فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الوصال، ومن قال: «ليس في الليل صيام»

باب الْوِصَالِ، وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ، لِقَوْلِهِ عز وجل { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَنَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُ رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ
( باب) حكم ( الوصال) وهو أن يصوم فرضًا أو نفلاً يومين فأكثر ولا يتناول بالليل مطعومًا عمدًا بلا عذر قاله في شرح المهذّب، وقضيته أن الجماع والاستقاءة وغيرهما من المفطرات لا يخرجه عن الوصال.
قال الأسنوي في المهمات: وهو ظاهر من جهة المعنى لأن النهي عن الوصال إنما هو لأجل الضعف والجماع ونحوه يزيده أو لا يمنع حصوله، لكن قال الروياني في البحر: هو أن يستديم جميع أوصاف الصائمين.
وقال الجرجاني في الشافي: أن يترك ما أبيح له من غير إفطار.
قال الأسنوي أيضًا: وتعبيرهم بصوم يومين يقتضي أن المأمور بالإمساك كتارك النية لا يكون امتناعه بالليل من تعاطي المفطرات وصالاً لأنه ليس بين صومين إلا أن الظاهر أن ذلك جرى على الغالب.


( و) باب ( من قال ليس في الليل صيام) أي ليس محلاً له ( لقوله تعالى) { ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإنه آخر وقته.

وفي حديث أبي سعيد الخير عند الترمذي في جامعه وابن السكن وغيره في الصحابة والدولابي في الكنى مرفوعًا: أن الله لم يكتب الصيام بالليل فمن صام فقد تعنى ولا أجر له.
قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال الترمذي: سألت البخاري عن فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد الخير، وعند الإمام أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عنه وقال يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى: { وأتموا الصيام إلى الليل} فإذا كان الليل فأفطروا.
( ونهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله المؤلّف قريبًا من حديث عائشة ( عنه) أي عن الوصال ( رحمة لهم) أي الأمة ( وإبقاء عليهم) أي حفظًا لهم في بقاء أبدانهم على قوّتهم، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن رجل من الصحابة قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه.

( و) باب ( ما يكره من التعمق) وهو المبالغة في تكلف ما لم يكلف به.


[ قــ :1878 ... غــ : 1961 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لاَ تُوَاصِلُوا، قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى.
أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى».
[الحديث 1961 - طرفه في: 7241] .

وبالسند قال ( حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد ( قال: حدثني) بالتوحيد ( يحيى) بن سعيد القطان ( عن شعبة) بن الحجاج ( قال: حدثني) بالتوحيد أيضًا ( قتادة) بن دعامة ( عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) لأصحابه:
( لا تواصلوا) نهي يقتضي الكراهة وهل هي للتنزيه أو للتحريم والأصح عند الشافعية التحريم قال الرافعي: وهو ظاهر نص الشافعي وكرهه مالك.
قال الأبيّ: ولو إلى السحر واختار اللخمي جوازه إلى السحر لحديث من واصل فليواصل إلى السحر وقول أشهب من واصل أساء ظاهره التحريم.
وقال ابن قدامة في المغني: يكره للتنزيه لا للتحريم ويدل للتحريم قوله في رواية ابن خزيمة من طريق شعبة بهذا الإسناد إياكم والوصال.

( قالوا إنك تواصل) ، لم يسم القائلون، وفي رواية أبي هريرة الآتية إن شاء الله تعالى أول الباب اللاحق فقال رجل من المسلمين: وكأن القائل واحد ونسب إلى الجميع لرضاهم به وفيه دليل على استواء المكلفين في الأحكام وأن كل حكم ثبت في حقه عليه الصلاة والسلام ثبت في حق أمته إلا ما استثنى فطلبوا الجمع بين قوله في النهي وفعله الدال على الإباحة، فأجابهم باختصاصه به

حيث ( قال) عليه الصلاة والسلام: ( لست) ولابن عساكر: إني لست ( كأحد منكم) ولأبي ذر عن الكشميهني: كأحدكم ( إني أطعم وأسقى) بضم الهمزة فيها ( أو) قال ( إني أبيت أطعم وأسقى) حقيقة فيؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صومه وردّ بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً والجمهور على أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال: يعطيني قوّة الآكل والشارب أو أن الله تعالى يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش والفرق بينه وبين الأول أنه على الأول يعطى القوة من غير شبع ولا ريّ بل مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني يعطى القوّة مع الشبع والريّ.
ورجح الأول فإن الثاني ينافي في حال الصائم ويفوّت المقصود من الصوم والوصال لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها.




[ قــ :1879 ... غــ : 196 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْوِصَالِ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى".

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: ( أخبرنا مالك) الإمام ( عن نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله-) أصحابه ( عن الوصال) ، سبق في باب بركة السحور من غير إيجاب من طريق جويرية عن نافع ذكر السبب ولفظه: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واصل فواصل الناس فشق عليهم فنهاهم ( قالوا) ولابن عساكر قال قالوا: ( إنك تواصل قال) :
( إني لست مثلكم) ، وفي حديث أبي زرعة عن أبي هريرة عند مسلم لستم في ذلك مثلي أي لستم على صفتي أو منزلتي من ربي ( إني أطعم وأسقى) قال ابن القيم: يحتمل أن يكون المراد ما يغذيه الله تعالى به من معارفه وما يفيضه على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه ونعيمه بحبه قال: ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه.




