فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب السحر

( قَولُهُ بَابُ السِّحْرِ)
قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ السِّحْرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أَحَدُهَا مَا لَطُفَ وَدَقَّ وَمِنْهُ سَحَرْتُ الصَّبِيَّ خَادَعْتُهُ وَاسْتَمَلْتُهُ وَكُلُّ مَنِ اسْتَمَالَ شَيْئًا فَقَدْ سَحَرَهُ وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الشُّعَرَاءِ سِحْرَ الْعُيُونِ لِاسْتِمَالَتِهَا النُّفُوسِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ الطَّبِيعَةُ سَاحِرَةٌ وَمِنْهُ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى بَلْ نَحْنُ قوم مسحورون أَيْ مَصْرُوفُونَ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَمِنْهُ حَدِيثُ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ الثَّانِي مَا يَقَعُ بِخِدَاعٍ وَتَخْيِيلَاتٍ لَا حَقِيقَة لَهَا نَحْو مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُ مِنْ صَرْفِ الْأَبْصَارِ عَمَّا يَتَعَاطَاهُ بِخِفَّةِ يَدِهِ وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى وَقَوله تَعَالَى سحروا أعين النَّاس وَمِنْ هُنَاكَ سَمَّوْا مُوسَى سَاحِرًا وَقَدْ يَسْتَعِينُ فِي ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ فِيهِ خَاصِّيَّةٌ كَالْحَجَرِ الَّذِي يَجْذِبُ الْحَدِيدَ الْمُسَمَّى الْمِغْنَطِيسُ الثَّالِثُ مَا يَحْصُلُ بِمُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر الرَّابِعُ مَا يَحْصُلُ بِمُخَاطَبَةِ الْكَوَاكِبِ وَاسْتِنْزَالِ رُوحَانِيَّاتِهَا بزعمهم قَالَ بن حَزْمٍ وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مِنَ الطَّلْسَمَاتِ كَالطَّابِعِ الْمَنْقُوشِ فِيهِ صُورَةُ عَقْرَبٍ فِي وَقْتِ كَوْنِ الْقَمَرِ فِي الْعَقْرَبِ فَيَنْفَعُ إِمْسَاكُهُ مِنْ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ وَكَالْمُشَاهَدِ بِبَعْضِ بِلَادِ الْغَرْبِ وَهِيَ سَرْقُسْطَةُ فَإِنَّهَا لَا يَدْخُلُهَا ثُعْبَانٌ قَطُّ إِلَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ وَقَدْ يَجْمَعُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ كَالِاسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ وَمُخَاطَبَةِ الْكَوَاكِبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى بِزَعْمِهِمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ كَانَ أَهْلُ بَابِلَ قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا الْفَعَّالَةُ لِكُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ وَعَمِلُوا أَوْثَانًا عَلَى أَسْمَائِهَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ هَيْكَلٌ فِيهِ صَنَمُهُ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُهُ بِزَعْمِهِمْ مِنْ أَدْعِيَةٍ وَبَخُورٍ وَهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ عُلُومُهُمْ أَحْكَامَ النُّجُومِ وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ السَّحَرَةُ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوِهِ السِّحْرِ وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ لِئَلَّا يُبْحَثَ عَنْهَا وَيَنْكَشِفَ تَمْوِيهُهُمُ انْتَهَى ثُمَّ السِّحْرُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْآلَةُ الَّتِي يُسْحَرُ بِهَا وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِعْلُ السَّاحِرِ وَالْآلَةُ تَارَةً تَكُونُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَقَطْ كَالرُّقَى وَالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَحْسُوسَاتِ كَتَصْوِيرِ الصُّورَةِ عَلَى صُورَةِ الْمَسْحُورِ وَتَارَةً بِجَمْعِ الْأَمْرَيْنِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ أَبْلَغُ وَاخْتُلِفَ فِي السِّحْرِ فَقِيلَ هُوَ تخبيل فَقَط وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَبَاذِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّة وبن حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ وَطَائِفَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ انْتَهَى لَكِنْ مَحَلُّ النِّزَاعِ هَلْ يَقَعُ بِالسِّحْرِ انْقِلَابُ عَيْنٍ أَوْ لَا فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ تَخْيِيلٌ فَقَطْ مَنَعَ ذَلِكَ وَمَنْ قَالَ إِنَّ لَهُ حَقِيقَةً اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فَقَطْ بِحَيْثُ يُغَيِّرُ الْمِزَاجَ فَيَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْأَمْرَاضِ أَو يَنْتَهِي إِلَى الاحالة بِحَيْثُ يصير الجاد حَيَوَانًا مَثَلًا وَعَكْسُهُ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ إِلَى الثَّانِي فَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَاقِعِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ قَوْمًا أَنْكَرُوا السِّحْرَ مُطْلَقًا وَكَأَنَّهُ عَنَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ تَخْيِيلٌ فَقَطْ وَإِلَّا فَهِيَ مُكَابَرَةٌ.

