قتيبة) أي ابن سعيد، وفي بعض النسخ كما نقل عن الشيخ قطب الدين الحلبي حدّثنا قتيبة قال: ( حدّثنا سفيان) هو ابن عيينة ( عن ابن شبرمة) بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي قاضي الكوفة المتوفى سنة أربع وأربعين ومائة أنه قال: ( كلمني أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان قاضي المدينة ( في) القول بجواز ( شهادة الشاهد ويمين المدّعي) وكان مذهب أبي الزناد القضاء بذلك كأهل بلده لأنه عليه الصلاة والسلام قضى بشاهد ويمين.
رواه مسلم من حديث ابن عباس، وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة، والترمذي وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة وأبو عوانة من حديث جابر ومذهب ابن شبرمة خلافه كأهل بلده فلا يعمل بالشاهد واليمين وهو مذهب الحنفية.
قال ابن شبرمة: ( فقلت) أي لأبي الزناد محتجًّا عليه ( قال الله تعالى: { واستشهدوا} ) على حقكم ( { شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} ) العدول ( { إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} ) [البقرة: 282] الشهادة.
قال ابن شبرمة ( قلت: إذا كان يكتفى) بضم أوله وفتح الفاء ( بشهادة شاهد ويمين المدّعي) وجواب الشرط ( فما يحتاح أن تذكر إحداهما الأخرى) وما نافية في قوله: فما يحتاج واستفهامية في قوله ( ما كان يصنع بذكر) بموحدة ومعجمة مكسورتين وسكون الكاف وفي نسخة تذكر بفوقية ومعجمة مفتوحتين وضم الكاف مشددة ( هذه الأخرى) وفي نسخة تذكر بضم الفوقية وسكون المعجمة وكسر الكاف والمعنى إذا جاز أن يكتفى بالشاهد واليمين فلا احتياج إلى تذكير إحداهما الأخرى إذ اليمين تقوم مقامهما فما فائدة ذكر التذكير في القرآن؟
وأجيب: بأنه لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عما عداه وغاية ما في ذلك عدم التعرّض له لا التعرّض لعدمه، والحديث قد تضمن زيادة مستقلة على ما في القرآن بحكم مستقل، وقد أجاب إمامنا الشافعي عن الآية كما في المعرفة: بأن اليمين مع الشاهد لا تخالف من ظاهر القرآن شيئًا لأنّا نحكم بشاهدين وشاهد وامرأتين ولا يمين، فإذا كان شاهد حكمنا بشاهدين ويمين بالسُّنّة وليس هذا مما يخالف ظاهر القرآن لم يحرم أن يجوز أقل مما نص عليه في كتابه ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلم بما أراد الله عز وجل، وقد أمرنا الله تعالى أن نأخذ ما أتانا به وننتهي عما نهانا عنه، ونسأل الله العصمة والتوفيق انتهى.


[ قــ :2552 ... غــ : 2668 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- إليّ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْه".

وبه قال: ( حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: ( حدّثنا نافع بن عمر) بن عبد الله بن جميل الجمحي القرشي المكي المتوفى سنة تسع وستين ومائة ( عن ابن أبي مليكة) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مليكة بضم الميم وفتح اللام مصغرًا أنه ( قال: كتب ابن عباس -رضي الله عنهما-) أي بعد أن كتبت إليه أسأله عن قصة المرأتين اللتين ادّعت إحداهما على الأخرى أنها جرحتها كما في تفسير سورة آل عمران وزاد أبو ذر: إليّ ( أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى باليمين على المدّعي عليه) .

وعند البيهقي من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة بلفظ: كنت قاضيًا لابن الزبير على الطائف وذكر قصة المرأتين فكتبت إلى ابن عباس فكتب إليّ: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر" وإسناده حسن وإنما كانت البيّنة على المدّعي لأن حجته قوية لانتفاء التهمة وجانبه ضعيف لأنه خلاف الظاهر فكلّف الحجة القوية وهي البيّنة ليقوى بها ضعفه وعكسه المدّعى عليه فاكتفى بالحجة الضعيفة وهي اليمين.
نعم قد تجعل اليمين في جانب المدّعي في مواضع مستثناة كأيمان القسامة لحديث الصحيحين المخصص لحديث الباب وفي البيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة ودعوى بالقيمة في المتلفات".

وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن اليمين متوجهة على المدّعى عليه سواء كان بينه وبين المدّعي اختلاط أم لا؟ وقال مالك وأصحابه: إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبينه خلطة لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد فاشترطت الخلطة لهذه المفسدة.

وهذا الحديث قد سبق في الرهن ويأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة آل عمران.

هذا ( باب) بالتنوين من غير ترجمة وهو ساقط عند أبوي ذر والوقت.