[ قــ :1880 ... غــ : 1963 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ، قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ".
[الحديث 1963 - طرفه في: 1967] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: ( حدّثنا الليث) بن سعد الإمام قال: ( حدثني) بالإفراد ( ابن الهاد) يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثي ( عن عبد الله بن خباب) بالخاء المعجمة المفتوحة والموحدة المشددة الأنصاري ( عن أبي سعيد) الخدري ( -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :

( لا تواصلوا فأيكم إذا أراد) وسقط لفظ إذا لأبي ذر ( أن يواصل فليواصل حتى السحر) بالجر بحتى الجارة التي بمعنى "إلى" وفيه رد على من قال: إن الإمساك بعد الغروب لا يجوز ( قالوا فإنك) بالفاء ( تواصل يا رسول الله قال) :
( إني لست كهيئتكم) أي لست مثل حالتكم وصفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله ( إني أبيت) حال كوني ( لي مطعم) حال كونه ( يطعمني و) لي ( ساق) حال كونه ( يسقين) بحذف الياء في الفرع كالمصحف العثماني في الشعراء.
وفي بعض الأصول يسقيني بإثباتها كقراءة يعقوب الحضرمي في الآية حالة الوصل والوقف مراعاة للأصل والحسن البصري في الوصل فقط مراعاة للأصل والرسم.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود من رواية ابن الهاد ولم يخرجه مسلم، ووهم صاحب العمدة فعزاه له وإنما هو من أفراد البخاري كما قاله عبد الحق في الجمع بين الصحيحين وكذا صاحب المنتقى وصاحب الضياء في المختارة بل والحافظ عبد الغني بن سرور في عمدته الكبرى عزا ذلك للبخاري فقط فلعله وقع له في عمدته الصغرى سبق قلم والله أعلم.




[ قــ :1881 ... غــ : 1964 ]
- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانُ "رَحْمَةً لَهُمْ".

وبه قال: ( حدّثنا) ولأبي الوقت: حدثني بالإفراد وفي نسخة: أخبرنا ( عثمان بن أبي شيبة) أخو أبو بكر بن أبي شيبة ( ومحمد) هو ابن سلام ( قالا: أخبرنا عبدة) بن سليمان ( عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام ( عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الوصال رحمة لهم) ، نصب على التعليل أي لأجل الرحمة، وتمسك به من قال النهي ليس للتحريم كنهيه لهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم، وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل خمسة عشر يومًا، ويأتي في الباب التالي إن شاء الله تعالى أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واصل بأصحابه بعد النهي فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم عليه فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة.

وأجيب: بأن قوله رحمة لهم لا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم، وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرًا بل تقريعًا وتنكيلاً فاحتمل ذلك لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم لأنهم إذا باشروه وظهرت لهم حكمة النهي فكان ذلك أدعى إلى قبولهم لما يترتب عليه من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك، والجوع الشديد ينافي ذلك.
وفرق بعضهم بين من يشق عليه فيحرم ومن لم يشق عليه فيباح.


( فقالوا: إنك تواصل، قال) : ( إني لست كهيئتكم إني يطعمني رب ويسقين) بحذف الياء وإثباتها كما مرّ والياء في يطعمني بالضم وفي يسقين بالفتح، والصحيح أن هذا ليس على ظاهره لأنه لو كان على الحقيقة لم يكن مواصلاً، وقيل: إنه كان يؤتى بطعام وشراب في النوم فيستيقظ وهو يجد الريّ والشبع.
وقال النووي في شرح المهذّب: معناه محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب والحب البالغ يشغل عنهما وآثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة في قوله: يطعمني ربي دون أن يقول الله لأن التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الألوهية لأنها تجلي عظمة لا طاقة للبشر بها وتجلي الربوبية تجلي رحمة وشفقة وهي أليق بهذا المقام.

( قال أبو عبد الله) البخاري كذا لأبوي ذر والوقت وسقط لغيرهما ( لم يذكر عثمان) بن أبي شيبة في الحديث المذكور قوله ( رحمة لهم) فدلّ على أنها من رواية محمد بن سلام وحده.

وأخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة جميعًا وفيه رحمة لهم ولم يبين أنها ليست في رواية عثمان، وقد أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان في مسنديهما عن عثمان وليس فيه رحمة لهم.

وأخرجه الجوزقي من طريق محمد بن حاتم عن عثمان وفيه رحمة لهم فيحتمل أن يكون عثمان تارة يذكرها وتارة يحذفها وقد رواها الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن عثمان فجعل ذلك من قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولفظه قالوا: إنك تواصل، قال: ( إنما هي رحمة رحمكم الله بها إني لست كهيئتكم) قاله في فتح الباري.

وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الإيمان ومسلم في الصوم وكذا النسائي.