فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب: لا تستقبل القبلة بغائط أو بول، إلا عند البناء، جدار أو نحوه

( قَولُهُ بَابُ لَا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ)
فِي رِوَايَتِنَا بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَبِرَفْعِ الْقِبْلَةِ وَفِي غَيرهَا بِفَتْح الْيَاء التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْقِبْلَةِ وَلَامُ تُسْتَقْبَلُ مَضْمُومَةٌ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ .

     قَوْلُهُ  إِلَّا عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٌ أَوْ نَحْوُهُ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ كَالْأَحْجَارِ الْكِبَارِ وَالسَّوَارِي وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا مِنَ السَّوَاتِرِ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ وَأُجِيبَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِحَقِيقَةِ الْغَائِطِ لِأَنَّهُ الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْفَضَاءِ وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ أُعِدَّ لِذَلِكَ مَجَازًا فَيَخْتَصُّ النَّهْيُ بِهِ إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ وَهَذَا الْجَوَابُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهُوَ أَقْوَاهَا ثَانِيهَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَضَاءِ.
وَأَمَّا الْجِدَارُ وَالْأَبْنِيَةُ فَإِنَّهَا إِذَا اسْتُقْبِلَتْ أُضِيفَ إِلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ عرفا قَالَه بن الْمُنِيرِ وَيَتَقَوَّى بِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ الْمُعَدَّةَ لَيْسَتْ صَالِحَةً لِأَنْ يُصَلَّى فِيهَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا قِبْلَةٌ بِحَالٍ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةٌ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ مَكَانٌ لَا يَصْلُحُ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ بَاطِلٌ ثَالِثُهَا الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَفَاد من حَدِيث بن عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ لِأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّهُ كَأَنَّهُ شَيْء وَاحِد قَالَه بن بطال وارتضاه بن التِّينِ وَغَيْرُهُ لَكِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَبْقَى لِتَفْصِيلِ التَّرَاجِمِ مَعْنًى فَإِنْ قِيلَ لِمَ حَمَلْتُمُ الْغَائِطَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَمْ تَحْمِلُوهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ لِيَتَنَاوَلَ الْفَضَاءَ وَالْبُنْيَانَ لَا سِيَّمَا وَالصَّحَابِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ قَالَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ فَالْجَوَابُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَعْمَلَ لَفْظَ الْغَائِطِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ التَّخْصِيص وَلَوْلَا أَن حَدِيث بن عُمَرَ دَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالْأَبْنِيَةِ لَقُلْنَا بِالتَّعْمِيمِ لَكِنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنَ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا وَقَدْ جَاءَ عَنْ جَابِرٍ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وبن خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ تَأْيِيدُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنَا إِذَا هَرَقْنَا الْمَاءَ قَالَ ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِحَدِيثِ النَّهْيِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُبَالَغَتِهِ فِي التستر ورؤية بن عُمَرَ لَهُ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا سَيَأْتِي فَكَذَا رِوَايَةُ جَابِرٍ وَدَعْوَى خُصُوصِيَّةِ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا إِذِ الْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَدَلَّ حَدِيث بن عُمَرَ الْآتِي عَلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فِي الْأَبْنِيَةِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْبَالِهَا وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ لَا يُخَصُّ مِنْ عُمُومِهِ بِحَدِيث بن عُمَرَ إِلَّا جَوَازُ الِاسْتِدْبَارِ فَقَطْ وَلَا يُقَالُ يُلْحَقُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ قِيَاسًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلْحَاقُهُ بِهِ لِكَوْنِهِ فَوْقَهُ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ قَوْمٌ فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاسْتِدْبَارِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَبِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ مُطْلَقًا قَالَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ لِإِعْمَالِهِ جَمِيعَ الْأَدِلَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ مَا تَقَدَّمَ عَن بن الْمُنِيرِ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ فِي الْبُنْيَانِ مُضَافٌ إِلَى الْجِدَارِ عُرْفًا وَبِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ الْمُعَدَّةَ لِذَلِكَ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ فَلَيْسَتْ صَالِحَةً لِكَوْنِهَا قِبْلَةً بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ فِيهِمَا.

