فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ
( باب ما يكره من التشديد في العبادة) خشية الملال المفضي إلى تركها، فيكون كأنه رجع فيما بذله من نفسه وتطوّع به.


[ قــ :1112 ... غــ : 1150 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ".

وبالسند قال: ( حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المنقري ( قال: حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد التنوري ( عن عبد العزيز بن صهيب) البناني، ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي: حدّثنا عبد العزيز بن صهيب ( عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال) :
( دخل النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المسجد ( فإذا حبل ممدود بين الساريتين) الأسطوانتين المعهودتين ( فقال) :
( ما هذا الحبل؟ قالوا) أي: الحاضرون من الصحابة، وللأصيلي: فقالوا ( هذا حبل لزينب) بنت جحش أم المؤمنين، رضي الله عنها، ( فإذا فترت) بالفاء والفوقية والراء المفتوحات، أي: كسلت عن القيام ( تعلقت) به ( فقال النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لا) يكون هذا الحبل، أو: لا يمد أو: لا تفعلوه، وسقطت هذه الكلمة عند مسلم ( حلوه ليصل أحدكم نشاطه) بكسر لام: ليصل، وفتح نون: نشاطه، أي: ليصل أحدكم وقت نشاطه، أو الصلاة التي نشط لها.

وقال بعضهم: يعني، ليصل الرجل عن كمال الإرادة والذوق، فإنه في مناجاة ربه، فلا تجوز له المناجاة عند الملال.
انتهى.
وللأصيلي: بنشاطه، بزيادة الموحدة، أوّله أي: متلبسًا به.

( فإذا فتر) في أثناء القيام ( فليقعد) ويتم صلاته قاعدًا، أو: إذا فتر بعد فراغ بعض التسليمات فليقعد لإيقاع ما بقي من نوافله قاعدًا، أو: إذا فتر بعد انقضاء البعض فليترك بقية النوافل جملة، إلى

أن يحدث له نشاط، أو: إذا فتر بعد الدخول فيها فليقطعها، خلافًا للمالكية حيث منعوا من قطع النافلة بعد التلبس بها.




[ قــ :1113 ... غــ : 1151 ]
- قَالَ:.

     وَقَالَ  عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ: فُلاَنَةُ، لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ -فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا- فَقَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا".

(قال: وقال عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) قال الحافظ ابن حجر: كذا للأكثر، وفي رواية الحموي والمستملي: حدّثنا عبد الله، وكذا رويناه في الموطأ من رواية القعنبي.

قال ابن عبد البر تفرد القعنبي بروايته عن مالك في الموطأ دون بقية رواته، فإنهم اقتصروا على طرف منه مختصر.

(عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة، رضي الله عنها، (قالت):
(كانت عندي امرأة من بني أسد، فدخل عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال):
(من هذه؟ قلت) وللأصيلي: فقلت: (فلانة) غير منصرف، وهي: الحولاء بنت تويت (لا تنام من الليل) ولأبي ذر، والأصيلي: لا تنام الليل، بالنصب على الظرفية.

قال عروة (فذكر من صلاتها).
بفاء العطف وضم الذال مبنيًا للمفعول، وللمستملي: تذكر، بفتح أوّله وضم ثالثه بلفظ المضارع، وللحموي: يذكر بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول، ويحتمل أن يكون على هاتين الروايتين من قول عائشة، وعلى كل من الثلاثة تفسير لقولها: لا تنام الليل (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(مه) بفتح الميم وسكون الهاء بمعنى: اكفف (عليكم) أي: الزموا (ما) ولأبي الوقت: بما (تطيقون من الأعمال) صلاة وغيرها، (فإن الله لا يمل حتى تملوا) بفتح الميم فيهما.

قال البيضاوي، الملال فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيورث الكلال في الفعل والإعراض عنه، وأمثال ذلك على الحقيقة إنما تصدق في حق من يعتريه التغير والانكسار.
فأما من تنزه عن ذلك فيستحيل تصوّر هذا المعنى في حقه.
فإذا أسند إليه أوّل بما هو منتهاه وغاية معناه، كإسناد الرحمة والغضب والحياء والضحك، إلى الله تعالى.

والمعنى، والله أعلم؛ اعملوا حسب وسعكم وطاقتكم، فإن الله تعالى لا يعرض عنكم إعراض الملول، ولا ينقص ثواب أعمالكم ما بقي لكم نشاط، فإذا فترتم فاقعدوا فإنكم إذا مللتم من العبادة وأتيتم بها على كلال وفتور، كانت معاملة الله معكم حينئذٍ معاملة الملول.


وقال التوربشتي: إسناد الملال إلى الله على طريقة الازدواج والمشاكلة: والعرب تذكر إحدى اللفظتين موافقة للأخرى، وإن خالفتها معنى، قال الله تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .