فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام

باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى مِلَّةِ الإِسْلاَمِ
وَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ.

( باب من حلف بملة) بكسر الميم وتشديد اللام دين وشريعة ( سوى الإسلام) ولغير أبي ذر سوى ملة الإسلام كاليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة وأهل الأديان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة هل يكفر الحالف بذلك أم لا؟
( وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث السابق قبل: ( من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ولم ينسبه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( إلى الكفر) لأنه اقتصر على الأمر بقوله: لا إله إلا الله ولو كان ذلك يقتضي الكفر لأمره بتمام الشهادتين.


[ قــ :6305 ... غــ : 6652 ]
- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلاَمِ فَهْوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ، فَهْوَ كَقَتْلِهِ».

وبه قال: ( حدّثنا معلى بن أسد) بضم الميم وفتح العين المهملة واللام المشددة العمي أبو الهيثم الحافظ أخو بهز قال: ( حدّثنا وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد البصري ( عن أيوب) السختياني ( عن أبي قلابة) بكسر القاف وتخفيف اللام وبالموحدة عبد الله بن زيد الجرمي ( عن ثابت بن الضحاك) الأنصاري وهو ممن بايع تحت الشجرة -رضي الله عنه- أنه ( قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( من حلف بغير ملة الإسلام) كان يقول إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولمسلم: من حلف على يمين بملة غير الإسلام وعلى بمعنى الباء أو التقدير من حلف على شيء بيمين فحذف المجرور وعدى الفعل بعلى بعد حذف الباء وفي كتاب الجنائز من البخاري من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة: من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا وجواب الشرط قوله ( فهو كما قال) وهو مبتدأ، وكما قال في موضع الخبر أي فهو كائن كما قال وظاهره أنه يكفر بذلك، ويحتمل أن يكون المراد التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم كأنه قال: فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال والتحقيق أنه لا تنعقد يمينه ولا يكفر إن قصد تبعيد نفسه عن الفعل أو أطلق كما اقتضاه كلام النووي في الأذكار وليقل لا إله إلا الله ويستغفر ولا كفارة عليه، وهل يحرم ذلك عليه أو يكره تنزيهًا؟ المشهور الثاني وإن قصد الرضا
بذلك إذا فعله فهو كافر في الحال، وقوله: كاذبًا متعمدًا يستفاد منه أن الحالف المتعمد إن كان مطمئن القلب بالإِيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك الملة لكونها حقًّا كفر، وإن قاله لمجرد التعظيم لها باعتبار ما كان قبل النسخ فلا يكفر.

( ومن قتل نفسه بشيء) ولمسلم بحديدة ( عذب به) بذلك الذي قتل نفسه به ( في نار جهنم) قال الشيخ تقي الدين: وهو من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية وفيه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست له ملكًا مطلقًا بل هي لله فلا يتصرف فيها إلا فيما أذن فيه ( ولعن المؤمن) بأن يدعو عليه باللعن ( كقتله) في التحريم أو العقاب، وأبدى الشيخ تقي الدين في ذلك سؤالاً وهو أن يقال إما أن يكون كقتله في أحكام الدنيا أو في أحكام الآخرة لا سبيل إلى الأول لأن قتله يوجب القصاص ولعنه لا يوجب ذلك، وأما أحكام الآخرة فإما أن يراد التساوي في الإثم أو في العقاب وكلاهما مشكل لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعن وكذلك العقاب يتفاوت بحسب تفاوت الجرائم.
وقال المازري فيما نقله عنه القاضي عياض: الظاهر من الحديث تشبيهه في الإثم وهو تشبيه واقع لأن اللعنة قطع عن الرحمة والموت قطع عن التصرف.
قال القاضي عياض: وقيل لعنه يقتضي قصد إخراجه من المسلمين ومنعهم منافعه وتكثير عددهم به كما لو قتله وقيل لعنه يقتضي قطع منافعه الأخروية عنه وبعده بإجابة لعنه وهو كمن قتل في الدنيا وقطعت منافعه فيها وقيل معناه استواؤهما في التحريم.

قال في المصابيح: هذا يحتاج إلى تخليص ونظر فأما ما حكاه عن المازري من أن الظاهر من الحديث تشبيهه في الإِثم وكذلك ما حكاه من أن معناه استواؤهما في التحريم، فهذا يحتمل أمرين.
أحدهما: أن يقع التشبيه والاستواء في أصل التحريم والإثم، والثاني: أن يقع في مقدار الإثم، فأما الأول فلا ينبغي أن يحمل عليه لأن كل معصية قلت أو عظمت فهي مشابهة ومساوية للقتل في أصل التحريم ولا يبقى في الحديث كبير فائدة مع أن المفهوم منه تعظيم أمر اللعنة بتشبيهها بالقتل، وأما الثاني فقد بيّنا ما فيه من الإِشكال وهو التفاوت في المفسدة بين إزهاق الروح وبين الأذى باللعنة.