     وَقَالَ  قَوْمٌ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ.

     وَقَالَ  بِهِ أَبُو ثَوْر صَاحب الشَّافِعِي وَرجحه من الْمَالِكِيَّة بن الْعَرَبِيّ وَمن الظاهريه بن حَزْمٍ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ.

     وَقَالَ  قَوْمٌ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ وَرَبِيعَةَ وَدَاوُدَ وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ تَعَارَضَتْ فَلْيُرْجَعْ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ مَشْهُورَةٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَحْكِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ غَيْرَهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أُخْرَى مِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِدْبَارِ فِي الْبُنَيَّانِ فَقَطْ تمسكا بِظَاهِر حَدِيث بن عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمِنْهَا التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ وَهِيَ بَيْتُ الْمُقَدّس وَهُوَ محكي عَن إِبْرَاهِيم وبن سِيرِينَ عَمَلًا بِحَدِيثِ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ بِبَوْلٍ أَوْ بِغَائِطٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهِ رَاوِيًا مَجْهُولَ الْحَالِ وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ عَلَى سَمْتِهَا لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدْبَارَهُمُ الْكَعْبَةَ فَالْعِلَّةُ اسْتِدْبَارُ الْكَعْبَةِ لَا اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدِ ادَّعَى الْخَطَّابِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِمَنْ لَا يَسْتَدْبِرُ فِي اسْتِقْبَالِهِ الْكَعْبَةَ وَفِيه نظر لما ذَكرْنَاهُ عَن إِبْرَاهِيم وبن سِيرِينَ وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا حَكَاهُ بن أَبِي الدَّمِ وَمِنْهَا أَنَّ التَّحْرِيمَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ كَانَ عَلَى سَمْتِهَا فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ قِبْلَتُهُ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ .

     قَوْلُهُ  شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا قَالَهُ أَبُو عَوَانَةَ صَاحِبُ الْمُزَنِيِّ وَعَكَسَهُ الْبُخَارِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلَا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى



[ قــ :143 ... غــ :144] .

     قَوْلُهُ  فَلَا يَسْتَقْبِلِ بِكَسْرِ اللَّامِ لِأَنَّ لَا نَاهِيَةٌ وَاللَّامُ فِي الْقِبْلَةِ لِلْعَهْدِ أَيْ لِلْكَعْبَةِ .

     قَوْلُهُ  وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ وَلِمُسْلِمٍ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا وَزَادَ بِبَوْلٍ أَوْ بِغَائِطٍ وَالْغَائِطُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ أُطْلِقَ عَلَى الْخَارِجِ مِنَ الدُّبُرِ مَجَازًا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَرَاهِيَةً لِذِكْرِهِ بِصَرِيحِ اسْمِهِ وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ جِنَاسٌ تَامٌّ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ بِبَوْلٍ اخْتِصَاصُ النَّهْيِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ مِنَ الْعَوْرَةِ وَيَكُونُ مَثَارُهُ إِكْرَامَ الْقِبْلَةِ عَنِ الْمُوَاجَهَةِ بِالنَّجَاسَةِ وَيُؤَيِّدُهُ .

     قَوْلُهُ  فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إِذَا هَرَقْنَا الْمَاءَ وَقِيلَ مَثَارُ النَّهْيِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَعَلَى هَذَا فَيَطَّرِدُ فِي كُلِّ حَالَةٍ تُكْشَفُ فِيهَا الْعَوْرَةُ كَالْوَطْءِ مَثَلًا وَقد نَقله بن شاش الْمَالِكِيُّ قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِمْ وَكَأَنَّ قَائِلَهُ تَمَسَّكَ بِرِوَايَةٍ فِي الْمُوَطَّأِ لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِكُمْ وَلَكِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى