فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]

باب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [الآية: 31] .

(بسم الله الرحمن الرحيم سورة البقرة) كذا لأبي ذر وسقطت البسملة لغيره.

وفي نسخة باب تفسير سورة البقرة ({ وعلّم} ) ولأبي ذر مما وجد مكتوبًا بين أسطر اليونينية، باب قول الله تعالى: { وعلّم آدم الأسماء كلها} ) إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه ولا يفتقر إلى سابقه اصطلاح للتسلسل والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبًا، ولذلك يقال علمته فلم يتعلم قاله البيضاوي.
وظاهر الآية يقتضي أن التعليم للأسماء ويؤيده بأسماء هؤلاء.

وقال الزمخشري: أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلومًا مدلولًا عليه بذكر الأسماء لأن الاسم لا بد له من مسمى وعوّض عنه اللام كقوله: { واشتعل الرأس شيبًا} [مريم: 4] واعترض بأن كون اللام عوضًا عن الإضافة ليس مذهب البصريين إنما قال به الكوفيون وبعض البصريين، والبصريون إنما قالوا ذلك في المظهر لا في المضمر، وبأنه لم يجعل المحذوف مضافًا إلى الأسماء أي مسميات الأسماء لينتظم تعليق الأنباء بالأسماء فيما ذكر بعد التعليم، وهو وإن قدر المضاف إليه وجعل الأسماء غير المسميات لا يقول إن ما علمه آدم وعلمه وعجز عنه الملائكة هو مجرد الألفاظ واللغات من غير علم بحقائق المسميات وأحوالها ومنافعها لظهور أن لفضيلة والكمال إنما هي في ذلك، وإلى هذا ذهب من جعل الاسم نفس المسمى، أو حمل الكلام على حذف المضاف أي مسميات الأسماء، لكن يرد عليه أنه لا دلالة في الكلام على هذا التقدير، وجوابه: أن الأحوال والمنافع أيضًا المسميات التي علم أسماءها ولا يتم ذلك بدون معرفتها على وجه تمتاز به عما عداها وهذا كاف قاله في المصابيح، واختلف في المراد بالأسماء فقيل: أسماء الأجناس دون أنواعها، وقيل أسماء كل شيء حتى القصعة.


[ قــ :4229 ... غــ : 4476 ]
- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح.

وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ فَيَسْتَحِي، ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ
لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَيَسْتَحِي فَيَقُولُ: ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَيَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ: ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَقُولُ: مَا بَقِىَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَعْنِى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: { خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 15 وغيرها] .

وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الأزدي الفراهيدي بالفاء البصري، وسقط لأبي ذر: ابن إبراهيم قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).

قال البخاري: (وقال لي خليفة) بن خياط العصفري بضم العين وسكون الصاد المهملتين وضم الفاء البصري على سبيل المذاكرة أو التحديث (حدّثنا يزيد بن زريع) بتقديم الزاي مصغرًا أبو معاوية البصري قال: (حدّثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة (عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يجتمع المؤمنون يوم القيامة) ولأبي ذر: ويجتمع بواو العطف على محذوف بينه في رواية له (فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا) لو هي المتضمنة للتمني والطلب أي لو استشفعنا أحد إلى ربنا فيشفع لنا فيخلصنا مما نحن فيه من الكرب (فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء)، وضع شيئًا موضع أشياء أي المسميات إرادة للتقصي واحدًا فواحدًا حتى يستغرق المسميات كلها (فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا) بالراء من الإراحة (من مكاننا هذا فيقول) لهم: (لست هناكم) أي لست في المكانة والمنزلة التي تحسبونني يريد مقام الشفاعة (ويذكر ذنبه) وهو قربان الشجرة وأكل منها (فيستحي)، بكسر الحاء، ولأبي ذر: فيستحيي بسكونها وزيادة تحتية (ائتوا نوحًا فإنه أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، بالإنذار وإهلاك قومه، لأن آدم كانت رسالته بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، وليس المراد بقوله بعثه الله إلى أهل الأرض عموم بعثته، فإن هذا من خصوصيات نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن هذا إنما حصل له بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس بالطوفان فلم يكن ذلك في أصل بعثته، وأما الاستدلال على عموم رسالته بدعائه على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة لأنه لو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا لقوله تعالى: { وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولًا}
[الإسراء: 15] وقد ثبت أنه أوّل الرسل فأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح وبأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم.
فأجيب: لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح عليه الصلاة والسلام غيره، فالله أعلم.

(فيأتونه فيقول) لهم: (لست هناكم) قال عياض: كناية عن أن منزلته دون هذه المنزلة تواضعًا أو أن كلاًّ منهم يشير إلى أنها ليست له بل لغيره (ويذكر سؤاله ربه) المحكي عنه في القرآن بقوله تعالى: { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} [هود: 45] أي وعدتني أن تنجي أهلي من الغرق، وسأل أن ينجيه من الغرق وفي نسخة لربه (ما ليس له به علم) حال من الضمير المضاف إليه في سؤاله أي صادرًا عنه بغير علم أو من المضاف أي متلبسًا لغير علم، وربه مفعول سؤاله، وكان يجب عليه أن لا يسأل كما قال تعالى: { فلا تسألني ما ليس لك به علم} [هود: 46] أي ما شعرت من المراد بالأهل وهو: من آمن وعمل صالحًا وأن ابنك عمل غير صالح (فيستحيي) ولغير أبي ذر بياء واحدة وكسر الحاء (فيقول: ائتوا خليل الرحمن) إبراهيم عليه الصلاة والسلام (فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا موسى عبدًا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحيي من ربه) ولغير أبي ذر: فيستحي بياء واحدة وكسر الحاء ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وإنما عدّه من عمل الشيطان وسماه ظلمًا واستغفر منه كما في الآية على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم (فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله) لأنه وجد بأمره تعالى دون أبي (وروحه) أي ذا روح صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له، وقيل لأنه كان يحيي الأموات والقلوب (فيقول): أي بعد ما يأتونه (لست هناكم ائتوا محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لغير أبي ذر (عبدًا)، بالنصب ولأبي ذر عبد (غفر الله له ما تقدم من ذنبه) عن سهو وتأويل (وما تأخر) بالعصمة أو إنه مغفور له غير مؤاخذ بذنب لو وقع (فيأتوني) ولأبي ذر: فيأتونني بنونين وفيه إظهار شرف نبينا عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى (فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن) بالرفع عطفًا على أنطلق، ولأبي ذر: فيؤذن بالنصب عطفًا على المنصوب في قوله حتى استأذن (فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء) ولغير أبي ذر ما شاء الله (ثم يقال: ارفع رأسك) وسقط لأبي ذر لفظة رأسك (وسل) بفتح السين من غير ألف وصل (تعطه) بهاء بعد الطاء (وقل يسمع) أي قوله (واشفع تشفع) أي تقبل شفاعتك (فأرفع رأسي) من السجود (فأحمده) تعالى (تحميد يعلمنيه) بضم الميم (ثم أشفع فيحدّ لي) بفتح الياء تعالى (حدًّا) أي يبين لي قومًا أشفع فيهم كان يقول: "شفعتك فيمن أخلّ بالصلاة" (فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه) تعالى (فإذا رأيت ربي مثله) أي أفعل مثل ما سبق من السجود ورفع الرأس وغيره (ثم أشفع، فيحدّ لي حدًّا) كأن يقول: شفعتك فيمن زنى أو فيمن شرب الخمر مثلًا (فأدخلهم الجنّة، ثم أعود الثالثة، ثم أعود الرابعة فأقول، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن) أي حكم بحبسه أبدًا (ووجب عليه الخلود) وهم الكفار (قال أبو عبد الله) البخاري: (إلا من حبسه القرآن يعني قول الله تعالى) أي في الكفار: ({ خالدين فيها} ) [آل عمران: 15 وغيرها] وسقط لأبي ذر لفظ (إلا من).

واستشكل سياق هذا الحديث من جهة كون المطلوب الشفاعة للإراحة من موقف العرصات لما يحصل لهم من ذلك الكرب الشديد لا للإخراج من النار.
وأجيب: بأنه قد انتهت حكاية الإراحة عند لفظ فيؤذن لي وما بعده هو زيادة على ذلك قاله الكرماني.
وقال الطيبي: لعل المؤمنين صاروا فرقتين فرقة سيق بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخلصهم مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين النار زمرًا بعد زمر كما دل عليه قوله: فيحدّ لي حدًّا الخ فاختصر الكلام.

وقال في فتوح الغيب: إيراد قصة واحدة في مقامات متعددة بعبارات مختلفة وأنحاء شتى بحيث لا تغيير ولا تناقض البتة من فصيح الكلام وبليغه، وهو باب من الإيجاز المختص بالإعجاز، ويحتاج في التوفيق إلى قانون يرجع إليه، وهو أن يعمد إلى الاقتصاصات المتفرقة ويجعل لها أصل بأن يؤخذ من المباني ما هو أجمع للمعاني، فما نقص من تلك المعاني شيء يلحق به انتهى.

وقال في شرح المشكاة: أو يراد بالنار الحبس والكربة وما يكونون فيه من الشّدة ودنو الشمس إلى رؤوسهم وحرها وإلجامهم بالعرق وبالخروج إلى الخلاص منها.

وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في التوحيد، وأخرجه مسلم في الإيمان، والنسائي في التفسير، وابن ماجه في الزهد.