فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس، إذا لم يخف الظنون والتهمة

باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِى أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِى أَمْرِ النَّاسِ
إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِهِنْدَ: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرٌ مَشْهُورٌ.

( باب من رأى) من الفقهاء ( للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس) دون حقوق الله كالحدود ( إذا لم يخف) القاضي ( الظنون والتهمة) بفتح الهاء أي يحكم بشرطين عدم التهمة ووجود الشهرة ( كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهند) : حين قضى لها على زوجها أبي سفيان بن حرب ( خذي) من ماله ( ما يكفيك وولدك بالمعروف.
وذلك إذا كان أمر مشهور)
ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: إذا كان أمرًا مشهورًا بالنصب خير كان أي إذا كان مشهورًا كقصة هند في زوجيتها لأبي سفيان ووجوب النفقة عليه.
وقال المالكية: لا يحكم بعلمه في أمر من الأمور إلا في التعديل والتجريح لأن القاضي يشارك غيره فيهما فلا تهمة وإنه لو لم يحكم بعلمه في العدالة لافتقر إلى معدلين آخرين وهكذا فيتسلسل.


[ قــ :6779 ... غــ : 7161 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَىَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: «لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ».

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم قال: ( حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: قال أخبرني بالإفراد أيضًا ( عروة) بن الزبير ( أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت هند) بالصرف وعدمه لسكون وسطه ( بنت عتبة بن ربيعة) بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية والدة معاوية وسقط لأبي ذر: ابن ربيعة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فقالت: يا رسول الله والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء) بكسر الخاء المعجمة والمد ( أحب إليّ) بتشديد الياء ( أن يذلوا) بفتح التحتية وكسر المعجمة ( من أهل خبائك) أرادت بيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكنت عنه بأهل الخباء إجلالاً له أو أرادت أهل بيته أو صحابته فهو من المجاز والاستعارة ( وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا) بفتح التحتية وكسر العين المهملة وتشديد الزاي ( من أهل خبائك.
ثم قالت)
: يا رسول الله ( إن أبا سفيان) صخر بن حرب زوجي ( رجل مسّيك) بكسر الميم والسين المهملة المشددة بصيغة المبالغة من مسك اليد يعني بخيل جدًّا ويجوز فتح الميم وكسر السين مخففة بوزن أمير وهو أصح عند أهل العربية والأوّل هو
الأشهر في رواية المحدّثين ورجل خبر إن، ولو قالت: إن أبا سفيان مسيك صح وحصلت الفائدة إلا أن ذكر الموصوف مع صفته يكون لتعظيمه نحو: رأيت رجلاً صالحًا أو لتحقيره نحو رأيت رجلاً فاسقًا، ولما كان البخل مذمومًا قالت رجل.
وفي رواية: شحيح بدل مسيك وهو أشد البخل، وقيل الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده.
وقال رجل لابن عمر: إني شحيح.
فقال له: إن كان شحّك لا يحملك على أن تأخذ ما ليس لك فليس بشحّك بأس.
وعن ابن مسعود: الشحّ منع الزكاة.
وقال القرطبي: المراد أنه شحيح بالنسبة إلى امرأته وولده لا مطلقًا لأن الإنسان قد يفعل هذا مع أهل بيته لأنه يرى أن غيرهم أحوج وأولى وإلا فأبو سفيان لم يكن معروفًا بالبخل فلا يستدل بهذا الحديث على أنه بخيل مطلقًا.
( فهل عليّ) بتشديد الياء ( من حرج) إثم ( أن أطعم الذي) ولأبي ذر عن المستملي من الذي ( له عيالنا) وهمزة أطعم مضمومة ( قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( لها) :
( لا حرج) لا إثم ( عليك أن تطعميهم من معروف) أي الإطعام الذي هو المعروف بأن لا يكون فيه إسراف ونحوه.
وفي هذا أن للقاضي أن يقضي بعلمه، لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يعلم أنها زوجة أبي سفيان ولم يكلفها البيّنة لأن علمه أقوى من الشهادة لتيقن ما علمه والشهادة قد تكون كذبًا، ويأتي إن شاء الله تعالى عند المؤلّف في باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء عن آخرين من أهل العراق أنه يقضي بعلمه لأنه مؤتمن، وإنما يراد من الشهادة معرفة الحق فعلمه أكثر من الشهادة، واستدلّ المانعون من القضاء بالعلم بقوله في حديث أم سلمة إنما أقضي له بما أسمع ولم يقل بما أعلم، وقال للحضرمي: شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ويخشى من قضاة السوء أن يحكم أحدهم بما شاء ويحيل على علمه، وتعقب ابن المنير البخاري بأنه لا دلالة في الحديث للترجمة لأنه خرج مخرج الفتيا قال: وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة إنهاء المستفتي فكأنه قال: إن ثبت أنه يمنعك حقك جاز لك أخذه، وأجاب بعضهم: بأن الأغلب من أحوال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحكم والإلزام فيجب تنزيل لفظه عليه وبأنه لو كانت فتيا لقال مثلاً لك أن تأخذي فلما أتى بصيغة الأمر بقوله: خذي كما في الرواية الأخرى دلّ على الحكم.

ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته في باب القضاء على الغائب وفي باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء.


تنبيه:
لو شهدت البيّنة مثلاً بخلاف ما يعلمه علمًا حسيًّا لمشاهدة أو سماع يقينًا أو ظنًّا راجحًا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البيّنة ونقل بعضهم فيه الاتفاق، وإن وقع الاختلاف في القضاء بالعلم.

والحديث سبق في النفقات.