فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: المدينة تنفي الخبث

باب الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ
هذا ( باب) بالتنوين ( المدينة تنفي الخبث) .


[ قــ :1797 ... غــ : 1883 ]
- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا

فَقَالَ أَقِلْنِي، فَأَبَى -ثَلاَثَ مِرَارٍ- فَقَالَ: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا".

[الحديث 1883 - أطرافه في: 7209، 7211، 7216، 7322] .

وبالسند قال: ( حدّثنا عمرو بن عباس) بفتح العين وسكون الميم وعباس بالموحدة وبعد الألف مهملة الباهلي البصري أو هو الأهوازي قال: ( حدّثنا عبد الرحمن) بن مهدي قال: ( حدّثنا سفيان) الثوري ( عن محمد بن المنكدر عن جابر) السلمي بفتح السين المهملة واللام ( -رضي الله عنه-) أنه ( قال: جاء أعرابي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر فوجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد مات، فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه، وفي الذيل لأبي موسى في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا.
( فبايعه على الإسلام فجاء من الغد) حال كونه ( محمومًا فقال) : للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( أقلني) قال عياض من المبايعة على الإسلام، وقال غيره إنما استقالته على الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام.
قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ذلك، ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك، وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقيله ( ثلاث مرار) تنازعه الفعلان قبله وهما قوله فقال، وقوله فأبى أي قال ذلك ثلاث مرات وهو-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأبى من إقالته وإنما لم يقله بيعته لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله إذ لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كانت قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه، ( فقال) : عليه الصلاة والسلام:
( المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي تنفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي خبثها) بمعجمة فموحدة مفتوحتين ومثلثة ما تبرزه النار من الوسخ والقذر ( وينصع طيبها) بفتح الطاء وتشديد التحتية وبالرفع فاعل ينصع وهو بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد المهملة آخره عين مهملة من النصوع وهو الخلوص، ولأبي ذر عن المحموي والمستملي: وتنصع بالمثناة الفوقية أي المدينة طيبها بكسر الطاء وسكون التحتية منصوب على المفعولية كذا في اليونينية والرواية الأولى في طيبها.

قال أبو عبد الله الأبي: هي الصحيحة وهي أقوم معنى وأي مناسبة بين الكير والطيب اهـ.

وهذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر، وهذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار، وإن أريد به الموضع فيكون المعنى إن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والفضة والذهب ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم، وليس الوصف عامًا لها في جميع الأزمنة بل هو خاص بزمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه لم يكن يخرج عنها رغبة في عدم الإقامة معه إلا من لا خير فيه، وقد خرج منها بعده جماعة من خيار الصحابة وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها.
كابن مسعود، وأبي

موسى، وعلي، وأبي ذر، وعمار، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وأبي عبيدة، ومعاذ، وأبي الدرداء وغيرهم.
فدلّ على أن ذلك خاص بزمنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقيد المذكور.




[ قــ :1798 ... غــ : 1884 ]
- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَقْتُلُهُمْ، .

     وَقَالَتْ  فِرْقَةٌ: لاَ نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينِ فِئَتَيْنِ} [انساء: 88] .

     وَقَالَ  النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ".
[الحديث 1884 - طرفاه في: 4050، 4589] .

وبه قال: ( حدّثنا سليمان بن حرب) قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج ( عن عديّ بن ثابت) الأنصاري الصحابي ( عن عبد الله بن يزيد) من الزيادة الخطمي الأنصاري الصحابي أنه ( قال: سمعت زيد بن ثابت -رضي الله عنه- يقول: لما خرج النبي) ولأبي ذر: رسول الله ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى) غزوة ( أحد) وكانت سنة ثلاث من الهجرة ( رجع ناس من أصحابه) عليه الصلاة والسلام من الطريق وهم عبد الله بن أبي ومن تبعه ( فقالت فرقة) من المسلمين ( نقتلهم) أي نقتل الراجعين، ( وقالت فرقة) : منهم ( لا نقتلهم) لأنهم مسلمون ( فنزلت) لما اختلفوا { فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88] أي تفرقتم في أمرهم فرقتين حال عاملها لكم وفي المنافقين متعلق بما دل عليه فئتين أي متفرقين فيهم، ( وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( إنها) أي المدينة ( تنفي الرجال) جمع رجل والألف واللام للعهد أي شرارهم وأخساءهم أي تميز وتظهر شرار الرجال من خيارهم، ولأبي ذر عن الكشميهني: تنفي الدجال بالدال وتشديد الجيم.
قال في الفتح: وهو تصحيف، وفي غزوة أحد تنفي الذنوب، وفي تفسير سورة النساء تنفي الخبث، وأخرجه في هذه المواضع كلها من طريق شعبة، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من رواية غندر عن شعبة باللفظ الذي أخرجه في التفسير من طريق غندر وغندر يثبت الناس في شعبة وروايته توافق رواية حديث جابر الذي قبله حيث قال فيه: تنفي خبثها، وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة تنفي الناس، والرواية التي هنا تنفي الرجال لا تنافي الرواية التي بلفظ الخبث بل هي مفسرة للرواية المشهورة بخلاف تنفي الذنوب، ويحتمل أن يكون فيه حذف تقديره أهل الذنوب فتلتئم مع باقي الروايات اهـ.

