فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان

باب هَلْ يَقْضِى الْحَاكِمُ أَوْ يُفْتِى وَهْوَ غَضْبَانُ؟
هذا ( باب) بالتنوين يذكر فيه ( هل يقضي الحاكم) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي القاضي أي بين الناس ( أو يفتي وهو غضبان) ؟

[ قــ :6776 ... غــ : 7158 ]
- حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ بِأَنْ لاَ تَقْضِىَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهْوَ غَضْبَانُ».

وبه قال: ( حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: ( حدّثنا عبد الملك بن عمير) بضم العين وفتح الميم الكوفي قال: ( سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة) نفيع الثقفي ( قال: كتب) أبي ( أبو بكرة إلى ابنه) بالنون ولده عبيد الله بالتصغير ( وكان) عبيد الله قاضيًا ( بسجستان) بكسر المهملة والجيم على الصحيح غير منصرف للعلمية والعجمية وفيه الزيادة والتأنيث إحدى مدن العجم وهي خلف كرمان مسيرة مائة فرسخ منها أربعون مفازة ليس بها ماء وهي إلى ناحية الهند ( بأن لا تقضي بين اثنين) .

وفي عمدة الأحكام: كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبيد الله وهو موافق لرواية مسلم إلا أنه زاد لفظة ابنه، والضمير في ابنه عائد إلى أبي بكرة، وصرح في بعض الروايات فقال وكتبت له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة.
والحاصل أن أبا بكرة له ابن يسمى عبيد الله وهو المكتوب إليه وابن آخر يسمى عبد الرحمن راوي الحديث الذي كتب إلى أخيه عبيد الله به، وهذا التركيب يحتمل أن يكون أبو بكرة كتب بنفسه إلى ابن عبيد الله، وكتب عبد الرحمن لأخيه عبيد الله بمثل ما كتب أبو بكرة، ولكن عبد الرحمن إنما كتب لأجل أبيهما أي لأجل أمره وطواعيته ونحو ذلك ففيه تنازع بين كتب وبين كتبت في المفعول وهو أن لا يحكم بين اثنين وفي الجار والمجرور وهو إلى ابنه، ويكون قد أعمل أحدهما وأضمر في الآخر ولكنه حذف لكونه فضلة، وتعقبه في الفتح بأنه لا يتعين ذلك بل الذي يظهر أن قوله كتب أبي أي أمر بالكتابة وقوله وكتبت أي باشرت الكتابة التي أمر بها والأصل عدم التعدد، وتعقبه العيني فقال: الأصل عدم التعدد والأصل عدم ارتكاب المجاز والعدول عن ظاهر الكلام لا لعلة وما المانع من التعدد اهـ.

أو يكون المراد كتب أبي إليّ أن أكتب لابنه، ولكن حذف المفعول وهو المجرور بإلى ثم قال: وكتبت له إلى ابنه بذلك أي لأجل أمره لي بأن أكتب وعلى هذا فلا تنازع في المجرور بل في المفعول الذي هو المصدر المنسبك من أن لا تحكم الخ وأعمل أحدهما وحذف الآخر لأنه غير عمدة على ما سبق، أو يكون المراد أن كلاًّ من أبي بكرة وعبد الرحمن كتب إلى عبيد الله وكتابة ثانيهما إليه تأكيد لكتابة الأوّل، وكتابة عبد الرحمن إنما كانت لأجل أبي بكرة على معنى أنه كتب ذلك عن أبيه لا من قبل نفسه أو يكون أبو بكرة أمر بالكتابة فنسب إليه أنه كتب تجوّزًا بالسبب
عن المسبب وفيه نظر لرواية النسائي.
قال عبد الرحمن بن أبي بكرة كتب إليّ أبو بكرة يقول: ْسمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول الخ.
وفي رواية مسلم أن لا تحكم بين اثنين ( وأنت غضبان) جملة في موضع الحال وغضبان لا ينصرف والغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام وعند الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا: ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ( فإني سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) الفاء في فإني سببية.

( لا يقضين) بتشديد النون تأكيد للنهي ( حكم) بفتحتين أي حاكم ( بين اثنين وهو غضبان) لأن الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به التغير للفكر كجوع وشبع مفرطين ومرض مؤلم وخوف مزعج وفرح شديد وغلبة نعاس وهمّ مضجر ومدافعة حدث وحرّ مزعج وبرد منكر وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر وعن أبي سعيد عند البيهقي بسند ضعيف مرفوعًا: لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان، واقتصر على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره نعم إن غضب لله ففي الكراهة وجهان.
قال البلقيني: المعتمد عدم الكراهة واستبعده غيره لمخالفته لظواهر الأحاديث وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم حال الغضب، ولو خالف وحكم وهو غضبان صحّ أن صادف الحق مع الكراهة، وعن بعض الحنابلة لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقتضي الفساد، وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلاّ فهو محل الخلاف.

والحديث أخرجه مسلم في الأحكام، وأبو داود في القضاء، والترمذي في الأحكام، والنسائي في القضايا وابن ماجة في الأحكام.




[ قــ :6777 ... غــ : 7159 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِى خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى وَاللَّهِ لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ».

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي المجاور قال: ( أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: ( أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد) الكوفي الحافظ ( عن قيس بن أبي حازم) أبي عبد الله البجلي التابعي الكبير فاتته الصحبة بليال ( عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو بفتح العين وسكون الميم ( الأنصاري) الخزرجي البدري أنه ( قال: جاء رجل) لم يسم أو هو سليم بن الحارث ( إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر إلى النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة) الصبح فلا أصليها مع الإمام ( من أجل فلان) هو معاذ بن جبل أو أبي بن كعب كما في مسند أبي يعلى ( مما يطيل بنا فيها) في
صلاة الغداة ومن ابتدائية متعلقة بأتأخر ( قال) أبو مسعود ( فما رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قطّ أشد غضبًا في موعظة منه يومئذٍ) وفيه وعيد شديد على من يسعى في تخلف الغير عن الجماعة ( ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
( يا أيها الناس) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أيها الناس بإسقاط أداة النداء ( إن منكم منفرين فأيكم ما صلّى بالناس فليوجز) بسكون اللام وبالجيم المكسورة بعدها زاي وما صلة مؤكدة لمعنى الإبهام في أيّ وصلى فعل شرط وفليوجز جوابه كقوله تعالى: { أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] ( فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة) .

والحديث سبق في العلم في باب الغضب في الموعظة وفي كتاب الصلاة في باب تخفيف الإمام في القيام.




[ قــ :6778 ... غــ : 7160 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِىُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنِى سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا، حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا».

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن أبي يعقوب) إسحاق ( الكرماني) بفتح الكاف عند المحدّثين وأهلها يكسرونها قال: ( حدّثنا حسان بن إبراهيم) بفتح الحاء المهملة المشددة الكرماني العنزي قاضي كرمان قال: ( حدّثنا يونس) بن يزيد الأيلي ( قال محمد) : ولأبي ذر: حدّثنا محمد هو الزهري قال: ( أخبرني) بالإفراد ( سالم أن) أباه ( عبد الله بن عمر) -رضي الله عنهما- ( أخبره أنه طلّق امرأته) آمنة بمدّ الهمزة وكسر الميم بنت غفار بالغين المعجمة المكسورة والفاء ( وهي حائض) الواو للحال من امرأته أو من ضمير الفاعل ( فذكر عمر) ذلك ( للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتغيظ) أي غضب ( فيه) أي في الفعل المذكور وهو الطلاق وتغيظ مطاوع غظته فتغيظ ولأبي ذر عن الكشميهني عليه أي على ابن عمر ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قال) : يحتمل أن يكون ثم هنا بمعنى الواو لأن قوله مقارن تغيظه، ويحتمل أن تكون على بابها وإن قوله بعد زوال الغيظ واللام في قوله:
( ليراجعها) لام الأمر والفعل مجزوم وكذا قوله ( ثم يمسكها) ويجوز في المعطوف الرفع على الاستئناف أي ثم هو يمسكها والأمر للندب في قول إمامنا الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وفقهاء المحدّثنين وللوجوب عند مالك وأصحابه والصارف له عن الوجوب قوله تعالى: { فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف} [الطلاق: ] وغيره من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها ولمسلم ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( فتطهر) منها ( فإن بدا له) بعد طهرها من الحيض الثاني ( أن يطلقها فليطلقها) قبل أن يجامعها.
قال البيضاوي: وفي الحديث فوائد حرمة الطلاق في الحيض لتغيظه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه وهو لا يتغيظ إلا في حرام والتنبيه على أن علة التحريم تطويل العدة عليها وإن العدة بالإطهار لا بالحيض.

والحديث سبق في الطلاق.