وأما ما حكاه المازري من أن اللعنة قطع الرحمة والموت قطع التصرف فالكلام عليه من وجهين.
أحدهما: بأن نقول اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد الذي هو فعل الله وعلى هذا يقع في التشبيه، والثاني أن تطلق اللعنة على فعل اللاعن وهو طلبه لذلك الإبعاد فقوله لعنه الله مثلاً ليس بقطع عن الرحمة بنفسه ما لم تتصل به إجابة، فيكون حينئذٍ سببًا إلى قطع التصرف ويكون نظيره التسبب إلى القتل غير أنهما يفترقان في أن التسبب إلى القتل بمباشرة مقدمات تفضي إلى الموت بمطرد العادة فلو كانت مباشرة اللعنة مفضية إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائمًا لاستوى اللعن مع مباشرة مقدمات القتل أو زاد عليها، وبهذا يتبين لك الإيراد على ما حكاه القاضي من أن لعنه له
يقتضي قصد إخراجه عن جماعة المسلمين كما لو قتله فإن قصد إخراجه لا يستلزم إخراجه كما تستلزم مقدمات القتل، وكذلك أيضًا ما حكاه من أن لعنه يقتضي قطع منافعه الأخروية عنه إنما يحصل ذلك بإجابة الدعوة، وقد لا يجاب في كثير من الأوقات فلا يحصل انقطاعه عن منافعه كما يحصل بقتله ولا استواء القصد إلى القطع بطلب الإجابة مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة، والذي يمكن أن يقرر به ظاهر الحديث في استوائهما في الإِثم أنا نقول لا نسلم أن مفسدة اللعنة مجرد أذاه بل فيها مع ذلك تعريضه لإجابة الدعوة فيه بموافقة ساعة لا يسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه كما دل عليه الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أموالكم ولا تدعوا على أولادكم لا توافقون ساعة" الحديث: وإذا كان عرّضه باللعنة لذلك ووقعت الإجابة وإبعاده من رحمة الله كان ذلك أعظم من قتله لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعًا والإبعاد من رحمة الله أعظم ضررًا بما لا يحصى، وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال مساويًا أو مقاربًا لأخفهما على سبيل التحقيق ومقادير المصالح والمفاسد وأعدادهما أمر لا سبيل للبشر إلى الاطّلاع على حقائقه اهـ.

وزاد في الأدب من البخاري من طريق علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك، ولمسلم ومن حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة ( ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) .


باب لاَ يَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ؟
هذا ( باب) بالتنوين يذكر فيه ( لا يقول) الشخص في كلامه ( ما شاء الله وشئت) بفتح التاء في الفرع كأصله وفي غيرهما بضمها على صيغة المتكلم من الماضي وإنما منع من ذلك لأن فيه تشريكًا في مشيئة الله تعالى وهي منفردة بالله سبحانه وتعالى بالحقيقة وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز، وفي حديث النسائي وابن ماجة من رواية يزيد بن الأصم عن ابن عباس رفعه: "إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت ولكن يقول: ما شاء الله ثم شئت" قال الخطابي: أرشدهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الأدب في تقديم مشيئة الله على مشيئة من سواه واختارها بثم التي هي للنسق والتراخي بخلاف الواو التي هي للاشتراك ( وهل يقول) الشخص ( أنا بالله ثم بك) نعم يجوز لأن ثم اقتضت سبقية مشيئة الله على مشيئة غيره.


[ قــ :6305 ... غــ : 6653 ]
- وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ ثَلاَثَةً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: تَقَطَّعَتْ بِى الْحِبَالُ فَلاَ بَلاَغَ لِى إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

( وقال عمرو بن عاصم) : بفتح العين وسكون الميم مما وصله في ذكر بني إسرائيل فقال: حدّثنا أحمد بن إسحاق حدّثنا عمرو بن عاصم قال: ( حدّثنا همام) هو ابن يحيى العوذي قال: ( حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) اسمه زيد الأنصاري وثبت ابن أبي طلحة لغير أبي ذر قال: ( حدّثنا عبد الرَّحمن بن أبي عمرة) بفتح العين المهملة وسكون الميم واسمه عمرو الأنصاري قاضي أهل المدينة ( أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- ( حدثه أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( إن ثلاثة في بني إسرائيل) أبرص وأقرع وأعمى لم يسموا ( أراد الله) عز وجل ( أن يبتليهم) أي يختبرهم ( فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص) الذي ابيض جسده بعد مسح الملك فذهب عنه البرص وأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا وإبلاً أو بقرًا ( فقال) له: إني رجل مسكين ( تقطعت بي الحبال) بحاء مهملة مكسورة ثم موحدة مخففة جمع حبل أي الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق ولأبي ذر عن الكشميهني الجبال بالجيم وهو تصحيف ( فلا بلاغ) فلا كفاية ( لي إلا بالله) الذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ( ثم بك فذكر الحديث) السابق بتمامه.
وقال المهلب: إنما أراد البخاري أن قوله ما شاء الله ثم شئت جائزًا استدلالاً بقوله أنا بالله ثم بك، وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي أنه كان لا يرى بأسًا أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، وكان يقول أعوذ بالله وبك ويجيز أعوذ بالله ثم بك.