     وَقَالَ  الْمَازِرِيُّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ وَأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً وَنَفَى بَعْضُهُمْ حَقِيقَتَهُ وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِوُرُودِ النَّقْلِ بِإِثْبَاتِ السِّحْرِ وَلِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْرِقُ الْعَادَةَ عِنْدَ نُطْقِ السَّاحر بِكَلَام مُلَفَّقٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَجْسَامٍ أَوْ مَزْجٍ بَيْنَ قُوًى عَلَى تَرْتِيبٍ مَخْصُوصٍ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا يَقَعُ مِنْ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ مِنْ مَزْجِ بَعْضِ الْعَقَاقِيرِ بِبَعْضٍ حَتَّى يَنْقَلِبَ الضَّارُّ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ بِالتَّرْكِيبِ نَافِعًا وَقِيلَ لَا يَزِيدُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَهْوِيلٍ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَقَعَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالصَّحِيحُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ أَنَّ السِّحْرَ يَكُونُ بِمُعَانَاةِ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ حَتَّى يَتِمَّ لِلسَّاحِرِ مَا يُرِيدُ وَالْكَرَامَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا تَقَعُ غَالِبًا اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَتَمْتَازُ عَنِ الْكَرَامَةِ بِالتَّحَدِّي وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا مِنْ فَاسِقٍ وَأَنَّ الْكَرَامَةَ لَا تَظْهَرُ عَلَى فَاسِقٍ وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ عَنِ الْمُتَوَلِّي نَحْوَ ذَلِكَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَالِ مَنْ يَقَعُ الْخَارِقُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالشَّرِيعَةِ مُتَجَنِّبًا لِلْمُوبِقَاتِ فَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ كَرَامَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ سِحْرٌ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ أَحَدِ أَنْوَاعِهِ كَإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ السِّحْرُ حِيَلٌ صِنَاعِيَّةٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِالِاكْتِسَابِ غَيْرَ أَنَّهَا لِدِقَّتِهَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا آحَادُ النَّاسِ وَمَادَّتُهُ الْوُقُوفُ عَلَى خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ وَالْعِلْمِ بِوُجُوُهِ تَرْكِيبِهَا وَأَوْقَاتِهِ وَأَكْثَرُهَا تَخْيِيلَاتٌ بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ وَإِيهَامَاتٍ بِغَيْرِ ثُبُوتِ فَيَعْظُمُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَن سحرة فِرْعَوْن وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم مَعَ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا حِبَالًا وَعِصِيًّا ثُمَّ قَالَ وَالْحَقُّ أَنَّ لِبَعْضِ أَصْنَافِ السِّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَإِلْقَاءِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَفِي الْأَبَدَانِ بِالْأَلَمِ وَالسَّقَمِ وَإِنَّمَا الْمَنْكُورُ أَنَّ الْجَمَادَ يَنْقَلِبُ حَيَوَانًا أَو عَكسه بِسحر السَّاحر وَنَحْو ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الْآيَةَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ خَلَاقٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَصْلِ السِّحْرِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ الْيَهُودُ ثُمَّ هُوَ مِمَّا وَضَعَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِمَّا أُنْزِلَ عَلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ بِأَرْضِ بَابِلَ وَالثَّانِي مُتَقَدِّمُ الْعَهْدِ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ قِصَّةَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ كَانَتْ مِنْ قَبْلِ زَمَنِ نوح عَلَيْهِ السَّلَام على مَا ذكر بن إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَكَانَ السِّحْرُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ نُوحٍ إِذْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ سَاحِرٌ وَكَانَ السِّحْرُ أَيْضًا فَاشِيًا فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَكُلِّ ذَلِكَ قَبْلَ سُلَيْمَانَ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَقِيلَ إِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ جَمَعَ كُتُبَ السِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ جَاءَهُمْ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ فَقَالَ لِلْيَهُودِ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَا نَظِيرَ لَهُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَاحْفِرُوا تَحْتَ الْكُرْسِيِّ فَحَفَرُوا وَهُوَ مُتَنَحٍّ عَنْهُمْ فَوَجَدُوا تِلْكَ الْكُتُبَ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يَضْبِطُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ بِهَذَا فَفَشَا فِيهِمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنْكَرَتِ الْيَهُودُ ذَلِكَ وَقَالُوا إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نَحْوُهُ وَمَنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ بن عَبَّاسٍ مَوْصُولًا بِمَعْنَاهُ وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَلَكِنْ قَالَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي كَتَبَتْ كُتُبَ السِّحْرِ وَدَفَنَتْهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ثُمَّ لَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجَتْهُ وَقَالُوا هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَكْتُمُهُ النَّاسَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَزَادَ أَنَّهُمْ نَقَشُوا خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ وختموا بِهِ الْكِتَابَ وَكَتَبُوا عُنْوَانَهُ هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَاءَ الصِّدِّيقُ لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ ثُمَّ دَفَنُوهُ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيّ عَن بن عَبَّاسٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ السُّدِّيِّ وَلَكِنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا الْكُتُبَ قَالُوا هَذَا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْفَاهُ مِنَّا وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير عَن بن عَبَّاسٍ قَالَ انْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي ابْتُلِيَ فِيهَا سُلَيْمَانُ فَكَتَبَتْ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ ثُمَّ دَفَنَتْهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ثُمَّ أَخْرَجُوهَا بَعْدَهُ فَقَرَءُوهَا عَلَى النَّاسِ وَمُلَخَّصُ مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمْ أَنهم اتبعُوا مَا تتلو الشَّيَاطِينُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِذْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ إِيضَاحُ ذَلِكَ وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلما جَاءَهُم رَسُول إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَمَا فِي قَوْلِهِ مَا تتلو الشَّيَاطِين مَوْصُولَةٌ عَلَى الصَّوَابِ وَغَلِطَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَافِيَة لِأَن نظم الْكَلَام يأباه ونتلو لَفْظُهُ مُضَارِعٌ لَكِنْ هُوَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَاضِي وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ وَمَعْنَى تَتْلُو تَتَقَوَّلُ وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَتْبَعُ أَوْ تَقْرَأُ وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ قِيلَ هُوَ تَقْرَأُ عَلَى زَمَانِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَقَولُهُ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ مَا نَافِيَةٌ جَزْمًا وَقَولُهُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا هَذِهِ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِجُمْلَةِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا قبلهَا وَقَوله يعلمُونَ النَّاس السحر النَّاسُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ وَالسِّحْرُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ كَفَرُوا أَيْ كَفَرُوا مُعَلِّمِينَ وَقِيلَ هِيَ بَدَلٌ مِنْ كَفَرُوا وَقِيلَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَهَذَا عَلَى إِعَادَةِ ضَمِيرِ يَعْلَمُونَ عَلَى الشَّيَاطِينِ وَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا فَيَكُونُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ اتَّبَعُوا أَوِ اسْتِئْنَافًا وَقَولُهُ وَمَا أُنْزِلَ مَا مَوْصُولَةٌ وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى السِّحْرِ وَالتَّقْدِيرُ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَالْمُنْزَلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَقِيلَ الْجَرُّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَيْ تَقَوُّلًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مَا أُنْزِلَ وقِيلَ بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ عَطْفًا عَلَى وَمَا كفر سُلَيْمَان وَالْمَعْنَى وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِبَاحَةُ السِّحْرِ وَهَذَانِ الْإِعْرَابَانِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنِ الْبَعْضِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَرَدَّ الزَّجَّاجُ عَلَى الْأَخْفَشِ دَعْوَاهُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ.

     وَقَالَ  الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ أَوْلَى وَقَولُهُ بِبَابِلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا أُنْزِلَ أَيْ فِي بَابِلَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ لَامِ الْمَلَكَيْنِ وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ بَدَلٌ مِنَ الْمَلَكَيْنِ وَجُرَّا بِالْفَتْحَةِ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَقِيلَ بَلْ هُمَا بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ بَعِيدٌ وَقِيلَ مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ اسْمَانِ لِقَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَولُهُ وَمَا يعلمَانِ من أحد بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْلِيمِ وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِسُكُونِ الْعَيْنِ مِنَ الْإِعْلَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّضْعِيفَ يَتَعَاقَبُ مَعَ الْهَمْزَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ بَلْ يُعْلِمَانِهِمْ بِهِ وَيَنْهَيَانِهِمْ عَنْهُ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ تَعْلِيمَ إِنْذَارٍ لَا تَعْلِيمُ طَلَبٍ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَمُتَعَلِّمَهُ كَافِرٌ وَهُوَ وَاضِحٌ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلشَّيَاطِينِ أَوْ لِلْكَوَاكِبِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ فَلَا يَكْفُرُ بِهِ مَنْ تَعَلَّمَهُ أَصْلًا قَالَ النَّوَوِيُّ عَمَلُ السِّحْرِ حَرَامٌ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ عَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُفْرًا وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا بَلْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا.
وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَفَرَ وَاسْتُتِيبَ مِنْهُ وَلَا يُقْتَلُ فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عُزِّرَ وَعَنْ مَالِكٍ السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ وَلَا يُسْتَتَابُ بَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ كَالزِّنْدِيقِ قَالَ عِيَاضٌ وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اه وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ وَتَفَاصِيلُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِهَا وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا لِتَمْيِيزِ مَا فِيهِ كُفْرٌ مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا لِإِزَالَتِهِ عَمَّنْ وَقَعَ فِيهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ فَإِذَا سَلِمَ الِاعْتِقَادُ فَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِمُجَرَّدِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَنْعًا كَمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ عِبَادَةِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لِلْأَوْثَانِ لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ مَا يَعْمَلُهُ السَّاحِرُ إِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِخِلَافِ تَعَاطِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ أَوِ الْفِسْقِ فَلَا يَحِلُّ أَصْلًا وَإِلَّا جَازَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي بَابِ هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرُ قَرِيبًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِيَارِ الْحُكْمِ بِكُفْرِ السَّاحِرِ لِقَوْلِهِ فِيهَا وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَإِنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ وَلَا يُكْفَرُ بِتَعْلِيمِ الشَّيْءِ إِلَّا وَذَلِكَ الشَّيْءُ كُفْرٌ وَكَذَا .

     قَوْلُهُ  فِي الْآيَةِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ كُفْرًا وَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ مِنَ الْعَمَلِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَتَسْمِيَةُ مَا عَدَا ذَلِكَ سِحْرًا مَجَازٌ كَإِطْلَاقِ السِّحْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْبَلِيغِ وَقِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ جَاءَتْ بِسَنَدٍ حسن من حَدِيث بن عُمَرَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَأَطْنَبَ الطَّبَرِيُّ فِي إِيرَادِ طُرُقِهَا بِحَيْثُ يَقْضِي بِمَجْمُوعِهَا عَلَى أَنَّ لِلْقِصَّةِ أَصْلًا خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ بُطْلَانَهَا كَعِيَاضٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَمُحَصَّلُهَا أَنَّ اللَّهَ رَكَّبَ الشَّهْوَةَ فِي مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اخْتِبَارًا لَهُمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا فِي الْأَرْضِ فَنَزَلَا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ وَحَكَمَا بِالْعَدْلِ مُدَّةً ثُمَّ افْتُتِنَا بِامْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ فَعُوقِبَا بِسَبَبِ ذَلِكَ بِأَنْ حُبِسَا فِي بِئْرٍ بِبَابِلَ مُنَكَّسَيْنِ وَابْتُلِيَا بِالنُّطْقِ بِعِلْمِ السِّحْرِ فَصَارَ يَقْصِدُهُمَا مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ فَلَا يَنْطِقَانِ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ حَتَّى يُحَذِّرَاهُ وَيَنْهَيَاهُ فَإِذَا أَصَرَّ تَكَلَّمَا بِذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَهُمَا قَدْ عَرَفَا ذَلِكَ فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا مَا قَصَّ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  وَقَولُهُ تَعَالَى وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى فِي الْآيَةِ نَفْيُ الْفَلَاحِ عَنِ السَّاحِرِ وَلَيْسَتْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِثْبَاتُ الْفَلَاحِ لِلْمُؤْمِنِ وَنَفْيُهُ عَنِ الْكَافِرِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي نَفْيَ الْفَلَاحِ عَنِ الْفَاسِقِ وَكَذَا الْعَاصِي .

     قَوْلُهُ  وَقَولُهُ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ هَذَا يُخَاطَبُ بِهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِكَوْنِهِ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ فَقَالَ قَائِلُهُمْ مُنْكِرًا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أَيْ أَفَتَتَّبِعُونَهُ حَتَّى تَصِيرُوا كَمَنِ اتَّبَعَ السِّحْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ .

     قَوْلُهُ  وَقَولُهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى هَذِهِ الْآيَةُ عُمْدَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَلَا حُجَّةَ لَهُ بِهَا لِأَنَّ هَذِهِ وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ سِحْرُهُمْ كَذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ السِّحْرِ تَخْيِيلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْأَحْكَامِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي ظَنَّهُ مُوسَى مِنْ أَنَّهَا تَسْعَى لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلًا وَذَلِكَ أَنَّ عِصِيَّهُمْ كَانَتْ مُجَوَّفَةً قَدْ مُلِئَتْ زِئْبَقًا وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مِنْ أُدْمٍ مَحْشُوَّةٍ زِئْبَقًا وَقَدْ حَفَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَسْرَابًا وَجَعَلُوا لَهَا آزَاجًا وَمَلَأُوهَا نَارًا فَلَمَّا طُرِحَتْ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَحُمِيَ الزِّئْبَقُ حَرَّكَهَا لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الزِّئْبَقِ إِذَا أَصَابَتْهُ النَّارُ أَنْ يَطِيرَ فَلَمَّا أَثْقَلَتْهُ كَثَافَةُ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ صَارَتْ تَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ فَظَنَّ مَنْ رَآهَا أَنَّهَا تَسْعَى وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى حَقِيقَةً .

     قَوْلُهُ  وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَالنَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ هُوَ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي الْمَجَازِ قَالَ النَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ يَنْفُثْنَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ النَّفْثُ فِي الرُّقْيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الرُّقْيَةِ وَقد وَقع فِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ فِي آخِرِ قِصَّةِ السِّحْرِ الَّذِي سُحِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا وِتْرًا فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً وَأُنْزِلَتْ سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ وَجُعِلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّت عقدَة وَأخرجه بن سعد بِسَنَد آخر مُنْقَطع عَن بن عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا وَعَمَّارًا لَمَّا بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاسْتِخْرَاجِ السِّحْرِ وَجَدَا طَلْعَةً فِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فَذَكَرَ نَحْوَهُ .

     قَوْلُهُ  تُسْحَرُونَ تُعَمَّوْنَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَضُبِطَ أَيْضًا بِسُكُونِ الْعَيْنِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى سيقولون الله قل فَأنى تسحرون أَيْ كَيْفَ تُعَمَّوْنَ عَنْ هَذَا وَتَصُدُّونَ عَنْهُ قَالَ وَنَرَاهُ مِنْ قَوْلِهِ سُحِرَتْ أَعْيُنُنَا عَنْهُ فَلم نبصره وَأخرج فِي قَوْله فَأنى تسحرون أَيْ تُخْدَعُونَ أَوْ تُصْرَفُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ.

قُلْتُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّنْفِ الأول من السحر الَّذِي قَدمته.

     وَقَالَ  بن عَطِيَّةَ السِّحْرُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّخْلِيطِ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَمَا يَقَعُ مِنَ الْمَسْحُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ



[ قــ :5454 ... غــ :5763] .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى هُوَ الرَّازِيُّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ وَهِشَامٌ هُوَ بن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ .

     قَوْلُهُ  عَنْ أَبِيهِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْجِزْيَةِ وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَة بن عُيَيْنَة عَن بن جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن بن جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ غَيْرَ هِشَامٍ أَيْضًا حَدَّثَ بِهِ عَنْ عُرْوَةَ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَغَيْرِهِمَا .

     قَوْلُهُ  سَحَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بني زُرَيْق بزاي قبل الرَّاء مصغر .

     قَوْلُهُ  يُقَالُ لَهُ لَبِيدٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُهْملَة بن الْأَعْصَمِ بِوَزْنِ أَحْمَرَ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ وَوَقع فِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفِ الْيَهُودِ وَكَانَ مُنَافِقًا وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ نَظَرَ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا نظر إِلَى ظَاهر أمره.

     وَقَالَ  بن الْجَوْزِيِّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ نِفَاقًا وَهُوَ وَاضِحٌ وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لَهُ يَهُودِيٌّ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ لَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ وَبَنُو زُرَيْقٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَشْهُورٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حِلْفٌ وَإِخَاءٌ وَوُدٌّ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ الْأَنْصَارُ فِيهِ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَ الْوَاقِدِيُّ السَّنَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا السحر أخرجه عَنهُ بن سَعْدٍ بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ قَالَ لَمَّا رَجَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ جَاءَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ إِلَى لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْقٍ وَكَانَ سَاحِرًا فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا الْأَعْصَمِ أَنْتَ أَسْحَرُنَا وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَعْ شَيْئًا وَنَحْنُ نَجْعَلُ لَكَ جُعْلًا عَلَى أَنْ تَسْحَرَهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَأَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ مِنَ ابْتِدَاءِ تَغَيُّرِ مِزَاجِهِ وَالْأَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنَ اسْتِحْكَامِهِ.

     وَقَالَ  السُّهَيْلِيُّ لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي السِّحْرِ حَتَّى ظَفِرْتُ بِهِ فِي جَامِعِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَبِثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَذَا قَالَ وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مَوْصُولًا بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ .

     قَوْلُهُ  حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ قَالَ الْمَازرِيّ أنكر بعض الْمُبْتَدِعَةُ هَذَا الْحَدِيثَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا قَالُوا وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يعْدم الثِّقَة بِمَا شرعوه مِنَ الشَّرَائِعِ إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ وَأَنَّهُ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِأَجْلِهَا وَلَا كَانَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلِهَا فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِضُ الْبَشَرَ كَالْأَمْرَاضِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ قَالَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنه وطىء زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَطِأَهُنَّ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي الْيَقِظَةِ.

قُلْتُ وَهَذَا قد ورد صَرِيحًا فِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا وَلَفْظُهُ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِمْ قَالَ الدَّاوُدِيُّ يُرَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَي يظنّ.

     وَقَالَ  بن التِّينِ ضُبِطَتْ يَرَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.

قُلْتُ وَهُوَ مِنَ الرَّأْيِ لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ قَالَ عِيَاضٌ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ.

قُلْتُ وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ بن سَعْدٍ فَقَالَتْ أُخْتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ إِنْ يكن نَبيا فسيخبر إِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ.

قُلْتُ فَوَقَعَ الشِّقُّ الْأَوَّلُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَمَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يكون ذَلِك مِنْ جِنْسِ الْخَاطِرِ يَخْطِرُ وَلَا يَثْبُتُ فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّةٌ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالتخيل الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ سَابِقِ عَادَتِهِ مِنَ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْوَطْءِ فَإِذَا دَنَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَتَرَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْقُودِ وَيَكُونُ .

     قَوْلُهُ  فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ أَيْ صَارَ كَالَّذِي أَنْكَرَ بَصَرَهُ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا رَأَى الشَّيْءَ يُخَيَّلُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ فَإِذَا تَأَمَّلَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ وَيُؤَيِّدُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ.

     وَقَالَ  الْمُهَلَّبُ صَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُمْ كَيَدَهُ فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ السِّحْرُ مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِهِ مَا يُدْخِلُ نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ ضَرَرِ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْكَلَامِ أَوْ عَجْزٍ عَنْ بَعْضِ الْفِعْلِ أَوْ حُدُوثِ تَخَيُّلٍ لَا يَسْتَمِرُّ بَلْ يَزُولُ وَيُبْطِلُ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيَاطِينِ وَاسْتَدَلَّ بن الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جنس الْمَرَض بقوله فِي آخر الحَدِيث أما أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْمُدَّعَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ فَكَانَ يَدُورُ وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعُهُ وَفِي حَدِيث بن عَبَّاس عِنْد بن سَعْدٍ مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ الْحَدِيثَ .

     قَوْلُهُ  حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَأَظُنُّهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ فَقَالَ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يَشُكَّ ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ عَلَى الشَّكِّ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فَيُحْمَلُ الْجَزْمُ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُوسَى شَيْخَ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَهُ بِهِ تَارَةً بِالْجَزْمِ وَتَارَةً بِالشَّكِّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَأَذْكُرُهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُ وَهَذَا مِنْ نَوَادِرِ مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنْ يَخْرُجَ الْحَدِيثُ تَامًّا بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ بِلَفْظَيْنِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا ذَاتَ يَوْمٍ بِغَيْرِ شَكٍّ وَذَاتَ بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ ثُمَّ قِيلَ إِنَّهَا مُقْحَمَةٌ وَقِيلَ بَلْ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْي مَنْ يُجِيزُهُ .

     قَوْلُهُ  وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا كَذَا وَقَعَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا وَكَذَا عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ لِعِيسَى بْنِ يُونُسَ فِي الدَّعَوَاتِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مِنْ قَوْلِهَا عِنْدِي أَيْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَغِلًا بِي بَلِ اشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّخَيُّلِ أَيْ كَانَ السِّحْرُ أَضَرَّهُ فِي بَدَنِهِ لَا فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ بِحَيْثُ إنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ وَدَعَا عَلَى الْوَضْعِ الصَّحِيحِ وَالْقَانُونِ الْمُسْتَقِيمِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بن نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَدَعَا ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ الدُّعَاءَ ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ عِنْدَ أَحْمد وبن سَعْدٍ فَرَأَيْتُهُ يَدْعُو قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاء عِنْد حُصُول الْأُمُور المكروهات وتكريره والالتجاء إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي دَفْعِ ذَلِكَ.

قُلْتُ سَلَكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَسْلَكَيِ التَّفْوِيضِ وَتَعَاطِي الْأَسْبَابِ فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَوَّضَ وَسَلَّمَ لِأَمْرِ رَبِّهِ فَاحْتَسَبَ الْأَجْرَ فِي صَبْرِهِ عَلَى بَلَائِهِ ثُمَّ لَمَّا تَمَادَى ذَلِكَ وَخَشِيَ مِنْ تَمَادِيهِ أَنْ يُضْعِفَهُ عَنْ فُنُونِ عِبَادَتِهِ جَنَحَ إِلَى التَّدَاوِي ثُمَّ إِلَى الدُّعَاءِ وَكُلٌّ مِنَ الْمَقَامَيْنِ غَايَةٌ فِي الْكَمَالِ .

     قَوْلُهُ  أُشْعِرْتُ أَيْ عَلِمْتُ وَهِيَ رِوَايَةُ بن عُيَيْنَةَ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ .

     قَوْلُهُ  أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَيْ أَجَابَنِي فِيمَا دَعَوْتُهُ فَأَطْلَقَ عَلَى الدُّعَاءِ اسْتِفْتَاءً لِأَنَّ الدَّاعِيَ طَالِبٌ وَالْمُجِيبَ مُفْتٍ أَوِ الْمَعْنَى أَجَابَنِي بِمَا سَأَلْتُهُ عَنْهُ لِأَنَّ دُعَاءَهُ كَانَ أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُوَ فِيهِ لِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ إِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنِي بِمَرَضِي أَيْ أَخْبَرَنِي .

     قَوْلُهُ  أَتَانِي رَجُلَانِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ.

قُلْتُ وَمَا ذَاكَ قَالَ أَتَانِي رَجُلَانِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُرْجَأِ بْنِ رَجَاءٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كِلَاهُمَا عَن هِشَام أَتَانِي ملكان وسماهما بن سَعْدٍ فِي رِوَايَةٍ مُنْقَطِعَةٍ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَكُنْتُ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ ذَلِكَ احْتِمَالًا .

     قَوْلُهُ  فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي لَمْ يَقَعْ لِي أَيُّهُمَا قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ لَكِنَّنِي أَظُنُّهُ جِبْرِيلَ لِخُصُوصِيَّتِهِ بِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ثُمَّ وَجَدْتُ فِي السِّيرَةِ لِلدِّمْيَاطِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ قَالَ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ ثُمَّ وَجَدْتُ فِي حَدِيثِ زيد بن أَرقم عِنْد النَّسَائِيّ وبن سَعْدٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ سَحَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا فَدَلَّ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّ الْمَسْئُولَ هُوَ جِبْرِيلُ وَالسَّائِلُ مِيكَائِيلُ قَوْله فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه فِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلِي لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي وَكَأَنَّهَا أَصْوَبُ وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَوَقَعَ بِالشَّكِّ فِي رِوَايَةِ بن نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ .

     قَوْلُهُ  مَا وَجَعُ الرَّجُلِ كَذَا للْأَكْثَر وَفِي رِوَايَة بن عُيَيْنَة مَا بَال الرجل وَفِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مَا تَرَى وَفِيهِ إشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَنَامِ إِذْ لَوْ جَاءَا إِلَيْهِ فِي الْيَقِظَةِ لَخَاطَبَاهُ وَسَأَلَاهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِصِفَةِ النَّائِمِ وَهُوَ يَقْظَانُ فَتَخَاطَبَا وَهُوَ يَسْمَعُ وَأَطْلَقَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا وَكَذَا فِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَانْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُ وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ وَوَقع فِي حَدِيث بن عَبَّاس عِنْد بن سَعْدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ وَهُوَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ .

     قَوْلُهُ  فَقَالَ مَطْبُوبٌ أَيْ مَسْحُورٌ يُقَالُ طُبَّ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ إِذَا سُحِرَ يُقَالُ كَنَّوْا عَنِ السِّحْرِ بِالطِّبِّ تَفَاؤُلًا كَمَا قَالُوا للديغ سليم.

     وَقَالَ  بن الْأَنْبَارِيِّ الطِّبُّ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ لِعِلَاجِ الدَّاءِ طِبٌّ وَالسِّحْرُ مِنَ الدَّاءِ وَيُقَالُ لَهُ طِبٌّ وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طب قَالَ أَبُو عبيد يَعْنِي سحر قَالَ بن الْقَيِّمِ بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ مَرِضَ وَأَنَّهُ عَنْ مَادَّةٍ مَالَتْ إِلَى الدِّمَاغِ وَغَلَبَتْ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنْهُ فَغَيَّرَتْ مِزَاجَهُ فَرَأَى اسْتِعْمَالَ الْحِجَامَةِ لِذَلِكَ مُنَاسِبًا فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُحِرَ عَدَلَ إِلَى الْعِلَاجِ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُهُ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَادَّةَ السِّحْرِ انْتَهَتْ إِلَى إِحْدَى قُوَى الرَّأْسِ حَتَّى صَارَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَا ذُكِرَ فَإِنَّ السِّحْرَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ انْفِعَالِ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ أَشَدُّ السِّحْرِ وَاسْتِعْمَالُ الْحَجْمِ لِهَذَا الثَّانِي نَافِعٌ لِأَنَّهُ إِذَا هَيَّجَ الْأَخْلَاطَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي عُضْوٍ كَانَ اسْتِفْرَاغُ الْمَادَّةِ الْخَبِيثَةِ نَافِعًا فِي ذَلِكَ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ إِنَّمَا قِيلَ لِلسِّحْرِ طِبٌّ لِأَنَّ أَصْلَ الطِّبِّ الْحِذْقُ بِالشَّيْءِ وَالتَّفَطُّنُ لَهُ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ عِلَاجِ الْمَرَضِ وَالسِّحْرِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَنْ فِطْنَةٍ وَحِذْقٍ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مِنْهُمَا هَذَا الِاسْمُ .

     قَوْلُهُ  فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ أَمَّا الْمُشْطُ فَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَنْكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ وَبِالسُّكُونِ فِيهِمَا وَقَدْ يُضَمُّ ثَانِيهِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ فَقَطْ وَهُوَ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يُسَرَّحُ بِهَا شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَيُطْلَقُ الْمُشْطُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى مِنْهَا الْعَظْمُ الْعَرِيضُ فِي الْكَتِفِ وَسَلَامَيَاتُ ظَهْرِ الْقَدَمِ وَنَبْتٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ مُشْطُ الذَّنَبِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سُحِرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَرْبَعِ.

قُلْتُ وَفَاتَهُ آلَةٌ لَهَا أَسْنَانٌ وَفِيهَا هِرَاوَةٌ يُقْبَضُ عَلَيْهَا وَيُغَطَّى بِهَا الإناة قَالَ بن سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ إِنَّهَا تُسَمَّى الْمُشْطُ وَالْمُشْطُ أَيْضًا سِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ الْبَعِيرِ تَكُونُ فِي الْعَيْنِ وَالْفَخِذِ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِالْمُشْطِ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَإِذَا فِيهَا مُشْطُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مُرَاطَةِ رَأْسِهِ وَفِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَمِنْ أَسْنَانِ مُشْطِهِ وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ فَعَمَدَ إِلَى مُشْطٍ وَمَا مُشِطَ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ شَعْرٍ فَعَقَدَ بِذَلِكَ عُقَدًا .

     قَوْلُهُ  وَمُشَاطَةٍ سَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ هَلْ هِيَ بِالطَّاءِ أَوِ الْقَافِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ .

     قَوْلُهُ  وَجُفَّ طَلْعُ نَخْلَةِ ذَكَرٍ قَالَ عِيَاضٌ وَقَعَ لِلْجُرْجَانِيِّ يَعْنِي فِي الْبُخَارِيِّ وَالْعُذْرِيِّ يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ بِالْفَاءِ وَلِغَيْرِهِمَا بِالْمُوَحَّدَةِ.

قُلْتُ أَمَّا رِوَايَةُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ هُنَا فَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ وَلِغَيْرِهِ بِالْمُوَحَّدَةِ.
وَأَمَّا رِوَايَتُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فَالْجَمِيعُ بِالْفَاءِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ بن عُيَيْنَة للْجَمِيع وللمستعلي فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ وَلِلْجَمِيعِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي الدَّعَوَاتِ بِالْفَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رِوَايَتُنَا يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ بِالْفَاءِ.

     وَقَالَ  النَّوَوِيُّ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا بِالْبَاءِ يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَاءِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْغِشَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الطَّلْعِ وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالذَّكَرِ فِي قَوْلِهِ طَلْعَةُ ذَكَرٍ وَهُوَ بِالْإِضَافَةِ انْتَهَى وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا هُنَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ ذَكَرَ صِفَةٌ لِجُفٍّ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي بِالْفَاءِ هُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ وَهُوَ لِلْغِشَاءِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ دَاخِلَ الطَّلْعَةِ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْكُفْرِيُّ قَالَهُ شَمِرٌ قَالَ وَيُقَالُ أَيْضًا لِدَاخِلِ الرَّكِيَّةِ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا جُفٌّ وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْقَطْعِ يَعْنِي مَا قُطِعَ مِنْ قُشُورِهَا.

     وَقَالَ  أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ الْجُفُّ بِالْفَاءِ شَيْءٌ يُنْقَرُ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ .

     قَوْلُهُ  قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ هُوَ فِي بِئْر ذروان زَاد بن عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا بَعْدَ بَابٍ وَذَرْوَانُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَحَكَى بن التِّينِ فَتْحهَا وَأَنَّهُ قَرَأَهُ كَذَلِكَ قَالَ وَلَكِنَّهُ بِالسُّكُونِ أشبه وَفِي رِوَايَة بن نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ وَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي الدَّعَوَاتِ مِثْلُهُ وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ لَكِنْ بِغَيْرِ لَفْظِ بِئْرٍ وَلِغَيْرِهِ فِي ذَرْوَانَ وَذَرْوَانُ بِئْرٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ فَعَلَى هَذَا فَ.

     قَوْلُهُ  بِئْرُ ذَرْوَانَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رِوَايَة بن نُمَيْرٍ بِأَنَّ الْأَصْلَ بِئْرُ ذِي أَرْوَانَ ثُمَّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ فَصَارَتْ ذَرْوَانُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ الْبَكْرِيَّ صَوَّبَ أَنَّ اسْمَ الْبِئْرِ أَرْوَانُ بِالْهَمْزِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَرْوَانَ أَخْطَأَ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ عَلَى مَا وَجَّهْتُهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَن وهيب وَكَذَا فِي رِوَايَته عَن بن نُمَيْرٍ بِئْرُ أَرْوَانَ كَمَا قَالَ الْبَكْرِيُّ فَكَأَنَّ رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ كَانَتْ مِثْلَهَا فَسَقَطَتْ مِنْهَا الرَّاءُ وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ فِي بِئْرِ ذِي أَوَانَ بِغَيْرِ رَاءٍ قَالَ عِيَاضٌ وَهُوَ وَهْمٌ فَإِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ عَلَى سَاعَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ مَسْجِدُ الضِّرَارِ .

     قَوْلُهُ  فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَعَ فِي حَدِيث بن عَبَّاس عِنْد بن سَعْدٍ فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْتِيَا الْبِئْرَ وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ فَدَعَا جُبَيْرَ بْنَ إِيَاسٍ الزُّرَقِيَّ وَهُوَ مِمَّن شهد بَدْرًا فدله عَلَى مَوْضِعِهِ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَاسْتَخْرَجَهُ قَالَ وَيُقَالُ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ قَيْسُ بْنُ مُحْصَنٍ الزُّرَقِيُّ وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ أَعَانَ جُبَيْرًا عَلَى ذَلِكَ وَبَاشَرَهُ بِنَفسِهِ فنسب إِلَيْهِ وَعند بن سَعْدٍ أَيْضًا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا يَهُورُ الْبِئْرُ فَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ مَنْ أُبْهِمَ بِهَؤُلَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ تَوَجَّهَ فَشَاهَدَهَا بِنَفْسِهِ .

     قَوْلُهُ  فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ يَا عَائِشَةُ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ وَلَفْظُهُ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَنَزَلَ رَجُلٌ فَاسْتَخْرَجَهُ وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي الطَّلْعَةِ تِمْثَالًا مِنْ شَمْعٍ تِمْثَالُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا فِيهِ إِبَرٌ مَغْرُوزَةٌ وَإِذَا وُتِرَ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَكُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ وَكُلَّمَا نَزَعَ إِبْرَةً وَجَدَ لَهَا أَلَمًا ثُمَّ يَجِدُ بَعْدَهَا رَاحَةً وَفِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ نَحْوُهُ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَفِيهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحِلَّ الْعُقَدَ وَيَقْرَأَ آيَةً فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيَحِلُّ حَتَّى قَامَ كَأَنَّمَا نشط من عقال وَعند بن سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ مُعْضِلًا فَاسْتَخْرَجَ السِّحْرَ مِنَ الْجُفِّ مِنْ تَحْتِ الْبِئْرِ ثُمَّ نَزَعَهُ فَحَلَّهُ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

     قَوْلُهُ  كَأَنَّ مَاءَهَا فِي رِوَايَة بن نُمَيْرٍ وَاللَّهُ لَكَأَنَّ مَاءَهَا أَيِ الْبِئْرَ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَالْحِنَّاءُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بِالْمَدِّ أَيْ أَنَّ لَوْنَ مَاءِ الْبِئْرِ لَوْنُ الْمَاءِ الَّذِي يُنْقَعُ فِيهِ الْحِنَّاءُ قَالَ بن التِّينِ يَعْنِي أَحْمَرَ.

     وَقَالَ  الدَّاوُدِيُّ الْمُرَادُ الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غُسَالَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي تُعْجَنُ فِيهِ الْحِنَّاءُ.

قُلْتُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ بن سَعْدٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَوَجَدَ الْمَاءَ وَقَدِ اخْضَرَّ وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الدَّاوُدِيِّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ كَأَنَّ مَاء الْبِئْر قد تغير إِمَّا لردائه بِطُولِ إِقَامَتِهِ وَإِمَّا لِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُلْقِيَتْ فِي الْبِئْرِ.

