فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب قول الله تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 5]

( قَولُهُ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاس لرب الْعَالمين)
كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيُوفُونَ الْكَيْلَ فَقَالَ وَمَا يَمْنَعُهُمْ وَقد قَالَ الله تَعَالَى ويل لِلْمُطَفِّفِينَ إِلَى قَوْلِهِ يَوْمَ يقوم النَّاس لرب الْعَالمين قَالَ إِنَّ الْعَرَقَ لَيَبْلُغُ أَنْصَافَ آذَانِهِمْ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ على شَرطه أَشَارَ إِلَيْهِ وَأورد حَدِيث بن عُمَرَ الْمَرْفُوعَ فِي مَعْنَاهُ وَأَصْلُ الْبَعْثِ إِثَارَةُ الشَّيْءِ عَنْ جَفَاءٍ وَتَحْرِيكُهُ عَنْ سُكُونٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَخُرُوجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَنَحْوُهَا إِلَى حُكْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

     قَوْلُهُ  قَالَ بن عَبَّاسٍ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ قَالَ الْوُصُلَاتُ فِي الدُّنْيَا بِضَم الْوَاو وَالصَّاد الْمُهْملَة.

     وَقَالَ  بن التِّينِ ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَبِضَمِّهَا وَبِسُكُونِهَا.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَةَ الْأَسْبَابُ هِيَ الْوُصُلَاتُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَاحِدَتُهَا وَصْلَةٌ وَهَذَا الْأَثر لم اظفر بِهِ عَن بن عَبَّاسٍ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حميد والطبري وبن أبي حَاتِم بِسَنَد ضَعِيف عَن بن عَبَّاسٍ قَالَ الْمَوَدَّةُ وَهُوَ بِالْمَعْنَى وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ بن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيّ عَن بن عَبَّاسٍ قَالَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ وَمِنْ طَرِيقِ الرّبيع بن أنس مثله وَأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ يَعْنِي أَسْبَابُ النَّدَامَةِ وللطبري من طَرِيق بن جريج عَن بن عَبَّاسٍ قَالَ الْأَسْبَابُ الْأَرْحَامُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْحَامُ وَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ فِي النَّارِ وَوَرَدَ بِلَفْظِ التَّوَاصُلِ وَالْمُوَاصَلَةِ أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ تَوَاصُلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ تَوَاصُلٌ كَانَ بَيْنَهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فِي الدُّنْيَا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ وَلِعَبْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ الْأَسْبَابُ الْمُوَاصَلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا وَيَتَحَابُّونَ فَصَارَتْ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ هُوَ الْوَصْلُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلِعَبْدٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ الْأَعْمَالُ وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ الْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى طُلْبَةٍ وَحَاجَةٍ فَيُقَالُ لِلْحَبْلِ سَبَبٌ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْحَاجَةِ الَّتِي يُتَعَلَّقُ بِهِ إِلَيْهَا وللطريق سَبَب للتسبب بركوبه إِلَى مَالا يُدْرَكُ إِلَّا بِقَطْعِهِ وَلِلْمُصَاهَرَةِ سَبَبٌ لِلْحُرْمَةِ وَلِلْوَسِيلَةِ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ بِهَا إِلَى الْحَاجَةِ.

     وَقَالَ  الرَّاغِبُ السَّبَبُ الْحَبْلُ وَسُمِّيَ كُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ سَبَبًا وَمِنْهُ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسبَاب السَّمَاوَات أَيْ أَصِلُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ فِي السَّمَاءِ فَأَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَدَّعِيهِ مُوسَى وَيُسَمَّى الْعِمَامَةُ وَالْخِمَارُ وَالثَّوْبُ الطَّوِيلُ سَبَبًا تَشْبِيهًا بِالْحَبْلِ وَكَذَا مَنْهَجُ الطَّرِيقِ لِشَبَهِهِ بِالْحَبْلِ وَبِالثَّوْبِ الْمَمْدُودِ أَيْضًا وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير ويل لِلْمُطَفِّفِينَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ وَالرَّشْحُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهُمَا مُهْمَلَةٌ هُوَ الْعَرَقُ شُبِّهَ بِرَشْحِ الْإِنَاءِ لِكَوْنِهِ يَخْرُجُ مِنَ الْبَدَنِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَرَقَ يَحْصُلُ لِكُلِّ شَخْصٍ مِنْ نَفْسِهِ وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَرَقِهِ فَقَطْ أَوْ مِنْ عَرَقِهِ وَعَرَقِ غَيْرِهِ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ عَرَقَ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِقَدْرِ خَوْفهِ مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنَ الْأَهْوَالِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ عَرَقَهُ وَعَرَقَ غَيْرِهِ فَيُشَدَّدُ عَلَى بَعْضٍ وَيُخَفَّفُ عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا كُلُّهُ بِتَزَاحُمِ النَّاسِ وَانْضِمَامِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارَ الْعَرَقُ يَجْرِي سَائِحًا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ كَالْمَاءِ فِي الْوَادِي بَعْدَ أَنْ شَرِبَتْ مِنْهُ الْأَرْضُ وَغَاصَ فِيهَا سَبْعِينَ ذِرَاعًا.

قُلْتُ وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا وَقَفُوا فِي الْمَاءِ الَّذِي عَلَى أَرْضٍ مُعْتَدِلَةٍ كَانَتْ تَغْطِيَةُ الْمَاءِ لَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ لَكِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ تَفَاوَتُوا فَكَيْفَ يَكُونُ الْكُلُّ إِلَى الْأُذُنِ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَوَارِقِ الْوَاقِعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِمَنْ يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى أُذُنَيْهِ إِلَى غَايَةِ مَا يَصِلُ الْمَاءُ وَلَا يَنْفِي أَنْ يَصِلَ الْمَاءُ لِبَعْضِهِمْ إِلَى دُونِ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ نِصْفَ سَاقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ رُكْبَتَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ فَخِذَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ خَاصِرَتَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ فَاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَلَيْسَ بِتَمَامِهِ وَفِيهِ تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُم كمقدار ميل فَتكون النَّاسُ عَلَى مِقْدَارِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ يَسْتَوُونَ فِي وُصُولِ الْعَرَقِ إِلَيْهِمْ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي حُصُولِهِ فِيهِمْ وَأَخْرَجَ أَبُو يعلى وَصَححهُ بن حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ يقوم النَّاس لرب الْعَالمين قَالَ مِقْدَارُ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَيَهُونُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ إِلَى أَن تغرب وَأخرجه احْمَد وبن حِبَّانَ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُحْشَرُ النَّاسُ قِيَامًا أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ الْحَدِيثُ الثَّانِي



[ قــ :6194 ... غــ :6532] .

     قَوْلُهُ  حَدثنِي سُلَيْمَان هُوَ بن بِلَالٍ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ .

     قَوْلُهُ  يَعْرَقُ النَّاسُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ فِي الْمَاضِي .

     قَوْلُهُ  يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق بن وهب عَن سُلَيْمَان بن بلان سَبْعِينَ بَاعَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ ثَوْرٍ وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ شَكَّ ثَوْرٌ وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِنَّ الَّذِي يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ الْكَافِرُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْهُ قَالَ يَشْتَدُّ كَرْبُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى يُلْجِمَ الْكَافِرَ الْعَرَقُ قِيلَ لَهُ فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُونَ قَالَ عَلَى الْكَرَاسِيِّ مِنْ ذَهَبٍ وَيُظَلِّلُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ وَبِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَن أبي مُوسَى قَالَ الشَّمْس فَوق رُؤُوس النَّاس يَوْم الْقِيَامَة وأعمالهم تظلهم وَأخرج بن الْمُبَارك فِي الزّهْد وبن أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَاللَّفْظُ لَهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ تُعْطَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَرَّ عَشْرِ سِنِينَ ثُمَّ تُدْنَى مِنْ جَمَاجِمِ النَّاسِ حَتَّى تَكُونَ قَابَ قَوْسَيْنِ فَيَعْرَقُونَ حَتَّى يَرْشَحَ الْعَرَقُ فِي الْأَرْضِ قَامَةً ثُمَّ ترْتَفع حَتَّى يُغَرْغر الرجل زَاد بن الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا يَضُرُّ حَرُّهَا يَوْمَئِذٍ مُؤْمِنًا وَلَا مُؤْمِنَةً قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُرَادُ مَنْ يَكُونُ كَامِلَ الْإِيمَانِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمِقْدَادِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اعمالهم وَفِي حَدِيث بن مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفِيضُ عَرَقًا حَتَّى يَسِيحَ فِي الْأَرْضِ قَامَةً ثُمَّ يَرْتَفِعُ حَتَّى يَبْلُغَ أَنْفَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْد أبي يعلى وصححها بن حبَان إِن الرجل ليلجمه الْعرق يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يَقُولَ يَا رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ وَلِلْحَاكِمِ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ وَهُوَ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْمَوْقِفِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ التَّفْصِيلَ الَّذِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ وَالْمِقْدَادِ يَقَعُ مِثْلُهُ لِمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى حِقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذْهُ إِلَى عُنُقِهِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّارُ فِيهِ مجَازًا عَن شدَّة الكرب الناشيء عَنِ الْعَرَقِ فَيَتَّحِدُ الْمَوْرِدَانِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ فِي التَّعْذِيبِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ.
وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَإِنَّهُمْ فِي الْغَمَرَاتِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَعْمِيمُ النَّاسِ بِذَلِكَ وَلَكِنْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْأُخْرَى عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْبَعْضِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ وَيُسْتَثْنَى الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَشَدُّهُمْ فِي الْعَرَقِ الْكُفَّارُ ثُمَّ أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي حَدِيثِ بَعْثِ النَّارِ قَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَعَارَفِ وَقِيلَ هُوَ الذِّرَاعُ الْمَلَكِيُّ وَمَنْ تَأَمَّلَ الْحَالَةَ الْمَذْكُورَةَ عَرَفَ عِظَمَ الْهَوْلِ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ تَحُفُّ بِأَرْضِ الْمَوْقِفِ وَتُدْنَى الشَّمْسُ مِنَ الرُّءُوسِ قَدْرَ مِيلٍ فَكَيْفَ تَكُونُ حَرَارَةُ تِلْكَ الْأَرْضِ وَمَاذَا يَرْوِيهَا مِنَ الْعَرَقِ حَتَّى يَبْلُغَ مِنْهَا سَبْعِينَ ذِرَاعًا مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ إِلَّا قَدْرَ مَوْضِعِ قَدَمِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ حَالَةُ هَؤُلَاءِ فِي عَرَقِهِمْ مَعَ تَنَوُّعِهِمْ فِيهِ إِنَّ هَذَا لَمِمَّا يَبْهَرُ الْعُقُولَ وَيَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَيَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ أَنْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهَا مَجَالٌ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِعَقْلٍ وَلَا قِيَاس ولاعادة وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْقَبُولِ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ دَلَّ عَلَى خُسْرَانِهِ وَحِرْمَانِهِ وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ أَنْ يَتَنَبَّهَ السَّامِعُ فَيَأْخُذَ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُخَلِّصُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ وَيُبَادِرَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ التَّبِعَاتِ وَيَلْجَأَ إِلَى الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ فِي عَوْنِهِ عَلَى أَسْبَابِ السَّلَامَةِ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ دَارِ الهوان وادخاله دَار الْكَرَامَة بمنه وَكَرمه