2669 , 2670 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ -إِلَى- عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] .
ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: صَدَقَ، لَفِيَّ أُنْزِلَتْ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَىْءٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ.
فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ إِذن يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي: فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً -وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ- لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ.
ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ".

وبه قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني ( عثمان بن أبي شيبة) هو عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي مولاهم الكوفي الحافظ قال: ( حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد ( عن منصور) هو ابن المعتمر ( عن أبي وائل) شقيق بن سلمة أنه ( قال: قال عبد الله) هو ابن مسعود: ( من حلف على) محلوف ( يمين يستحق بها) باليمين ( مالاً) لغيره ( لقي الله) أي يوم القيامة ( وهو عليه غضبان) غير مصروف للصفة وزيادة الألف والنون مع وجود الشرط وهو أن لا يكون المؤنث فيه بتاء التأنيث فلا تقول فيه امرأة غضبانة بل غضبى، والمراد من الغضب لازمه أي فيعذبه أو ينتقم منه ( ثم أنزل الله عز وجل تصديق ذلك { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} إلى { عذاب أليم} ) [آل عمران: 77] برفعهما على الحكاية، ولأبوي ذر والوقت: { وأيمانهم ثمنًا قليلاً} إلى { أليم} .

( ثم إن الأشعث بن قيس) الكندي ( خرج إلينا) من الموضع الذي كان فيه ( فقال: ما يحدّثكم أبو عبد الرحمن) بن مسعود؟ ( فحدّثاه بما) حدّثنا به ( قال، فقال: صدق) ابن مسعود ( لفيّ) بلام مفتوحة ففاء مكسورة فتحتية مشددة ( أنزلت) بضم الهمزة زاد في الرهن والله أنزلت هذه الآية ولأبي ذر: نزلت بإسقاط الهمزة وفتح النون والزاي ولأبي الوقت نزلت بضم النون وكسر الزاي مشددة ( كان بيني وبين رجل) اسمه معدان بن الأسود بن معد يكرب الكندي ولقبه الجفشيش بجيم مفتوحة ففاء ساكنة فشين معجمتين بينهما تحتية ساكنة ( خصومة في شيء) في الرهن في بئر وفي رواية في أرض، وزاد مسلم.
أرض باليمن.
ولا يمتنع أن تكون المخاصمة في الكل فمرة ذكر الأرض لأن البئر داخلة فيها ومرة ذكر البئر لأنها المقصودة لسقي الأرض ( فاختصمنا إلى رسول الله) ولأبوي ذر والوقت إلى النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) :
( شاهداك أو يمينه) قال القاضي عياض: كذا الرواية بالرفع فيهما تقديره عليك شاهداك أو عليه يمينه أو يقدر لك شاهداك أو يمينه أي لك إقامة شاهديك أو طلب يمينه فحذف المضاف من كل من المتعاطفين وأقيم المضاف إليه مقامه.
قال الأشعث: ( فقلت له) عليه الصلاة والسلام ( أنه) أي معدان ( إذًا يحلف) بالرفع على لغة من لا ينصب بإذا ( ولا يبالي) أي لا يكترث وربما حذفت ألفه فقيل: لم أبل، وزاد مسلم وأصحاب السنن الأربعة في نحو هذه القصة من حديث وائل بن حجر.

"ليس لك إلا ذلك".
واستدلّ بهذا الحصر على ردّ القضاء بالشاهد واليمين وهو مردود بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى بذلك، وبأن المراد بقوله: "شاهداك" أي بيّنتك سواء كانت رجلين أو رجلاً وامرأتين أو رجلاً ويمين الطالب فالمعنى شاهداك أو ما يقوم مقامهما ( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) : ( من حلف على يمين) الحلف هو اليمين فخالف بين اللفظين تأكيدًا لعقده وسماه يمينًا مجازًا للملابسة بينهما والمراد ما شأنه أن يكون محلوفًا عليه وإلا فهو قبل اليمين ليس محلوفًا عليه ( يستحق بها) باليمين ( مالاً) ليس له والجملة صفة ليمين أو حال ( وهو فيها) في اليمين ( فاجر) كاذب ( لقي الله) زاد أبو ذر عز وجل ( وهو عليه غضبان) اسم فاعل من غضب يقال رجل غضبان وامرأة غضبى وهو من باب المجازاة أي يعامله معاملة المغضوب عليه فيعذبه والواو في وهو في الموضعين للحال ( فأنزل الله تعالى تصديق ذلك ثم
اقترأ)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( هذه الآية) أي السابقة وهي { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} إلى { عذاب أليم}
[آل عمران: 77] .

ومطابقة الحديث للترجمة في قوله "شاهداك أو يمينه".