فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب: إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم

( قَولُهُ بَابُ إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ)
هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعَ مَا سَأُبَيِّنُهُ مِنْ زِيَادَةٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا الْحَدِيثَ وَمَدَارُهُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ أَوْسِ بْنِ ضَمْعَجٍ عَنْهُ وَلَيْسَا جَمِيعًا من شَرط البُخَارِيّ وَقد نقل بن أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ شُعْبَةَ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَكِنْ هُوَ فِي الْجُمْلَةِ يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ عَلَّقَ مِنْهُ طَرَفًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ كَمَا سَيَأْتِي وَاسْتَعْمَلَهُ هُنَا فِي التَّرْجَمَةِ وَأَوْرَدَ فِي الْبَابِ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَهُوَ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِاسْتِوَاءِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْقِرَاءَةِ وَأَجَابَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ تَسَاوِيَ هِجْرَتِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ وَغَرَضِهِمْ بِهَا مَعَ مَا فِي الشَّبَابِ غَالِبًا مِنَ الْفَهْمِ ثُمَّ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَعْلَمُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ دَالٌّ عَلَى اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.

قُلْتُ وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ وَكُنَّا يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِبِينَ فِي الْعِلْمِ انْتَهَى وأظن فىهذه الرِّوَايَة إدراجا فَإِن بن خُزَيْمَةَ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ خَالِدٍ قَالَ.

قُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ فَأَيْنَ الْقِرَاءَةُ قَالَ إِنَّهُمَا كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ.

     وَقَالَ  فِيهِ قَالَ الْحَذَّاءُ وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدَ أَبِي قِلَابَةَ فِي ذَلِكَ هُوَ إِخْبَارُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ كَمَا أَنَّ مُسْتَنَدَ الْحَذَّاءِ هُوَ إِخْبَارُ أَبِي قِلَابَةَ لَهُ بِهِ فَيَنْبَغِي الْإِدْرَاجُ عَنِ الْإِسْنَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَنْبِيهٌ ضَمْعَجٌ وَالِدُ أَوْسٍ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَعْنَاهُ الْغَلِيظُ وَقَولُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ أَقْرَؤُهُمْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَفْقَهُ وَقِيلَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبِحَسَبِ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا الْأَفْقَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَقْرَأِ فَإِنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَضْبُوطٌ وَالَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِقْهِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَقَدْ يَعْرِضُ فِي الصَّلَاةِ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاةِ الصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا كَامِلُ الْفِقْهِ وَلِهَذَا قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْبَاقِينَ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَقْرَأُ مِنْهُ كَأَنَّهُ عَنَى حَدِيثَ أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ قَالَ وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْأَقْرَأَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ هُوَ الْأَفْقَهُ.

قُلْتُ وَهَذَا الْجَوَابُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَيَفْسُدُ الِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ تَقْدِيمَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِأَنَّهُ الْأَفْقَهُ ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ فِي الْهِجْرَةِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا انْتَهَى وَهُوَ وَاضِحٌ لِلْمُغَايَرَةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَكُونَ عَارِفًا بِمَا يَتَعَيَّنُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَلَا يُقَدَّمُ اتِّفَاقًا وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ اللِّسَانِ فَالْأَقْرَأُ مِنْهُمْ بَلِ الْقَارِئُ كَانَ أَفْقَهَ فِي الدِّينِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاء الَّذين جاؤوا بَعْدَهُمْ



[ قــ :664 ... غــ :685] .

     قَوْلُهُ  وَنَحْنُ شَبَبَةٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَتَيْنِ جَمْعُ شَابٍّ زَادَ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ بن عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ وَالْمُرَادُ تَقَارُبُهُمْ فِي السِّنِّ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ قُدُومِهِمْ .

     قَوْلُهُ  نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ فِي رِوَايَةِ بن عُلَيَّةَ الْمَذْكُورَةِ الْجَزْمُ بِهِ وَلَفْظُهُ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَالْمُرَادُ بِأَيَّامِهَا وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ .

     قَوْلُهُ  رَحِيمًا فَقَالَ لَو رجعتم فِي رِوَايَة بن عُلَيَّةَ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِيمًا رَقِيقًا فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا إِلَى أَهْلِنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْإِينَاسِ بِقَوْلِهِ لَوْ رَجَعْتُمْ إِذْ لَوْ بَدَأَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَنْفِيرٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أَجَابُوهُ بِنَعَمْ فَأَمَرَهُمْ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ ارْجِعُوا وَاقْتِصَارُ الصَّحَابِيِّ عَلَى ذِكْرِ سَبَبِ الْأَمْرِ بِرُجُوعِهِمْ بِأَنَّهُ الشَّوْقُ إِلَى أَهْلِيهِمْ دُونَ قَصْدِ التَّعْلِيمِ هُوَ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُرِفَ ذَلِكَ بِتَصْرِيحِ الْقَوْلِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ تَعْلِيمِهِمْ قَوْمَهُمْ أَشْرَفَ فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ وَلَمْ يَتَزَيَّنْ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّتُهُمْ صَادِقَةً صَادَفَ شَوْقُهُمْ إِلَى أَهْلِهِمُ الْحَظَّ الْكَامِلَ فِي الدِّينِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّعْلِيمِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ حَظٌّ وَافَقَ حَقًّا .

     قَوْلُهُ  وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ظَاهِرُهُ تَقْدِيمُ الْأَكْبَرِ بِكَثِيرِ السِّنِّ وَقَلِيلِهِ.
وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْكِبَرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ السِّنِّ أَوِ الْقَدْرِ كَالتَّقَدُّمِ فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدِّينِ فَبَعِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ فَهْمِ رَاوِي الْخَبَرِ حَيْثُ قَالَ لِلتَّابِعِيِّ فَأَيْنَ الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ السِّنِّ وَكَذَا دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْأَكْبَرِ عَلَى الْأَقْرَأِ وَالثَّانِي عَكْسُهُ ثُمَّ انْفَصَلَ عَنْهُ بِأَنَّ قِصَّةَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ قَابِلَةٌ لِلِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ تَقْرِيرُ قَاعِدَةٍ تُفِيدُ التَّعْمِيمَ قَالَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْبَرُ مِنْهُمْ كَانَ يَوْمَئِذٍ هُوَ الأفقه انْتَهَى وَالتَّنْصِيصُ عَلَى تَقَارُبِهِمْ فِي الْعِلْمِ يَرِدُ عَلَيْهِ فَالْجَمْعُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا فَضْلُ الْهِجْرَةِ وَالرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَفَضْلِ التَّعْلِيمِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَإِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي بَابِ مَنْ قَالَ يُؤَذِّنُ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى