فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل ليلة القدر

باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ {مَا أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: {وَمَا يُدْرِيكَ} فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ.

( بسم الله الرحمن الرحيم) .

( باب فضل ليلة القدر) بفتح القاف وإسكان الدال سميت بذلك لعظم قدرها أي ذات القدر العظيم لنزول القرآن فيها، ووصفها بأنها خير من ألف شهر، أو لما يحصل لمحييها بالعبادة من القدر الجسيم، أو لأن الأشياء تقدر فيها وتقضى لقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وتقدير الله تعالى سابق فهي ليلة إظهار الله تعالى ذلك التقدير للملائكة ويجوز فتح الدال على أنه مصدر قدر الله الشيء قدرًا وقدر لغتان كالنهر والنهر، وقال سهل بن عبد الله: لأن الله تعالى يقدر الرحمة فيها على عباده المؤمنين، وعن الخليل بن أحمد لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة من قوله: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] وقد سقطت البسملة لغير أبي ذر ( وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه أي في بيان تفسير قول الله تعالى، ولا ذر وابن عساكر: وقال الله تعالى: ( {إنا أنزلناه}) أي القرآن ( {في ليلة القدر}) بإسكان الدال من غير خلاف بين القراء وكان إنزاله فيها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع ( {وما أدراك ما ليلة القدر}) تفخيم وتعظيم بلفظ الاستفهام ( {ليلة القدر خير من ألف شهر}) أي من ألف شهر ليس فيها تلك الليلة أو العمل في تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وعند ابن أبي

حاتم بسنده إني مجاهد مرسلاً ورواه البيهقي في سننه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب المسلمون من ذلك قال فأنزل الله تعالى: ( {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) [سورة القدر] التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر، وعند ابن أبي حاتم أيضًا بسنده إلى علي بن عروة ذكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومًا أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله مائتي عام لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ذلك فأتاه جبريل فقال: عجبت أمتك من عبادة ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين فقد أنزل الله تعالى خيرًا من ذلك فقرأ عليه: {إنّا أنزلناه في ليلة القدر} هذا أفضل مما عجبت أمتك قال: فسرّ ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس معه.

وعن مالك مما في الموطأ أنه قال: سمعت من أثق به يقول: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر إليه أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرًا من ألف شهر قال: وقد خص الله تعالى بها هذه الأمة فلم تكن لمن قبلهم على الصحيح المشهور وهل هي باقية أو رفعت؟ حكى الثاني المتولي في التتمة عن الروافض، وحكى الفاكهاني أنها خاصة بسنة واحدة ووقعت في زمنه عليه الصلاة والسلام وهل هي ممكنة في جميع السنة؟ وهو قول مشهور عن الحنفية أو مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه.
رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيح، ورواه عنه أبو داود مرفوعًا، ورجحه السبكي في شرح المنهاج، أو هي أول ليلة من رمضان رواه أبو عاصم من حديث أنس، أو ليلة النصف منه حكاه ابن الملقن في شرح العمدة.
وفي قول حكاه القرطبي في المفهم أنها ليلة نصف شعبان أو هي ليلة سبع عشرة من رمضان رواه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم، أو مبهمة في العشر الأوسط حكاه النووي، أو ليلة ثماني عشرة ذكره ابن الجوزي، أو ليلة تسع عشرة رواه عبد الرزاق عن علي، وأول ليلة من العشر الأخير وإليه مال الشافعي، أو هي ليلة اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين رواه ابن العربي في العارضة، أو سبع وعشرين ورواه مسلم وغيره، أو تسع وعشرين أو ليلة الثلاثين أو في أوتار العشر أو تنتقل في العشر الأخير كله قاله أبو قلابة، وقيل غير ذلك.
والحكمة في إخفائها ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عينت.

( {تنزل الملائكة والروح}) أي جبريل أو ضرب من الملائكة أي يكثر تنزلهم ( فيها) لكثرة بركتها ( {بإذن ربهم}) فلا يمرون بمؤمن إلا سلموا عليه ( {من كل أمر}) أي تنزل من أجل كل أمر قدر في تلك السنة ( {سلام هي}) أي ليس إلا سلامة لا يقدر فيها شر وبلاء أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو ما هي إلا سلام لكثرة سلام الملائكة على أهل المساجد ( {حتى مطلع الفجر}) [القدر: 1 - 5] غاية بين تعميم السلامة أو السلام كل الليلة إلى وقت طلوعه، ولفظ رواية أبي ذر.
( ما ليلة القدر) إلى آخر السورة.
ولابن عساكر: الخ.


( قال ابن عيينة) سفيان مما وصله محمد بن يحيى بن أبي عمر في كتاب الإيمان له ( ما كان في القرآن ما) ولأبي ذر وابن عساكر: {وما ( أدراك} فقد أعلمه) الله به ( وما قال) ولابن عساكر: وما كان ( وما يدريك فإنّه لم يعلمه) الله به، ولأبي ذر وابن عساكر: لم يعلم وتعقب هذا الحصر بقوله تعالى: {وما يدريك لعله يزكى} [عبس: 3] فإنها نزلت في ابن أم مكتوم وقد علم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحاله وإنه ممن تزكى ونفعته الذكرى.


[ قــ :1932 ... غــ : 2014 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ وَإِنَّمَا حَفِظَ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

وبالسند قال ( حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: ( حدّثنا سفيان) بن عيينة ( قال: حفظناه) أي هذا الحديث ( وإنما حفظ) بكسر الهمزة وكلمة إن التي أضيفت إليها كلمة ما للحصر وحفظ بفتح الحاء وكسر الفاء على صيغة الماضي أي قال علي بن عبد الله المديني: وإنما حفظ سفيان هذا الحديث ( من الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب، ولأبي ذر: وأيما حفظ بهمزة مفتوحة ومثناة تحتية مشدّدة وحفظ بكسر الحاء وسكون الفاء مصدر حفظ يحفظ، وأي مرفوع بالابتداء مضاف إلى حفظ، وما زائدة والخبر حفظناه مقدرًا بعده أي وأي حفظ حفظناه من الزهري يدل عليه حفظناه الأول، ومن الزهري متعلق بحفظناه المذكور قبل، والمراد أنه يصف حفظه بكمال الأخذ وقوة الضبط لأن أحد معاني أيّ الكمال كما تقول: زيد رجل أيّ رجل أي كامل في صفات الرجال ( عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( من صام رمضان) في رواية مالك عن الزهري في الباب الذي قبل هذا من قام بدل من صام ( إيمانًا واحتسابًا) أي تصديقًا وطلبًا لرضا الله وثوابه لا بقصد رؤية الناس ولا غيرهم مما ينافي الإخلاص ( غفر له ما تقدم من ذنبه) من الصغائر، ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ( ومن قام ليلة القدر) زاد مسلم فيوافقها ( إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) زاد النسائي في سننه الكبرى في رواية "وما تأخر".

وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: فمن قامها إيمانًا واحتسابًا ثم وقفت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وحديثه حسن.

وفي مسلم كما مرّ من يقم ليلة القدر فيوافقها قال النووي: يعني يعلم أنها ليلة القدر، وقال في شرح التقريب: إنما معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قامها

بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم وذلك، وما ذكره النووي من أن معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر مردود وليس في اللفظ ما يقتضي هذا ولا المعنى يساعده.

وقال في فتح الباري: الذي يترجح في نظري ما قاله النووي ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به فليأمل، وقد فرعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص فتكشف لواحد ولا تكشف لآخر ولو كانا معًا في بيت واحد.

( تابعه) أي تابع سفيان ( سليمان بن كثير) العبدي في روايته ( عن الزهري) وهذا مما وصله الذهلي في الزهريات.