فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة

باب مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ، وَالْحُكْرَةِ
( باب ما يذكر في بيع الطعام) قبل قبضه ( و) ما يذكر في ( الحكرة) بضم الحاء وسكون الكاف وهي إمساك ما اشتراه في وقت الغلاء لا في وقت الرخص لبيعه بأكثر مما اشتراه به عند اشتداد الحاجة بخلاف إمساك ما اشتراه في وقت الرخص لا يحرم مطلقًا ولا إمساك غلة ضيعته ولا إمساك ما اشتراه في وقت الغلاء لنفسه وعياله أو ليبيعه بمثل ما اشتراه به أو أقل، لكن في كراهة إمساك ما فضل عما يكفيه وعياله وجهان الظاهر منهما المنع، لكن الأولى منعه كما صرّح به في الروضة ويختص تحريم الاحتكار بالأقوات ومنها التمر والزبيب والذرة والأرز فلا تعم جميع الأطعمة.



[ قــ :2047 ... غــ : 2131 ]
- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُئْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ".

وبه قال: ( حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني ( إسحاق بن إبراهيم) هو ابن راهويه قال: ( أخبرنا الولد بن مسلم) أبو العباس الدمشقي ( عن الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو بفتح العين ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ( عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب ( -رضي الله عنه-) أنه ( قال: رأيت الذي يشترون الطعام) شراء ( مجازفة) أو النصب على الحال أي حال كونهم مجازفين أي من غير كيل ولا وزن ولا تقدير ( يضربون) بضم أوّله وفتح ثالثه ( على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كراهة ( أن يبيعوه) أو كلمة لا مقدرة نحو { يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176] ( حتى يؤووه إلى رحالهم) أي يقبضوه.
وفي المجموع عن الشافعي بيع الصبرة من الحنطة والتمر مجازفة صحيح وليس بحرام وهل هو مكروه؟ فيه قولان أصحهما مكروه كراهة تنزيه لأنه قد يوقع في الندم، وعن مالك: لا يصح البيع إذا كان بائع الصبرة جزافًا يعلم قدرها، وسقط في رواية ابن عساكر في نسخة قوله أن يبيعوه.

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في المحاربين، ومسلم في البيوع، وكذا أبو داود والنسائي.




[ قــ :048 ... غــ : 13 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ.
.

قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ".
قَالَ أَبُو عَبْدُ الله: { مُرْجَؤونَ} [التوبة: 106] مُؤخَّرون.
[الحديث 13 - طرفه في: 135] .

وبه قال: ( حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي المنقري قال: ( حدّثنا وهيب) هو ابن خالد ( عن ابن طاوس) عبد الله ( عن أبيه) طاوس بن كيسان اليماني ( عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن يبيع الرجل طعامًا حتى يستوفيه) يقبضه قال طاوس ( قلت لابن عباس) -رضي الله عنهما- ( كيف ذاك؟) أي ما سبب هذا النهي ( قال) ابن عباس: ( ذاك دراهم بدراهم) أي إذا باع المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم ( والطعام مرجأ) بميم مضمومة فراء ساكنة فجيم مفتوحة مخففة فهمزة وقد تترك الهمزة أي مؤخر، ولأبي ذر: مرجًا بالتنوين من غير همز، وفي كتاب الخطابي مرجى بالتشديد للمبالغة، ومعنى الحديث أن يشتري من إنسان طعامًا بدينار إلى أجل ثم يبيعه منه أو من غيره قبل أن يقبضه بدينارين مثلاً فلا يجوز لأنه في التقدير بيع ذهب بذهب والطعام غائب فكأنه قد باعه ديناره الذي اشترى به الطعام بدينارين فهو ربًا

ولأنه بيع غائب يناجز.
قال الزركشي: فيكون والطعام مرجأ مبتدأ وخبرًا في موضع نصب على الحال.

وزاد هنا في رواية أبي ذر عن المستملي ( قال أبو عبد الله) أي البخاري معنى قوله تعالى ( { مرجؤون} ) [التوبة: 106] ( مؤخرون) وهو موافق لتفسير أبي عبيدة.




[ قــ :049 ... غــ : 133 ]
- حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ».

وبه قال: ( حدّثني) بالإفراد ( أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: ( حدّثنا عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( من ابتاع طعامًا فلا يبيعه) ولأبي ذر فلا يبعه بالجزم بلا الناهية ( حتى يقبضه) وفي الرواية السابقة حتى يستوفيه وهما بمعنى.

وفي الحديث قد سبق في باب الكيل على البائع.




[ قــ :050 ... غــ : 134 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يُحَدِّثُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنَ الْغَابَةِ.
قَالَ سُفْيَانُ هُوَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ أنه سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ».
[الحديث 134 - طرفاه في: 170، 174] .

وبه قال: ( حدّثنا عليّ) هو ابن المديني قال: ( حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: ( كان عمرو بن دينار يحدّث عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ( عن مالك بن أوس) بهمزة مفتوحة وبعد الواو الساكنة سين مهملة التابعي وقيل له صحبة ولا يصح ( أنّه قال: من عنده) وفي رواية: من كان عنده ( صرف) أي دراهم يصرف بها دنانير ( فقال طلحة) هو ابن عبيد الله أحد العشرة المبشرة ( أنا) عندي الدراهم ولكن أصبر ( حتى يجيء خازننا) لم يسم هذا الخازن ( من الغابة) بالغين المعجمة والموحدة موضع قريب من المدينة من عواليها به أموال أهل المدينة ومنها عمل المنبر الشريف النبوي.

( قال سفيان) بن عيينة بالسند السابق ( هو) أي الذي كان عمرو بن دينار يحدّث عن الزهري هو ( الذي حفظناه عن الزهري ليس فيه زيادة) وقد حفظ الزيادة مالك وغيره عن الزهري ( فقال) بالفاء قبل القاف أي قال الزهري، ولأبي الوقت قال: ( أخبرني) بالإفراد ( مالك بن أوس) ولابن

عساكر زيادة ابن الحدثان بفتح المهملتين وبالمثلثة ( أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-) حال كونه ( يخبر عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( الذهب بالذهب) ولأبوي ذر والوقت: بالورق بفتح الواو وكسر الراء وهو رواية أكثر أصحاب ابن عيينة عنه وهي رواية أكثر أصحاب الزهري أي بيع الذهب بالذهب أو بالورق ( ربًا) بالتنوين من غير همز ( إلا هاء وهاء) بالمدّ وفتح الهمزة فيهما على الأفصح الأشهر وهي اسم فعل بمعنى خذ تقول هاء درهمًا أي خذ درهمًا فدرهمًا منصوب باسم الفعل كما ينصب بالفعل ويجوز كسر الهمزة نحو هات وسكونها نحو خف والقصر وأنكره الخطابي وأصلها هاك بالكاف فقلبت الكاف همزة حكاه الماوردي والنووي، وليس المراد بكون الكاف هي الأصل أنها من نفس الكلمة وإنما المراد أصلها في الاستعمال وهي حرف خطاب.
قال ابن مالك: وحقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ فإذا وقع يقدر قول قبله يكون به محكيًّا أي إلا مقولاً عنده من المتعاقدين هاء وهاء.

قال الطيبي: فإذا محله النصب على الحال والمستثنى منه مقدّر يعني بيع الذهب بالذهب ربًا في جميع الحالات لا حال الحضور والتقابض فكنى عن التقابض بقوله هاء وهاء لأنه لازمه انتهى.

وعبّر بذلك لأن المعطي قائل خذ بلسان الحال سواء وجد معه بلسان المقال أو لا فالاستثناء مفرّغ من الخبر وفيه حذف مضاف من المبتدأ وحذف مضاف مما بعد إلا.

( والبر بالبر) بضم الموحدة القمح وهو الحنطة أي بيع أحدهما بالآخر ( ربًا إلا) مقولاً عنده من المتعاقدين ( هاء وهاء) أي خذ ( والتمر بالتمر) أي بيع أحدهما بالآخر ( ربًا إلا) مقولاً عنده من المتبايعين ( هاء وهاء والشعير بالشعير) بفتح الشين المعجمة على المشهور وقد تكسر قال ابن مكي الصقلي كل فعيل وسطه حرف حلق مكسور يجوز كسر ما قبله في لغة تميم.
قال: وزعم الليث أن قومًا من العرب يقولون ذلك وإن لم تكن عينه حرف حلق نحو كبير وجليل وكريم أي بيع الشعير بالشعير ( ربًا إلا) مقولاً عنده من المتعاقدين ( هاء وهاء) أي يقول كل واحد منهما للآخر خذ ويؤخذ منه أن البر والشعير صنفان وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وفقهاء المحدثين وغيرهم.
وقال مالك والليث ومعظم علماء المدينة والشام وغيرهم من المتقدمين: أنهما صنف واحد واتفقوا على أن الذرة صنف والأرز صنف إلا الليث بن سعد وابن وهب المالكي فقالا: إن هذه الثلاثة صنف واحد، وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى بعد تسعة عشر بابًا حيث ذكره المؤلّف ولم يذكر في شيء من هذه الأحاديث الحكرة المترجم بها.

قال ابن حجر: وكأن المصنف استنبط من الأمر بنقل الطعام إلى الرحال ومنع بيع الطعام قبل استيفائه فلو كان الاحتكار حرًّا ما لم يأمر بما يؤول إليه وكأنه لم يثبت عنده حديث معمر بن عبد الله مرفوعًا: "لا يحتكر إلا خاطئ" أخرجه مسلم، لكن مجرد إيواء الطعام إلى الرحال لا يلزم الاحتكار لأن الاحتكار الشرعي إمساك الطعام عن البيع وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة الناس إليه.


ويحتمل أن يكون البخاري أراد بالترجمة بيان تعريف الحكرة التي نهي عنها في غير هذا الحديث المراد بها قدر زائد على ما يفسره أهل اللغة وسياق الأحاديث التي فيها تمكين الناس من شراء الطعام ونقله، ولو كان الاحتكار ممنوعًا لمنعوا من نقله، وقد ورد في دم الاحتكار أحاديث كحديث عمر مرفوعًا: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس" أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن وعنده والحاكم بإسناد ضعيف عنه مرفوعًا: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون".