فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب قول الله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58]

( قَولُهُ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين)
كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْأَصِيلِيِّ وَالْحَفْصَوِيِّ عَلَى وَفْقِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ وَعَلَيْهِ جَرَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ إِنِّي انا الرَّزَّاق الخ وَعَلِيهِ جرى بن بطال وَتَبعهُ بن الْمُنِيرِ وَالْكِرْمَانِيُّ وَجَزَمَ بِهِ الصَّغَانِيُّ وَزَعَمَ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِمْ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ خِلَافَ الْقِرَاءَةِ قَالَ وَقَدْ ثَبت ذَلِك قِرَاءَة عَن بن مَسْعُودٍ.

قُلْتُ وَذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ كَذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ عَن بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَعْنَى فِي وَصْفِهِ بِالْقُوَّةِ أَنَّهُ الْقَادِرُ الْبَلِيغُ الِاقْتِدَارَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ



[ قــ :6984 ... غــ :7378] .

     قَوْلُهُ  عَنْ أَبِي حَمْزَةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ هُوَ السُّكَّرِيُّ وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ .

     قَوْلُهُ  مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ الله الحَدِيث تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ .

     قَوْلُهُ  هُنَا وَيَرْزُقُهُمْ وَقَولُهُ يَدْعُونَ بِسُكُونِ الدَّالِ وَجَاء تشديدها قَالَ بن بَطَّالٍ تَضَمَّنَ هَذَا الْبَابُ صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةُ ذَاتٍ وَصِفَةُ فِعْلٍ فَالرِّزْقُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ لِأَنَّ رَازِقًا يَقْتَضِي مَرْزُوقًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ وَلَا مَرْزُوقٌ وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الرَّزَّاقُ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيَرْزُقُ إِذَا خَلَقَ الْمَرْزُوقِينَ وَالْقُوَّةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَلَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَا قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ وَلَمْ تَزَلْ قُدْرَتُهُ مَوْجُودَةً قَائِمَةً بِهِ مُوجِبَةً لَهُ حُكْمَ الْقَادِرِينَ وَالْمَتِينُ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الثَّابِتُ الصَّحِيحُ.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيُّ الْقَوِيُّ التَّامُّ الْقُدْرَةِ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَجْزٌ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْقُدْرَةِ وَالْقَادِرُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الشَّامِلَةُ وَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْمُقْتَدِرُ هُوَ التَّامُّ الْقُدْرَةِ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهُ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِقُدْرَةٍ لِأَنَّ الْقُوَّةَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ذُو الْقُوَّةِ وَزَعَمَ الْمُعْتَزِلِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ذُو الْقُوَّةِ الشَّدِيدُ الْقُوَّةِ وَالْمَعْنَى فِي وَصْفِهِ بِالْقُوَّةِ وَالْمَتَانَةِ أَنَّهُ الْقَادِرُ الْبَلِيغُ الاقتدار فَجرى على طريقتهم فِي ان الْقُدْرَة صفة نَفْسِيَّةٌ خِلَافًا لِقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّهَا صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَقْدُورٍ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ كَوْنُ الْقُدْرَةِ قَدِيمَةً وَإِفَاضَةِ الرِّزْقِ حَادِثَةً لَا يَتَنَافَيَانِ لِأَنَّ الْحَادِثَ هُوَ التَّعَلُّقُ وَكَوْنُهُ رَزَقَ الْمَخْلُوقَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ فِيهِ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ فِي التَّعَلُّقِ فَإِنَّ قُدْرَتَهُ لَمْ تَكُنْ مُتَعَلِّقَةً بِإِعْطَاءِ الرِّزْقِ بَلْ بِكَوْنِهِ سَيَقَعُ ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ الصِّفَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ هَلِ الْقُدْرَةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَمَنْ نَظَرَ فِي الْقُدْرَةِ إِلَى الِاقْتِدَارِ عَلَى إِيجَادِ الرِّزْقِ قَالَ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ قَدِيمَةٌ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ قَالَ هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ حَادِثَةٌ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ فِي الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ بِخِلَافِ الذَّاتِيَّةِ وَقَولُهُ فِي الْحَدِيثِ أَصْبَرُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الصَّبْرِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصَّبُورُ وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعَاجِلُ الْعُصَاةَ بِالْعُقُوبَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَلِيمِ وَالْحَلِيمُ أَبْلَغُ فِي السَّلَامَةِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَى أَذَى رُسُلِهِ وَصَالِحِي عِبَادِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ أَذَى الْمَخْلُوقِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ صِفَةَ نَقْصٍ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَلَا يُؤَخِّرُ النِّقْمَةَ قَهْرًا بَلْ تَفَضُّلًا وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ فِي نَفْيِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ أَذًى لَهُمْ فَأُضِيفَ الْأَذَى لِلَّهِ تَعَالَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِعْظَامِ لِمَقَالَتِهِمْ وَمِنْهُ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَإِنَّ مَعْنَاهُ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ رَسُولِهِ فأقيم الْمُضَاف مقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ قَالَ بن الْمُنِيرِ وَجْهُ مُطَابَقَةِ الْآيَةِ لِلْحَدِيثِ اشْتِمَالُهُ عَلَى صِفَتَيِ الرِّزْقِ وَالْقُوَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ أَمَّا الرِّزْقُ فَوَاضِحٌ مِنْ قَوْلِهِ وَيَرْزُقُهُمْ.
وَأَمَّا الْقُوَّةُ فَمِنْ قَوْلِهِ أَصْبَرُ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مَعَ إِسَاءَتِهِمْ بِخِلَافِ طَبْعِ الْبَشَرِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسِيءِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ تَكَلُّفِهِ ذَلِكَ شَرْعًا وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خَوْفَ الْفَوْتِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمُكَافَأَةِ بِالْعُقُوبَةِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ حَالًا وَمَآلًا لَا يعجزه شَيْء وَلَا يفوتهُ