قُلْتُ وَيَرُدُّ الْأَوَّلَ أَن عِنْد بن سَعْدٍ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ هَوَّرَ الْبِئْرَ الْمَذْكُورَةَ وَكَانَ يَسْتَعْذِبُ مِنْهَا وَحَفَرَ بِئْرًا أُخْرَى فَأَعَانَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حفرهَا قَوْله وَكَأن رُؤُوس نخلها رُؤُوس الشَّيَاطِينِ كَذَا هُنَا وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَدْء الْخلق نخلها كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين وَفِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامٍ كَأَنَّ نَخْلَهَا بِغَيْر ذكر رُؤُوس أَولا والتشبيه إِنَّمَا وَقع على رُؤُوس النَّخْلِ فَلِذَلِكَ أَفْصَحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ فِي غَيْرِهَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَإِذَا نَخْلُهَا الَّذِي يَشْرَبُ من مَائِهَا قد التوى سعفه كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِينِ وَقَدْ وَقَعَ تَشْبِيهُ طَلْعِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِي الْقُرْآنِ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَ طَلْعَهَا فِي قُبْحِهِ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالْقُبْحِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي اللِّسَانِ أَنَّ مَنْ قَالَ فُلَانٌ شَيْطَانٌ أَرَادَ أَنَّهُ خَبِيثٌ أَوْ قَبِيحٌ وَإِذَا قَبَّحُوا مُذَكَّرًا قَالُوا شَيْطَانٌ أَوْ مُؤَنَّثًا قَالُوا غُولٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ شَيْطَانًا وَهُوَ ثُعْبَانٌ قَبِيحُ الْوَجْه وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد نَبَات قَبِيح قِيلَ إِنَّهُ يُوجَدُ بِالْيَمَنِ .

     قَوْلُهُ .

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَة فَقَالَ لَا وَوَقع فِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ وَأَنَّ سُؤَالَ عَائِشَةَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ النُّشْرَةِ فَأَجَابَهَا بِلَا وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ .

     قَوْلُهُ  فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ سُوءًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ أَنْ أُثَوِّرَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ التَّعْمِيمُ فِي الْمَوْجُودِينَ قَالَ النَّوَوِيُّ خَشِيَ مِنْ إِخْرَاجِهِ وَإِشَاعَتِهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَذَكُّرِ السِّحْرِ وَتَعَلُّمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَصْلَحَةِ خَوْفَ الْمَفْسَدَةِ وَوَقع فِي رِوَايَة بن نُمَيْرٍ عَلَى أُمَّتِي وَهُوَ قَابِلٌ أَيْضًا لِلتَّعْمِيمِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تُطْلَقُ عَلَى أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَأُمَّةِ الدعْوَة وعَلى مَا هُوَ أَعَمُّ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ لِأَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا فَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُثِيرَ عَلَيْهِ شَرًّا لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ الْإِغْضَاءَ عَمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا صَدَرَ وَقَدْ وَقَعَ أَيْضا فِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا نَعَمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَتَلْتَهُ قَالَ مَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَشَدُّ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ فَعَفَا عَنْهُ وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَمَا ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَ بِهِ وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا قَالَ حُبُّ الدَّنَانِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ قَوْلُ بن شِهَابٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يقْتله وَأخرج بن سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ وَنُقِلَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ ذَلِكَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قَتَلَهُ وَمِنْ ثَمَّ حَكَى عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ قَوْلَيْنِ هَلْ قُتِلَ أَمْ لَمْ يُقْتَلْ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ لَا حُجَّةَ عَلَى مَالِكٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَنَّ تَرْكَ قَتْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُثِيرَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ فِتْنَةً أَوْ لِئَلَّا يُنَفِّرَ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا رَاعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْعِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قَالَ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ .

     قَوْلُهُ  فَأَمَرَ بِهَا أَيْ بِالْبِئْرِ فَدُفِنَتْ وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة بن نُمَيْرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ هِشَامٍ وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَقِبَ رِوَايَةِ بن نُمَيْرٍ.

     وَقَالَ  لَمْ يَقُلْ أَبُو أُسَامَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ.

قُلْتُ وَكَأَنَّ شَيْخَهُ لَمْ يَذْكُرْهَا حِينَ حَدَّثَهُ وَإِلَّا فَقَدْ أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ كَمَا فِي الْبَابِ بَعْدَهُ.

     وَقَالَ  فِي آخِرِهِ فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ هَوَّرَهَا .

     قَوْلُهُ  تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ وَتَأْتِي رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً بَعْدَ بَابَيْنِ .

     قَوْلُهُ  وَأَبُو ضَمْرَةَ هُوَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَسَتَأْتِي رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً فِي كتاب الدَّعْوَات قَوْله وبن أَبِي الزِّنَادِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ وَلَمْ أَعْرِفْ مَنْ وَصَلَهَا بعد قَوْله.

     وَقَالَ  اللَّيْث وبن عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ وَمُشَاقَةٍ وَهُوَ الصَّوَابُ وَإِلَّا لَاتَّحَدَتِ الرِّوَايَاتُ وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَدْء الْخلق وَرِوَايَة بن عُيَيْنَةَ تَأْتِي مَوْصُولَةً بَعْدَ بَابٍ وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِخَلَفٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الطِّبِّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن بن عُيَيْنَةَ وَطَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ مَا هِيَ فِي الطِّبِّ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقٍ الْحُمَيْدِيِّ.

     وَقَالَ  بَعْدَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَبُو مَسْعُودٍ فِي أَطْرَافِهِ الْحُمَيْدِيَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  وَيُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا مُشِطَ هَذَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ بن قُتَيْبَةَ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي سَقَطَ مِنَ الرَّأْسِ إِذَا سُرِّحَ بِالْمُشْطِ وَكَذَا مِنَ اللِّحْيَةِ .

     قَوْلُهُ  وَالْمُشَاطَةُ مِنْ مُشَاطَةِ الْكَتَّانِ كَذَا لأبي ذَرٍّ كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الشَّعْرِ إِذَا مُشِطَ وَبَيْنَ الْكَتَّانِ إِذَا سُرِّحَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَالْمُشَاقَةُ وَهُوَ أَشْبَهَ وَقِيلَ الْمُشَاقَةُ هِيَ الْمُشَاطَةُ بِعَيْنِهَا وَالْقَافُ تُبْدَلُ مِنَ الطَّاءِ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَاللَّهُ أعلم