فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب الكهانة

قَوْله بَاب الكهانة)
وَقع فِي بن بَطَّالٍ هُنَا وَالسِّحْرُ وَلَيْسَ هُوَ فِي نُسَخِ الصَّحِيحِ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ بَلْ تَرْجَمَةِ السِّحْرِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ عَقِبَ هَذِهِ وَالْكَهَانَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ كَالْإِخْبَارِ بِمَا سَيَقَعُ فِي الْأَرْضِ مَعَ الِاسْتِنَادِ إِلَى سَبَب وَالْأَصْل فِيهِ استراق الجنى السَّمْعِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَيُلْقِيهِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ وَالْكَاهِنُ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى الْعَرَّافِ وَالَّذِي يَضْرِبُ بِالْحَصَى وَالْمُنَجِّمُ وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَيَسْعَى فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ.

     وَقَالَ  فِي الْمُحْكَمِ الْكَاهِنُ الْقَاضِي بِالْغَيْبِ.

     وَقَالَ  فِي الْجَامِعِ الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ أَذِنَ بِشَيْءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ كَاهِنًا.

     وَقَالَ  الْخَطَّابِيُّ الْكَهَنَةُ قَوْمٌ لَهُمُ أَذْهَانٌ حَادَّةٌ وَنُفُوسٌ شِرِّيرَةٌ وَطِبَاعٌ نَارِيَّةٌ فَأَلِفَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ فِي هَذِه الْأُمُور ومساعدتهم بِكُلِّ مَا تَصِلُ قُدْرَتُهُمُ إِلَيْهِ وَكَانَتِ الْكَهَانَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاشِيَةً خُصُوصًا فِي الْعَرَبِ لِانْقِطَاعِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ وَهِيَ عَلَى أَصْنَافٍ مِنْهَا مَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ فَإِنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَصْعَدُونَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ فَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ يَدْنُوَ الْأَعْلَى بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكَلَامَ فَيُلْقِيهِ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى أَنْ يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقِيهِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ فَيَزِيدُ فِيهِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ حُرِسَتِ السَّمَاءُ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ فَبَقِيَ مِنَ اسْتِرَاقِهِمْ مَا يَتَخَطَّفُهُ الْأَعْلَى فَيُلْقِيهِ إِلَى الْأَسْفَلِ قَبْلَ أَن يُصِيبهُ الشهَاب وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثاقب وَكَانَتِ إِصَابَةُ الْكُهَّانِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَثِيرَةً جِدًّا كَمَا جَاءَ فِي أَخْبَارِ شِقٍّ وَسُطَيْحٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَدَرَ ذَلِكَ جِدًّا حَتَّى كَادَ يَضْمَحِلُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ثَانِيهَا مَا يُخْبِرُ الْجِنِّيُّ بِهِ مَنْ يُوَالِيهِ بِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ غَالِبًا أَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ لَا مَنْ بَعُدَ ثَالِثُهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ وَحَدْسٍ وَهَذَا قَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةً مَعَ كَثْرَةِ الْكَذِبِ فِيهِ رَابِعُهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالْعَادَةِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْحَادِثِ بِمَا وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مَا يُضَاهِي السِّحْرَ وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطَّرْقِ وَالنُّجُومِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا وَوَرَدَ فِي ذَمِّ الْكَهَانَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَخْرَجَهُمَا الْبَزَّارُ بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ وَلَفْظُهُمَا مَنْ أتَى كَاهِنًا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ بِلَفْظِ مَنْ أَتَى عرافا وَأخرجه أَبُو يعلى من حَدِيث بن مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَلَفْظُهُ مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا وَاتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهُمْ عَلَى الْوَعِيدِ بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا حَدِيثَ مُسْلِمٍ فَقَالَ فِيهِ لَمْ يُقْبَلْ لَهُمَا صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَمَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ مَعَ صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا أَوْلَى مِنْ هَذَا وَالْوَعِيدُ جَاءَ تَارَةً بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ وَتَارَةً بِالتَّكْفِيرِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَالَيْنِ مِنَ الْآتِي أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ وَالْعَرَّافُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَنْ يَسْتَخْرِجُ الْوُقُوفَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِضَرْبٍ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ



[ قــ :5450 ... غــ :5758] قَوْله عَن بن شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَاقَهُ بِطُولِهِ كَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْهُ عَن بن شهَاب وَفصل مَالك عَن بن شِهَابٍ قِصَّةَ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ بن شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي تَلِي طَرِيقَ بن مُسَافر هَذِه وَقد روى اللَّيْث عَن بن شِهَابٍ أَصْلَ الْحَدِيثِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ وَكَذَا أَخْرَجَ هُنَاكَ طَرِيقَ يُونُس عَن بن شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدٍ مَعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَيَأْتِي شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَنِينِ وَالْغُرَّةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

     قَوْلُهُ  فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ هُوَ حمل بِفَتْح الْمُهْملَة وَالْمِيم الْخَفِيفَة بن مَالك بن النَّابِغَةِ الْهُذَلِيِّ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَن بن شهَاب عَن بن الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ مَعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكُنْيَةُ حَمَلٍ الْمَذْكُورِ أَبُو نَضْلَةَ وَهُوَ صَحَابِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ أَيْ قُضِيَ عَلَى مَنْ هِيَ مِنْهُ بسبيل وَفِي رِوَايَة اللَّيْث عَن بن شِهَابٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ وَبَنُو لِحْيَانَ حَيٌّ مِنْ هُذَيْلٍ وَجَاءَ تَسْمِيَةُ الضَّرَّتَيْنِ فِيمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمِ بْنِ عُوَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَتْ أُخْتِي مُلَيْكَةُ وَامْرَأَةٌ مِنَّا يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَفِيفٍ بِنْتُ مَسْرُوحٍ تَحْتَ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَضَرَبَتْ أُمُّ عَفِيفٍ مُلَيْكَةَ بِمِسْطَحٍ الْحَدِيثَ لَكِنْ قَالَ فِيهِ فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ مَسْرُوحٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلًّا مِنْ زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ حَمَلٌ وَأَخِيهَا وَهُوَ الْعَلَاءُ قَالَ ذَلِكَ تَوَارُدًا مَعًا عَلَيْهِ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمَا أَنَّ الَّذِي يُودَى هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ حَيًّا.
وَأَمَّا السِّقْطُ فَلَا يُودَى فَأَبْطَلَ الشَّرْعُ ذَلِكَ وَجَعَلَ فِيهِ غُرَّةً وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ لِلطَبَرَانِيِّ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ عُوَيْمٍ فَلَعَلَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى وَأُمُّ عَفِيفٍ بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءَيْنِ وَزْنُ عَظِيمٍ وَوَقَعَ فِي الْمُبْهَمَاتِ لِلْخَطِيبِ وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَن عِكْرِمَة عَن بن عَبَّاسٍ أَنَّهَا أُمُّ غُطَيْفٍ بِغَيْنٍ ثُمَّ طَاءٍ مُهْملَة مصغر فَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مَنْ لَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمُنَاسَبَةِ السَّجْعِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مَا لَا بَدَلَ مَنْ لَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ.

     وَقَالَ  أَبُو عُثْمَانَ بْنُ جِنِّيٍّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا أَكَلَ أَيْ لَمْ يَأْكُلْ أَقَامَ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ مَقَامَ الْمُضَارِعِ





[ قــ :5451 ... غــ :5759] .

     قَوْلُهُ  فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ يُهْدَرُ يُقَالُ دَمُ فُلَانٍ هَدَرَ إِذَا تَرَكَ الطَّلَبَ بِثَأْرِهِ وَطُلَّ الدَّمُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا وَحُكِيَ أَطَلَّ وَلَمْ يعرفهُ الْأَصْمَعِي وَوَقع للكشميهني فِي رِوَايَة بن مُسَافِرٍ بَطَلَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الْبُطْلَانِ كَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَزَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا لِلْجَمِيعِ بِالْمُوَحَّدَةِ قَالَ وَبِالْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوَطَّأِ وَقَدْ رجح الْخطابِيّ أَنه من الْبطلَان وَأنْكرهُ بن بَطَّالٍ فَقَالَ كَذَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا هُوَ طَلُّ الدَّمِ إِذَا هُدِرَ.

قُلْتُ وَلَيْسَ لِإِنْكَارِهِ مَعْنًى بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ مُوَجَّهٌ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .

     قَوْلُهُ  إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ أَيْ لِمُشَابَهَةِ كَلَامِهِ كَلَامَهُمْ زَادَ مُسْلِمٌ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي وَقَدْ وَرَدَ مُسْتَنَدُ ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عُصْبَةِ الْقَاتِلَةِ يَغْرَمُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْجَعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ وَالسَّجْعُ هُوَ تَنَاسُبُ آخِرِ الْكَلِمَاتِ لَفْظًا وَأَصْلُهُ الِاسْتِوَاءُ وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامُ الْمُقَفَّى وَالْجَمْعُ أَسْجَاعٌ وأساجيع قَالَ بن بَطَّالٍ فِيهِ ذَمُّ الْكُفَّارِ وَذَمُّ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِي أَلْفَاظِهِمْ وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاقِبْهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّفْحِ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ كَرِهَ السَّجْعَ فِي الْكَلَامِ وَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلِ الْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا يَقَعُ مَعَ التَّكَلُّفِ فِي مَعْرِضِ مُدَافَعَةِ الْحَقِّ.
وَأَمَّا مَا يَقَعُ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ فَجَائِزٌ وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَإِبْطَالِ الْحَقِّ كَانَ مَذْمُومًا وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ أَخَفَّ فِي الذَّمِّ وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ تَقْسِيمُهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ فَالْمَحْمُودُ مَا جَاءَ عَفْوًا فِي حَقٍّ وَدُونَهُ مَا يَقَعُ مُتَكَلَّفًا فِي حَقٍّ أَيْضًا وَالْمَذْمُومُ عَكْسُهُمَا وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا رَفْعُ الْجِنَايَةِ لِلْحَاكِمِ وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي الْجَنِينِ وَلَوْ خَرَجَ مَيِّتًا كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ مَعَ اسْتِيفَاء فَوَائده الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو فِي النَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْبَيْعِ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ





[ قــ :5453 ... غــ :576] .

     قَوْلُهُ  عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ كَأَنَّ هَذَا مِمَّا فَاتَ الزُّهْرِيَّ سَمَاعُهُ مِنْ عُرْوَةَ فَحَمَلَهُ عَن وَلَده عَنهُ مَعَ كَثْرَة مَا عِنْد الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَقَدْ وَصَفَهُ الزُّهْرِيُّ بِسَعَةِ الْعِلْمِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَفِي الْأَدَبِ من طَرِيق بن جريج كِلَاهُمَا عَن بن شِهَابٍ وَلَمْ أَقِفْ لِيَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ رَوَى بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ وَتَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَكَذَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ .

     قَوْلُهُ  سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ سَأَلَ نَاسٌ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ مِثْلُهُ وَمِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ وَقَدْ سُمِّيَ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ فَقَالَ لَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ الْحَدِيثَ.

     وَقَالَ  الْخَطَّابِيُّ هَؤُلَاءِ الْكُهَّانُ فِيمَا عُلِمَ بِشَهَادَةِ الِامْتِحَانِ قَوْمٌ لَهُمْ أَذْهَانٌ حَادَّةٌ وَنُفُوسٌ شِرِّيرَةٌ وَطَبَائِعُ نَارِيَّةٌ فَهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى الْجِنِّ فِي أُمُورِهِمْ وَيَسْتَفْتُونَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ فَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ تَعَرَّضَ إِلَى مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على من تنزل الشَّيَاطِين .

     قَوْلُهُ  فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَيْسُوا بِشَيْءٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّوْحِيدِ وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ لَهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ أَيْ لَيْسَ .

     قَوْلُهُ مْ بِشَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ عَمِلَ شَيْئًا وَلَمْ يُحْكِمْهُ مَا عَمِلَ شَيْئًا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَرَافَعُونَ إِلَى الْكُهَّانِ فِي الْوَقَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَقْوَالِهِمْ وَقَدْ انْقَطَعَتِ الْكِهَانَةُ بِالْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَكِنْ بَقِيَ فِي الْوُجُودِ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ إِتْيَانِهِمْ فَلَا يَحِلُّ إِتْيَانُهُمْ وَلَا تَصْدِيقُهُمْ .

     قَوْلُهُ  إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانَا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ هَذَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ إِشْكَالًا عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ لَيْسُوا بِشَيْء لِأَنَّهُ فهم مِنْهُ أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ أَصْلًا فَأَجَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ الصِّدْقِ وَأَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ يُصَدَّقَ لَمْ يَتْرُكْهُ خَالِصًا بَلْ يَشُوبُهُ بِالْكَذِبِ .

     قَوْلُهُ  تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِمُهْمَلَةٍ وَقَافٍ أَيِ الْكَلِمَةُ الْمَسْمُوعَةُ الَّتِي تَقَعُ حَقًّا وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ قَالَ النَّوَوِيُّ كَذَا فِي نُسَخِ بِلَادِنَا بِالْجِيمِ وَالنُّونِ أَيِ الْكَلِمَةُ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الَّتِي تَصِحُّ مِمَّا نَقَلَتْهُ الْجِنُّ.

قُلْتُ التَّقْدِيرُ الثَّانِي يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ بِالْحَاءِ وَالْقَافِ .

     قَوْلُهُ  يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ أَيِ الْكَاهِنُ يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ أَوِ الْجِنِّيُّ الَّذِي يَلْقَى الْكَاهِنُ يَخْطَفُهَا مِنْ جِنِّيٍّ آخَرَ فَوْقَهُ وَيَخْطَفُهَا بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَقَدْ تُكْسَرُ بَعْدَهَا فَاءٌ وَمَعْنَاهُ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَحْفَظُهَا بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فَيَقَرُّهَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَصُبُّهَا تَقُولُ قَرَرْتُ عَلَى رَأْسِهِ دَلْوًا إِذَا صَبَبْتُهُ فَكَأَنَّهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ ذَلِكَ الْكَلَامَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى أَلْقَاهَا فِي أُذُنِهِ بِصَوْتٍ يُقَالُ قَرَّ الطَّائِرُ إِذَا صَوَّتَ انْتَهَى وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ فَيُقَرْقِرُهَا أَيْ يُرَدِّدُهَا يُقَالُ قَرْقَرَتِ الدَّجَاجَةُ تُقَرْقِرُ قَرْقَرَةً إِذَا رَدَّدَتْ صَوْتَهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَيُقَالُ أَيْضًا قَرَّتِ الدَّجَاجَةُ تُقِرُّ قَرًّا وَقَرِيرًا وَإِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتِهَا قِيلَ قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً وَقَرْقَرِيرَةً قَالَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجِنِّيَّ إِذَا أَلْقَى الْكَلِمَةَ لِوَلِيِّهِ تَسَامَعَ بِهَا الشَّيَاطِينُ فَتَنَاقَلُوهَا كَمَا إِذَا صَوَّتَتِ الدَّجَاجَةُ فَسَمِعَهَا الدَّجَاجُ فَجَاوَبَتْهَا.
وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْأَشْبَهَ بِمَسَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجِنِّيَّ يُلْقِي الْكَلِمَةَ إِلَى وَلِيِّهِ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ مُتَرَاجِعٍ لَهُ زَمْزَمَةٌ وَيُرْجِعُهُ لَهُ فَلِذَلِكَ يَقَعُ كَلَامُ الْكُهَّانِ غَالِبًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَاخِر الْجَنَائِز فِي قصَّة بن صَيَّادٍ وَبَيَانُ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي قَوْلِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا زَمْزَمَةٌ وَأُطْلِقَ عَلَى الْكَاهِنِ وَلِيُّ الْجِنِّيِّ لِكَوْنِهِ يُوَالِيهِ أَوْ عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ الْكَاهِنَ إِلَى قَوْلِهِ وَلِيَّهُ لِلتَّعْمِيمِ فِي الْكَاهِنِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُوَالِي الْجِنَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِصَابَةَ الْكَاهِنِ أَحْيَانًا إِنَّمَا هِيَ لِأَنَّ الْجِنِّيَّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي يَسْمَعُهَا اسْتِرَاقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيَزِيدُ عَلَيْهَا أَكَاذِيبَ يَقِيسُهَا عَلَى مَا سَمِعَ فَرُبمَا أصَاب نَادرا وخطؤه الْغَالِبُ وَقَولُهُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ يَعْنِي الطَّائِرَ الْمَعْرُوفَ وَدَالُهَا مُثَلَّثَةٌ وَالْأَشْهَرُ فِيهَا الْفَتْحُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الزُّجَاجَةُ بِالزَّايِ الْمَضْمُومَةِ وَأَنْكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَدَّهَا فِي التَّصْحِيفِ لَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَقَدَّمَ فِي بَابِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ فَيُقِرُّهَا فِي أُذُنِهِ كَمَا تَقَرُّ الْقَارُورَةُ وَشَرَحُوهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ كَمَا يُسْمَعُ صَوْتُ الزُّجَاجَةِ إِذَا حَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ.