( كما تنفي النار خبث الحديد) وتبقي الطيب أزكى ما كان وأخلص وكذلك المدينة.

وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في المغازي والتفسير ومسلم في المناسك وفي ذكر المنافقين والترمذي والنسائي في التفسير.


باب
هذا ( باب) بالتنوين بلا ترجمة فهو بمعنى الفصل من الباب وفيه حديثان فمناسبة الأول لما سبق من جهة أن تضعيف البركة وتكثيرها يلزم منه تقليل ما يضادها فناسب نفي الخبث ومناسبة الثاني من جهة أن حب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمدينة يناسب طيب ذاتها وأهلها، وسقط لفظ باب لأبي ذر.




[ قــ :1799 ... غــ : 1885 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَىْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ».

تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ.

وبالسند قال: ( حدّثنا) بالجمع ولأبوي ذر والوقت حدثني ( عبد الله بن محمد) المسندي بفتح النون أو بكسرها قال: ( حدّثنا وهب بن جرير) بفتح الجيم قال: ( حدّثنا أبي) جرير بن حازم قال: ( سمعت يونس) بن يزيد الأيلي ( عن ابن شهاب) الزهري ( عن أنس) هو ابن مالك ( -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( اللهم اجعل بالمدينة ضعفي) تثنية ضعف بالكسر، قال في القاموس مثله وضعفاه مثلاه أو الضعف المثل إلى ما زادوا يقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله لأنه زيادة غير محصورة وقول الله تعالى: { يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] أي ثلاثة أعذبة ومجاز يضاعف أي يجعل إلى الشيء شيئان حتى يصير ثلاثة اهـ.

وقال الفقهاء في الوصية بضعف نصيب ابنه مثلاه وبضعفيه ثلاثة أمثاله عملاً بالعرف في الوصايا وكذا في الأقارير نحو له على ضعف درهم فيلزمه درهمان لا العمل باللغة والمعنى هنا اللهم اجعل بالمدينة مثلي ( ما جعلت بمكة من البركة) أي الدنيوية إذ هو مجمل فسره الحديث الآخر اللهم بارك لنا في صاعنا ومدّنا فلا يقال أن مقتضى إطلاق البركة أن يكون ثواب صلاة المدينة ضعفي ثواب الصلاة بمكة، أو المراد عموم البركة، لكن خصت الصلاة ونحوها بدليل خارجي فاستدلّ به على تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية على الإطلاق وأيضًا لا دلالة في تضعيف الدعاء للمدينة على فضلها على مكة إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الشأم واليمن أفضل من مكة لقوله في الحديث الآخر: اللهم بارك لنا في شأمنا ويمننا أعادها ثلاثًا وهو باطل لما لا يخفى فالتكرير للتأكيد والمعنى واحد قال الأبي: ومعنى ضعف ما بمكة أن المراد ما أشبع بغير مكة رجلاً أشبع بمكة رجلين وبالمدينة ثلاثة فالأظهر في الحديث أن البركة إنما هي في الاقتيات.
وقال النووي في نفس المكيل بحيث يكفي المد فيها من لا يكفيه في غيرها وهذا أمر محسوس عند من سكنها.


وهذا الحديث أخرجه مسلم في الحج.

( تابعه) أي تابع جرير بن حازم ( عثمان بن عمر) بضم العين البصري مما وصله الذهلي في الزهريات ( عن يونس) بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب.




[ قــ :1800 ... غــ : 1886 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا، مِنْ حُبِّهَا".

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: ( حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري الزرقي ( عن حميد) بضم الحاء وفتح الميم مصغرًا ابن أبي حميد الطويل البصري ( عن أنس -رضي الله عنه-) :
( أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة) بضم الجيم والدال جمع جدار جمع سلامة ( أوضع) بفتح الهمزة وسكون الواو وبالضاد المعجمة أي حمل ( راحلته) على السير السريع ( وإن كان على دابة حركها من حبها) أي حرك الدابة من حب المدينة وقد استجاب الله تعالى دعاء نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث دعا اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها اللهم حببها إلينا وحبب صالحي أهلها فينا واجعل لنا بها قرارًا ورزقًا وتوفنا بها في عافية بلا محنة.