فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: الصلاة من الإيمان

باب الصَّلاَةُ مِنَ الإِيمَانِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يَعْنِي صَلاَتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
هذا ( باب) بالتنوين ( الصلاة من الإيمان) أي شعبة من شعبه مبتدأ وخبر ويجوز إضافة الباب إلى الجملة ولفظ باب ساقط عند الأصيلي ( وقول الله تعالى) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي عز وجل وقول بالرفع عطفًا على لفظ الصلاة والجر عطفًا على المضاف إليه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بالخطاب، وكان المقام يقتضي الغيبة، لكنه قصد تعميم الحكم للأمة الأحياء والأموات فذكر الأحياء المخاطبين تغليبًا لهم على غيرهم، وفسر البخاري الإيمان بقوله: ( يعني صلاتكم) بمكة ( عند البيت)
الحرام إلى بيت المقدس.
قال في الفتح: قد وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الذي أخرج منه المصنف حيث الباب؛ وروى النسائي والطيالسي فأنزل الله { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] صلاتكم إلى بيت المقدس، وعلى هذا فقول المصنف عند البيت مشكل مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات ولا اختصاص بذلك لكونه عند البيت، وقد قيل: إنه تصحيف والصواب يعني صلاتكم لغير البيت قال الحافظ ابن حجر وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب ومقاصد البخاري دقيقة وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توجه إليها للصلاة وهو بمكة فقال ابن عباس وغيره إلى بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس وقال آخرون كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين والأول أصح لأنه يجمع بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس فكان البخاري رحمه الله تعالى أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس واقتصر على ذلك اكتفاة بالأولوية لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه والله أعلم.



[ قــ :40 ... غــ : 40 ]
- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلاَّهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ، وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا -كَمَا هُمْ- قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.

قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

[الحديث 40 - أطرافه في: 399، 4486، 4492، 7252] .

وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين ابن فروخ الحنظلي الحراني نزيل مصر المتوفى سنة تسع وعشرين ومائتين وليس هو عمر بالضم والفتح وإن وقع في رواية القابسي عن عبدوس عن أبي زيد المروزي وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني فقد قالوا إنه تصحيف ( قال) أي عمرو ( حدّثنا زهير) بضم أوّله وفتح ثانيه ابن معاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال الهملتين آخره جيم الجعدي الكوفي المتوفى سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين ومائة ( قال حدّثنا أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي الكوفي التابعي الجليل المتوفى سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع

وعشرين ومائة وقول أحمد إن سماع زهير منه بعد أن بدا تغيره أجيب عنه بأن إسرائيل بن يونس حفيده وغيره تابعه عليه عند المؤلف ( عن البراء) بتخفيف الراء والمد على الأشهر أبي عمرو أو أبي عامر أو أبي الطفيل وللأصيلي في رواية عن البراء بن عازب بن الحرث الأنصاري الأوسي المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين وله في البخاري ثمانية وثلاثون حديثًا وما يخاف من تدليس أبي إسحاق فهو مأمون حيث ساقه المؤلف في التفسير من طريق الثوري بلفظ عن أبي إسحاق سمعت البراء رضي لله عنه.

( أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أوّل ما قدم) بكسر الدال ونصب أوّل على الظرفية لا خبر كان كما وهم الزركشي فإن خبر كان قوله نزل أي في أوّل قدومه ( المدينة) طيبة في هجرته من مكة ( نزل على أجداده أو قال) أي أبو إسحاق ( أخواله من الأنصار) وكلاهما صحيح وهو على سبيل المجاز لأن أقاربه من الأنصار من جهة الأمومة لأن أُم جده عبد المطلب منهم ( وأنه) عليه الصلاة والسلام ( صلى قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة ( بيت المقدس) مصدر ميمي كالمرجع أي حال كونه متوجهًا إليه ( ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا) على الشك في رواية زهير هنا، وللمؤلف عن إسرائيل وللترمذي أيضًا، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص الجزم بالأوَل فيكون أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الأيام الزائدة.
وللبزار والطبراني عن عمرو بن عوف الجزم بالثاني كغيرهما، فيكون عدّ الشهرين معًا ومن شك تردد في ذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور.
ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس.
وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول.
وقال ابن حبيب: كان التحويل في نصف شعبان وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره مع كونه رجح في شرح مسلم رواية ستة عشر شهرًا لكونها مجزومًا بها عند مسلم ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغى شهرًا القدوم والتحويل وسقط لغير ابن عساكر قوله شهرًا الأول ( وكان) عليه الصلاة والسلام ( يعجبه أن تكون قبلته قبل) أي كون قبلته جهة ( البيت) الحرام ( وأنه) بفتح الهمزة عطفًا على أن الأولى كالثانية ( صلى أول صلاة صلاها) متوجهًا إلى الكعبة ( صلاة العصر) بنصب أول مفعول صلى وصلاة العصر بدل منه وأعربه ابن مالك بالرفع وسقط لغير الأربعة لفظة صلى، ولابن سعد حوّلت القبلة في صلاة الظهر أو العصر ( وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه) وهو عباد بن بشر بن قيظي أو عباد بن نهيك ( فمرّ على أهل المسجد) من بني حارثة ويعرف الآن بمسجد القبلتين ( وهم راكعون) حقيقة أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ( فقال أشهد) أي أحلف ( بالله لقد صلّيت مع رسول الله) ولابن عساكر مع النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل مكة) أي حال كونه متوجهًا إليها واللام للتأكيد وقد للتحقيق، وجملة أشهد اعتراض بين القول ومقوله ( فداروا) أي سمعوا كلامه فداروا ( كما هم) عليه ( قبل البيت) الحرام ولم يقطعوا الصلاة بل أتموها إلى جهة الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى جهتين بدليلين شرعيين.
قال في المصابيح: والظاهر أن الكاف في كما هم بمعنى على وما كافة وهم مبتدأ حذف خبره أي عليه أو كائنون، وقد يقال: إن ما

موصولة وهم مبتدأ حذف خبره أي عليه، لكن يلزم حذف العائد المجرور مع تخلف شرطه وفيه جواز النسخ بخبر الواحد وإليه ميل المحققين، ( وكانت اليهود قد أعجبهم) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم منصوب على المفعولية ( إذ كان) عليه الصلاة والسلام ( يصلي قبل بيت المقدس) أي حال كونه متوجهًا إليه ( وأهل الكتاب) بالرفع عطفًا على اليهود وهو من عطف العام على الخاص أو المراد به النصارى فقط وإعجابهم ذلك ليس لكونه قبلتهم بل بطريق التبعية لهم ( فلما ولى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( وجهه) الشريف ( قبل البيت) الحرام ( أنكروا ذلك) فنزل { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142] كما صرّح به المصنف في رواية من طريق إسرائيل ( قال زهير) يعني ابن معاوية ( حدّثنا أبو إسحاق) يعني السبيعي ( عن البراء) بن عازب ( في حديثه هذا) وللأصيلي أبو إسحاق في حديثه عن البراء ( أنه مات على القبلة) المنسوخة ( قبل أن تحول) أي قبل التحويل إلى الكعبة ( رجال) عشرة منهم: عبد الله بن شهاب الزهري القرشي مات بمكة والبراء بن معرور الأنصاري بالمدينة ( وقتلوا) بضم أوله وكسر ثانيه وفائدة ذكر القتل بيان كيفية موتهم إشعارًاً بشرفهم واستبعادًا لضياع طاعتهم، أو أن الواو بمعنى أو فيكون شكًّا لكن القتل فيه نظر، فإن تحويل القبلة كان قبل نزول القتال على أن هذه اللفظة لا توجد في غير رواية زهير بن معاوية إنما الموجود في باقي الروايات ذكر الموت فقط ( فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر عز وجل { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها.
وقول الكرماني في قول زهير هذا أنه يحتمل أن يكون المؤلف ذكره معلقًا تعقبه الحافظ ابن حجر بأن المؤلف ساقه في التفسير موصولاً مع جملة الحديث، وقد تعقبه العيني بأن صورته صورة تعليق، وأنه لا يلزم من سوقه في التفسير جملة واحدة أن يكون هذا موصولاً غير معلق انتهى.

واختلف في صلاته عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس وهو بمكة فقال قوم: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وقال البيضاوي في تفسير قوله: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة.
فإنه كان عليه الصلاة والسلام يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفًا لليهود.
وقال قوم: كان لبيت المقدس فروى ابن ماجة حديث صلينا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرًا وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين، وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضًا.
وعن ابن عباس كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه.
قال البيضاوي: فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ، والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك بيت المقدس اهـ.

وفي هذا الحديث جواز نسخ الأحكام خلافًا لليهود وبخبر الواحد، وإليه مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين وجواز الاجتهاد في القبلة، وبيان شرفه عليه الصلاة والسلام وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب والرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانًا.
ورواة الحديث السابق

أئمة أجلاء أربعة، وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة والتفسير وفي خبر الواحد والنسائي والترمذي وابن ماجة.