     وَقَالَ  الْقَابِسِيُّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ لِمَا يُلْقِيهِ الْجِنِّيُّ إِلَى الْكَاهِنِ حِسٌّ كَحِسِّ الْقَارُورَةِ إِذَا حُرِّكَتْ بِالْيَدِ أَوْ عَلَى الصَّفَا.

     وَقَالَ  الْخَطَّابِيُّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُطْبَقُ بِهِ كَمَا يُطْبَقُ رَأْسُ الْقَارُورَةِ بِرَأْسِ الْوِعَاءِ الَّذِي يُفْرَغُ فِيهِ مِنْهَا مَا فِيهَا وَأَغْرَبَ شَارِحُ المصابيح النوربشتي فَقَالَ الرِّوَايَةُ بِالزَّايِ أَحْوَطُ لِمَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ وَاسْتِعْمَالُ قَرَّ فِي ذَلِكَ شَائِعٌ بِخِلَافِ مَا فَسَرُّوا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ شَاهِدًا فِي كَلَامِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالدَّالِ تَصْحِيفٌ أَوْ غَلَطٌ مِنَ السَّامِعِ.
وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ قَرَّ الدَّجَاجَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ فَكَمَا يَصِحُّ أَنْ يُشَبَّهَ إِيرَادُ مَا اخْتَطَفَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْقَارُورَةِ يَصِحُّ أَنْ يُشَبَّهَ تَرْدِيدُ الْكَلَامِ فِي أُذُنِهِ بِتَرْدِيدِ الدَّجَاجَةِ صَوْتَهَا فِي أُذُنِ صَوَاحِبَاتِهَا وَهَذَا مُشَاهَدٌ تَرَى الدِّيكَ إِذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ يُقَرْقِرُ فَتَسْمَعُهُ الدَّجَاجُ فَتَجْتَمِعُ وَتُقَرْقِرُ مَعَهُ وَبَابُ التَّشْبِيهِ وَاسِعٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَلَاقَةِ غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِطَافَ مُسْتَعَارٌ لِلْكَلَامِ مِنْ فِعْلِ الطَّيْرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ فَيَكُونُ ذِكْرُ الدَّجَاجَةِ هُنَا أَنْسَبَ مِنْ ذِكْرِ الزُّجَاجَةِ لِحُصُولِ التَّرْشِيحِ فِي الِاسْتِعَارَةِ.

قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ دَعْوَى الدَّارَقُطْنِيِّ وَهُوَ إِمَامُ الْفَنِّ أَنَّ الَّذِي بِالزَّايِ تَصْحِيفٌ وَإِنْ كُنَّا مَا قَبِلْنَا ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ أَرْجَحَ .

     قَوْلُهُ  فَيَخْلِطُونَ مَعهَا مائَة كذبة فِي رِوَايَة بن جُرَيْجٍ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْمِائَةِ لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِتَعْيِينِ الْعَدَدِ وَقَولُهُ كَذْبَةٍ هُنَا بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ الْكَسْرُ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَصْلَ تَوَصُّلِ الْجِنِّيِّ إِلَى الِاخْتِطَافِ فَأَخْرَجَ من حَدِيث بن عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا رُمِيَ مِثْلُ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالُوا كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ فَقَالَ إِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ رَبَّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ إِلَى أَهْلِ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَرِقُ مِنْهُ الْجِنِّيُّ فَمَا جاؤوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ وَيَنْقُصُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سَبَأٍ وَغَيْرِهَا بَيَانُ كَيْفِيَّتِهِمْ عِنْدَ اسْتِرَاقِهِمْ.
وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّحَابِ السَّمَاءَ كَمَا أَطْلَقَ السَّمَاءَ عَلَى السَّحَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَرْضِ تَسْمَعُ مِنْهُمُ الشَّيَاطِينُ أَوِ الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلَةُ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ .

     قَوْلُهُ  قَالَ عَلِيٌّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُرْسَلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْحَقِّ ثُمَّ بَلَغَنِي أَنه أسْندهُ بعد على هَذَا هُوَ بن الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَمُرَادُهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ كَانَ يُرْسِلُ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَدِيثِ ثُمَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَلَهُ بِذِكْرِ عَائِشَةَ فِيهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ فَيَّاضِ بْنِ زُهَيْرٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبَّاسٍ الْعَنْبَرِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَوْصُولًا كَرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ وَفِي الْحَدِيثِ بَقَاءُ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِينِ السَّمْعَ لَكِنَّهُ قَلَّ وَنَدَرَ حَتَّى كَادَ يَضْمَحِلُّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ إِتْيَانِ الْكُهَّانِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مُحْتَسِبٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ النَّكِيرِ وَعَلَى مَنْ يَجِيءُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَغْتَرُّ بِصِدْقِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَلَا بِكَثْرَةِ مَنْ يَجِيءُ إِلَيْهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بَلْ مِنَ الْجُهَّالِ بِمَا فِي إِتْيَانِهِمْ مِنَ الْمَحْذُورِ تَنْبِيه إِيرَاد بَاب الكهانة فِي كِتَابَ الطِّبِّ لِمُنَاسَبَتِهِ لِبَابِ السِّحْرِ لِمَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ مَرْجِعِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلشَّيَاطِينِ وَإِيرَادُ بَابِ السِّحْرِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ لِمُنَاسَبَتِهِ ذِكْرَ الرُّقَى وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَنَاسَبَ ذِكْرَ الْأَدْوَاءِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ وَاشْتَمَلَ كِتَابُ الطِّبِّ عَلَى الْإِشَارَةِ لِلْأَدْوِيَةِ الْحِسِّيَّةِ كَالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَالْعَسَلِ ثُمَّ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالرُّقَى بِالدُّعَاءِ وَالْقُرْآنِ ثُمَّ ذَكَرْتُ الْأَدْوَاءَ الَّتِي تَنْفَعُ الْأَدْوِيَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ فِي دَفْعِهَا كَالسِّحْرِ كَمَا ذَكَرْتُ الْأَدْوَاءَ الَّتِي تَنْفَعُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسِّيَّةُ فِي دَفْعِهَا كَالْجُذَامِ وَالله أعلم