فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب تفسير العرايا

باب تَفْسِيرِ الْعَرَايَا
وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ.

وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: الْعَرِيَّةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِالْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، لاَ يَكُونُ بِالْجِزَافِ.
وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ.
.

     وَقَالَ  ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: كَانَتِ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ وَالنَّخْلَتَيْنِ.
.

     وَقَالَ  يَزِيدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنَ التَّمْرِ.

( باب تفسير العرايا) جمع عرية وهي لغة النخلة ووزنها فعيلة.
قال الجمهور: بمعنى فاعلة لأنها عريت بإعراء مالكها أي إفراده لها من باقي النخل فهي عارية.
وقال آخرون: بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا أتاه لأن مالكها يعروها أي يأتيها فهي معروّة وأصلها عريوة فقلبت الواو ياء وأدغمت فتسمية العقد بذلك على القولين مجاز عن أصل ما عقد عليه.

( وقال مالك) الإمام الأعظم ابن أنس الأصبحي مما وصله ابن عبد البرّ ( العرية) بتشديد التحتية ( أن يعري) بضم الياء من الإعراء أي يهب ( الرجل الرجل نخلة) من نخلات بستانه فيملكها لأن عند الإمام مالك أن الهبة تلزم بنفس العقد أي يهبه ثمرها ( ثم يتأذى) الواهب ( بدخوله) أي بدخول الموهوب له ( عليه) البستان لأجل الثمرة الموهوبة والتقاطها ( فرخص) بضم الراء مبنيًّا للمفعول ( له) أي للواهب ( أن يشتريها منه) أي يشتري رطبها من الموهوب له ( بتمر) يابس، ولا يجوز لغيره ذلك.
ومثله قول أبي حنيفة -رحمه الله- العرية أن يهبه نخلة ويشق عليه تردّد الموهوب له إلى بستانه ويكره أن يرجع في هبته وهذا بناء على مذهبه في أن الواهب الأجنبي يرجع في هبته متى شاء لكن يكره فيدفع إليه بدلها تمرًا ويكون هذا في معنى البيع لا أنه بيع حقيقة، وكِلا القولين بعيد عن لفظ الحديث لأن لفظ إرخاص العرية فيها عامّ وهما يقيدانها بصورة وأيضًا فقد صرّح بلفظ البيع فنفي كونه بيعًا مخالف لظاهر اللفظ وأيضًا الرخصة قيدت بخمسة أوسق أو ما دونها والهبة لا تتقيد.

( وقال ابن إدريس) : الإمام أبو عبد الله محمد الشافعي وجزم به المزي في التهذيب، أو هو عبد الله بن إدريس الأودي ورجحه السفاقسي وتردّد ابن بطال ثم السبكي في شرح المهذّب ( العرية) بالتشديد ( لا تكون إلا بالكيل) أي فيما دون خمسة أوسق ( من التمر) لتعلم المساواة ( يدًا بيد) قبل التفرق لكن قبض الرطب على النخل بالتخلية وقبض التمر بالنقل كغيره ( لا تكون بالجزاف) بكسر الجيم في الفرع وأصله: فيسلم المشتري التمر اليابس بالكيل ويخلي بينه وبين النخل، وعبارة الشافعي في الأم ونقلها عنه البيهقي في المعرفة من طريق الربيع عنه العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة

وأكثر بخرصه من التمر بأن يخرص الرطب ثم يقدّر كم ينقص إذا يبس ثم يشتري بخرصه تمرًا، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع انتهى.
قال في الفتح: وهذا وإن غاير ما علقه البخاري لفظًا فهو يوافقه في المعنى لأن محصلهما أن لا يكون جزافًا ولا نسيئة.

( ومما يقويه) أي القول السابق بأن لا يكون جزافًا ( قول سهل بن أبي حثمة) عند الطبري من طريق الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن سهل موقوفًا ( بالأوسق الموسقة) وفائدة قوله الموسقة التأكيد كما في قوله: { والقناطير المقنطرة} [آل عمران: 14] وهو يعطي أنها المكيلة عند البيع.

( وقال ابن إسحاق) : هو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي مما وصله الترمذي ( في حديثه عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه قال: ( كانت العرايا أن يعري الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين) وصله الترمذي بدون تفسير، وأما التفسير فوصله أبو داود عنه بلفظ: النخلات وزاد فيه فيشق عليه فيبيعها بمثل خرصها.

( وقال يزيد) هو ابن هارون الواسطي ( عن سفيان بن حسين) الواسطي من أتباع التابعين مما وصله من حديثه الإمام أحمد عن الزهري عن سلم عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعًا: في العرايا: قال سفيان بن حسين: ( العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها) أي إلى أن يصير رطبها تمرًا ولا يحبون أكلها رطبًا لاحتياجهم إلى التمر ( فرخص لهم) بضم الراء مبنيًّا للمفعول ( أن يبيعوها) بعد خرصها ( بما شاؤوا من التمر) من الواهب أو من غيره يأخذونه معجلاً.
وهذه إحدى صور العرية وهي صحيحة عند الشافعية كغيرها، وقد حكي عن الشافعي تقييدها بالمساكين على ما في هذا الحديث وهو اختيار المزني، والصحيح أنه لا يختص بالفقراء بل يجري في الأغنياء لإطلاق الأحاديث فيه، وما رواه الشافعي عن زيد بن ثابت: أن رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه مع الناس وعندهم فضل قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر.

أجيب عنه: بأنه ضعيف وبتقدير صحته فهو حكمة المشروعية، ثم قد يعم الحكم كما في الرمل والاضطباع على أنه ليس فيه أكثر من أن قومًا بصفة سألوا فرخص لهم، واحتمل أن يكون سبب الرخصة فقرهم أو سؤالهم والرخصة عامّة فلما أطلقت في أحاديث أُخر تبين أن سببها السؤال كما لو سأل غيرهم، وإن ما بهم من الفقر غير معتبر إذ ليس في لفظ الشارع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يدل لاعتباره، وعند الحنابلة: لا تجوز العرية إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو المشتري إلى الرطب.


[ قــ :2108 ... غــ : 2192 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنهم-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً".
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَالْعَرَايَا نَخَلاَتٌ مَعْلُومَاتٌ تَأْتِيهَا فَتَشْتَرِيهَا.


وبه قال: ( حدّثنا محمد) زاد أبو ذر: هو ابن مقاتل المروزي المجاور بمكة قال: ( أخبرنا عبد الله بن المبارك) قال: ( أخبرنا موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف الأسدي ( عن نافع) مولى ابن عمر ( عن ابن عمر عن زيد بن ثابت -رضي الله عنهم- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص في العرايا أن تباع) ثمرتها الرطب والعنب ( بخرصها) بقدره من اليابس ( كيلاً) نصب على التمييز أي من حيث الكيل.

( قال موسى بن عقبة) بالسند السابق ( والعرايا نخلاف معلومات تأتيها فتشتريها) بتاء الخطاب فيهما كما في الفرع وأصله، وفي بعض الأصول بياء الغيبة، وفي آخر بالنون أي تشتري ثمرتها بتمر معلوم.
قال في الفتح: وكأنه اختصره للعلم به ولم أجده في شيء من الطرق عنه إلا هكذا ولعله أراد أن يبين أنها مشتقة من عروت إذا أتيت وتردّدت إليه لا من العري الذي هو بمعنى التجرّد.