فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب ما جاء في الجنائز، ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله

( قَـوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْجَنَائِزِ)
كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ وَأَبِي الْوَقْتِ وَالْبَسْمَلَةُ مِنَ الْأَصْلِ وَلِكَرِيمَةَ بَابٌ فِي الْجَنَائِزِ وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ لَكِنْ بِحَذْفِ بَابٌ وَالْجَنَائِزُ بِفَتْحِ الْجِيمِ لَا غَيْرَ جَمْعُ جِنَازَةٍ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لُغَتَانِ قَالَ بن قُتَيْبَةَ وَجَمَاعَةٌ الْكَسْرُ أَفْصَحُ وَقِيلَ بِالْكَسْرِ لِلنَّعْشِ وَبِالْفَتْحِ لِلْمَيِّتِ وَقَالُوا لَا يُقَالُ نَعْشٌ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ تَنْبِيهٌ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ كِتَابَ الْجَنَائِزِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِهِمَا وَلِأَنَّ الَّذِي يُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ وَتَكْفِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَهَمُّهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةِ الدُّعَاءِ لَهُ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا سِيَّمَا عَذَابَ الْقَبْرِ الَّذِي سَيُدْفَنُ فِيهِ .

     قَوْلُهُ  وَمَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قِيلَ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ جَوَابَ مَنْ مِنَ التَّرْجَمَةِ مُرَاعَاةً لِتَأْوِيلِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَأَبْقَاهُ إِمَّا لِيُوَافِقَهُ أَوْ لِيُبْقِيَ الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَدْ روى بن أَبِي حَاتِمٍ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ أَرَادُوا تَلْقَيْنَهُ فَتَذَكَّرُوا حَدِيثَ مُعَاذٍ فَحَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو زُرْعَةَ بِإِسْنَادِهِ وَخَرَجَتْ رُوحُهُ فِي آخِرِ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَنْبِيهٌ كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِي التَّلْقِينِ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ فَاكْتَفَى بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ كَذَلِكَ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ هَذَا الْخَبَرُ يَتَنَاوَلُ بِلَفْظِهِ مَنْ قَالَهَا فَبَغَتَهُ الْمَوْتُ أَوْ طَالَتْ حَيَاتُهُ لَكِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ غَيْرِهَا وَيَخْرُجُ بِمَفْهُومِهِ مَنْ تَكَلَّمَ لَكِنِ اسْتَصْحَبَ حُكْمَهَا مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نُطْقٍ بِهَا فَإِنْ عَمِلَ أَعْمَالًا سَيِّئَةً كَانَ فِي الْمَشِيئَةِ وَإِنْ عَمِلَ أَعْمَالًا صَالِحَةً فَقَضِيَّةُ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ النُّطْقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ الْمُسْتَصْحَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ لُقِّنَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَأُكْثِرَ عَلَيْهِ فَقَالَ إِذَا.

قُلْتُ مَرَّةً فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ أَتَكَلَّمْ بِكَلَامٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّفْرِقَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَخْ يَجُوزُ نَصْبُ مِفْتَاحُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ كَأَن الْقَائِل أَشَارَ إِلَى مَا ذكر بن إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرْسَلَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ لَهُ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مِفْتَاحِ الْجَنَّةِ فَقُلْ مِفْتَاحُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَزَادَ وَلَكِنْ مِفْتَاحٌ بِلَا أَسْنَانٍ فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ نَظِيرُ مَا أَجَابَ بِهِ وَهْبٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُدْرَجَةً فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ.
وَأَمَّا أَثَرُ وَهْبٍ فَوَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رُمَّانَةَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ قِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَهُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ كَلِمَتَا الشَّهَادَةِ فَلَا يَرِدُ إِشْكَالُ تَرْكِ ذِكْرِ الرِّسَالَةِ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَقَبٌ جَرَى عَلَى النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ شَرْعًا.
وَأَمَّا قَوْلُ وَهْبٍ فَمُرَادُهُ بِالْأَسْنَانِ الْتِزَامُ الطَّاعَةِ فَلَا يَرِدُ إِشْكَالُ مُوَافَقَةِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فَكَأَنَّ مُرَادَهُ لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فَتْحًا تَامًّا أَوْ لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي أولي الْأَمْرِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَالِبِ وَإِلَّا فَالْحَقُّ أَنَّهُمْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِهِ هَذَا فِي التَّهْلِيلِ وَلَفْظُهُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَثَلُ الدَّاعِي بِلَا عَمَلٍ مَثَلُ الرَّامِي بِلَا وَتَرٍ قَالَ الدَّاوُدِيُّ قَوْلُ وَهْبٍ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْدِيدِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَيْ حَدِيثُ الْبَابِ وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا أَتَى بمفتاح وَله أَسْنَان لَكِن مَنْ خَلَطَ ذَلِكَ بِالْكَبَائِرِ حَتَّى مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ أَسْنَانُهُ قَوِيَّةً فَرُبَّمَا طَالَ علاجه.

     وَقَالَ  بن رَشِيدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ وَالْإِخْلَاصُ يَسْتَلْزِمُ التَّوْبَةَ وَالنَّدَمَ وَيَكُونُ النُّطْقُ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ وَأَدْخَلَ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَلِهَذَا قَالَ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ وَمَعْنَى قَوْلِ وَهْبٍ إِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ جِيَادٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ النَّعْتِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ لِأَنَّ مُسَمَّى الْمِفْتَاحِ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِالْأَسْنَانِ وَإِلَّا فَهُوَ عُودٌ أَوْ حَدِيدَةٌ



[ قــ :1193 ... غــ :1237] .

     قَوْلُهُ  أَتَانِي آتٍ سَمَّاهُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ وَاصِلٍ جِبْرِيلُ وَجَزَمَ بِقَوْلِهِ فَبَشَّرَنِي وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَهْدِيٍّ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةً قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ تَنَحَّى فَلَبِثَ طَوِيلًا ثُمَّ أَتَانَا فَقَالَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهُوَ نَائِمٌ ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا رُؤْيَا مَنَامٍ .

     قَوْلُهُ  مِنْ أُمَّتِي أَيْ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ .

     قَوْلُهُ  لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ بِلَفْظِ مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثَ وإِنَّمَا لَمْ يُورِدْهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيثَارِ الْخَفِيِّ عَلَى الْجَلِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ الشِّرْكِ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ وَيَشْهَدُ لَهُ اسْتِنْبَاطُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ مِنْ مَفْهُومِ





[ قــ :1194 ... غــ :138] قَوْلِهِ مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ النَّارَ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَى نَفْيِ الشِّرْكِ أَنْ لَا يَتَّخِذَ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَارَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ .

     قَوْلُهُ  فَقُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَدْ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ القَائِلَ ذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْقَائِلُ هُوَ أَبُو ذَرٍّ وَالْمَقُولُ لَهُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي اللِّبَاسِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ أَبُو ذَرٍّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ مُسْتَوْضِحًا وَأَبُو ذَرٍّ قَالَهُ مُسْتَبْعِدًا وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّجَاءِ الَّتِي أَفْضَى الِاتِّكَالُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْجَهَلَةِ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُوبِقَاتِ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُقُوطِهَا أَنْ لَا يَتَكَفَّلَ اللَّهُ بِهَا عَمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ اسْتِبْعَادَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَيْ صَارَ إِلَيْهَا إِمَّا ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الْحَالِ وَإِمَّا بَعْدَ أَنْ يَقَعَ مَا يَقَعُ مِنَ الْعَذَابِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تَسْلُبُ اسْمَ الْإِيمَانِ وَأَنَّ غَيْرَ الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَالْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ وَكَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ اسْتَحْضَرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مُعَارِضٌ لِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ وَبِحَمْلِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى عَدَمِ التَّخْلِيدِ فِي النَّارِ .

     قَوْلُهُ  عَلَى رَغْمِ أنف أبي ذَر بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَيُقَالُ بِضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَهُوَ مَصْدَرُ رَغَمَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّغْمِ وَهُوَ التُّرَابُ وَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُلْصَقَ أَنْفُهُ بِالتُّرَابِ .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا عُمَرُ بن حَفْص أَي بن غِيَاثٍ وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ بن مَسْعُودٍ وَكُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ .

     قَوْلُهُ  مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا وَفِي أَوَّلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقُلْتُ أَنَا أُخْرَى وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي أَنَّ الْمَرْفُوعَ الْوَعِيدُ وَالْمَوْقُوفَ الْوَعْدُ وَزَعَمَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ وَتَبِعَهُ مُغَلْطَايْ فِي شَرْحِهِ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ من طَرِيق وَكِيع وبن نُمَيْرٍ بِالْعَكْسِ بِلَفْظِ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَكَأَنَّ سَبَبَ الْوَهْمِ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ بِالْعَكْسِ لَكِنْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ وَكِيعٍ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ أَنَّ الَّذِي قلبه أَبُو عوَانَة وَحده وَبِذَلِك جزم بن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ وَكَذَلِكَ أخرجه أَحْمد من طَرِيق عَاصِم وبن خُزَيْمَة من طَرِيق يسَار وبن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ كُلُّهُمْ عَنْ شَقِيقٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ لِأَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ عَلَى وَفْقِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ بِخِلَافِ جَانِبِ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ فِي مَحَلِّ الْبَحْثِ إِذْ لَا يَصِحُّ حمله على ظَاهره كَمَا تقدم وَكَأن بن مَسْعُودٍ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ قَالَ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ.

     وَقَالَ  النَّوَوِيُّ الْجَيِّدُ أَن يُقَال سمع بن مَسْعُودٍ اللَّفْظَتَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ فِي وَقْتٍ حَفِظَ إِحْدَاهُمَا وَتَيَقَّنَهَا وَلَمْ يَحْفَظِ الْأُخْرَى فَرَفَعَ الْمَحْفُوظَةَ وَضَمَّ الْأُخْرَى إِلَيْهَا وَفِي وَقْتٍ بِالْعَكْسِ قَالَ فَهَذَا جَمْعٌ بَين روايتي بن مَسْعُودٍ وَمُوَافَقَتِهِ لِرِوَايَةِ غَيْرِهِ فِي رَفْعِ اللَّفْظَتَيْنِ انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي قَالَ مُحْتَمَلٌ بِلَا شَكٍّ لَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ فَلَو تعدد مخرجه إِلَى بن مَسْعُودٍ لَكَانَ احْتِمَالًا قَرِيبًا مَعَ أَنَّهُ يُسْتَغْرَبُ مِنَ انْفِرَادِ رَاوٍ مِنَ الرُّوَاةِ بِذَلِكَ دُونَ رُفْقَتِهِ وَشَيْخِهِمْ وَمَنْ فَوْقَهُ فَنِسْبَةُ السَّهْوِ إِلَى شَخْصٍ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ أَوْلَى مِنْ هَذَا التَّعَسُّفِ فَائِدَةٌ حَكَى الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ مَرْفُوعًا كُلُّهُ وَأَنَّهُ وهم فِي ذَلِك وَفِي حَدِيث بن مَسْعُودٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخطاب وَيحْتَمل أَن يكون أثر بن مَسْعُودٍ أَخَذَهُ مِنْ ضَرُورَةِ انْحِصَارِ الْجَزَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْكَثِيرِ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