فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب لعن السارق إذا لم يسم

( قَولُهُ بَابُ لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ)
أَيْ إِذَا لَمْ يُعَيَّنْ إِشَارَةً إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ لَعْنِ الشَّارِبِ الْمُعَيَّنِ كَمَا مضى تَقْرِيره وَبَين حَدِيث الْبَاب قَالَ بن بَطَّالٍ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي تَعْيِينُ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَمُوَاجَهَتُهُمْ بِاللَّعْنِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْعَنَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ رَدْعًا لَهُمْ وَزَجْرًا عَنِ انْتِهَاكِ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ لِمُعَيَّنٍ لِئَلَّا يَقْنَطَ قَالَ فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَ الْبُخَارِيِّ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ لَعْنِ الشَّارِبِ.

     وَقَالَ  لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

قُلْتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ قَرِيبًا.

     وَقَالَ  الدَّاوُدِيُّ .

     قَوْلُهُ  فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِيَرْتَدِعَ مَنْ سَمِعَهُ عَنِ السَّرِقَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً.

قُلْتُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُرَادَ بِهِ حَقِيقَة اللَّعْن بل للتنفير فَقَطْ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ لَعَلَّ هُنَا الْمُرَادَ بِاللَّعْنِ الْإِهَانَةُ وَالْخِذْلَانُ كَأَنَّهُ قِيلَ لَمَّا اسْتَعْمَلَ أَعَزَّ شَيْءٍ فِي أَحْقَرِ شَيْءٍ خَذَلَهُ اللَّهُ حَتَّى قُطِعَ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ مَا لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ قَالَ وَلَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنِ اللَّعْنِ فِي الْجُمْلَةِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَوْلَى وَقَدْ قِيلَ إِنَّ لَعْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي كَانَ تَحْذِيرًا لَهُمْ عَنْهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا فَإِذَا فَعَلُوهَا اسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ.
وَأَمَّا مَنْ أَغْلَظَ لَهُ وَلَعَنَهُ تَأْدِيبًا عَلَى فِعْلٍ فَعَلَهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ شَرْطِهِ حَيْثُ قَالَ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَ لَعْنِي لَهُ كَفَّارَةً وَرَحْمَةً.

قُلْتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا صَدَرَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ كَمَا قُيِّدَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ



[ قــ :6430 ... غــ :6783] .

     قَوْلُهُ  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِي الْحُنَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَيَأْتِي بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ تَوْبَةِ السَّارِقِ.

     وَقَالَ  بن حَزْمٍ وَقَدْ سَلِمَ مِنْ تَدْلِيسِ الْأَعْمَشِ.

قُلْتُ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ الْأَعْمَشُ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ .

     قَوْلُهُ  لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ إِنْ سَرَقَ بَيْضَةً قُطِعَتْ يَدُهُ وَإِنْ سَرَقَ حَبْلًا قُطِعَتْ يَدُهُ .

     قَوْلُهُ  قَالَ الْأَعْمَشُ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ .

     قَوْلُهُ  كَانُوا يَرَوْنَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الرَّأْيِ وَبِضَمِّهِ مِنَ الظَّنِّ .

     قَوْلُهُ  أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ .

     قَوْلُهُ  وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ وَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ يَسْوَى وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّتَهَا وَالْحَقُّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لَكِنْ بِقِلَّةٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ تَأْوِيلُ الْأَعْمَشِ هَذَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ مِنَ اللَّوْمِ وَالتَّثْرِيبِ أَخْزَى اللَّهُ فُلَانًا عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ فِي مَالٍ لَهُ قَدْرٌ وَمَزِيَّةٌ وَفِي عَرَضٍ لَهُ قِيمَةٌ إِنَّمَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي مِثْلِهِ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَا وَزْنَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ هَذَا حُكْمُ الْعُرْفِ الْجَارِي فِي مِثْلِهِ وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلُهُ ذَمُّ السَّرِقَةِ وَتَهْجِينُ أَمْرِهَا وَتَحْذِيرُ سُوءِ مَغَبَّتِهَا فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ مِنَ الْمَالِ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ سَرِقَةَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ وَالْحَبْلِ الْخَلَقِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ إِذَا تَعَاطَاهُ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْعَادَةُ لَمْ يَيْأَسْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَةِ مَا فَوْقَهَا حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ فَلْيَحْذَرْ هَذَا الْفِعْلَ وَلْيَتَوَقَّهُ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَهُ الْعَادَةُ وَيَمْرُنَ عَلَيْهَا لِيَسْلَمَ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ وَوَخِيمِ عَاقِبَتِهِ.

قُلْتُ وَسَبَقَ الْخَطَّابِيَّ إِلَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِيمَا حَكَاهُ بن بَطَّالٍ فَقَالَ احْتَجَّ الْخَوَارِجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ فِي قَلِيلِ الْأَشْيَاءِ وَكَثِيرِهَا وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَزَلَ ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَكَانَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ قَالَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَعْمَشِ إِنَّ الْبَيْضَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الرَّأْسِ فِي الْحَرْبِ وَأَنَّ الْحَبْلَ مِنْ حِبَالِ السُّفُنِ فَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ صَحِيحَ كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ يَبْلُغُ دَنَانِيرَ كَثِيرَةً وَهَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ تَكْثِيرٍ لِمَا سَرَقَهُ السَّارِقُ وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَنْ يَقُولُوا قَبَّحَ اللَّهُ فُلَانًا عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضَّرْبِ فِي عِقْدِ جَوْهَرٍ وَتَعَرَّضَ لِلْعُقُوبَةِ بِالْغُلُولِ فِي جِرَابِ مِسْكٍ وَإِنَّمَا الْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَرَّضَ لِقَطْعِ الْيَدِ فِي حَبْلٍ رَثٍّ أَوْ فِي كُبَّةِ شَعْرٍ أَوْ رِدَاءٍ خَلَقٍ وَكُلُّ مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ انْتَهَى وَرَأَيْتُهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ وَفِيهِ حَضَرْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ بِمَكَّةَ قَالَ فَرَأَيْتُهُ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَيُعْجَبُ بِهِ وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ قَالَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَذَكَرَهُ وَقَدْ تَعَقَّبَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَقَالَ لَيْسَ الَّذِي طعن بِهِ بن قُتَيْبَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَبَرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ مِنَ السِّلَاحِ لَيْسَتْ عَلَمًا فِي كَثْرَةِ الثَّمَنِ وَنِهَايَةً فِي غُلُوِّ الْقِيمَةِ فَتَجْرِي مَجْرَى الْعِقْدِ مِنَ الْجَوْهَرِ وَالْجِرَابِ مِنَ الْمِسْكِ اللَّذَيْنِ رُبَّمَا يُسَاوِيَانِ الْأُلُوفَ مِنَ الدَّنَانِيرِ بَلِ الْبَيْضَةُ مِنَ الْحَدِيدِ رُبَّمَا اشْتُرِيَتْ بِأَقَلَّ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَإِنَّمَا مُرَادُ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّارِقَ يُعَرِّضُ قَطْعَ يَدِهِ بِمَا لَا غِنَى لَهُ بِهِ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ مِنَ السِّلَاحِ لَا يَسْتَغْنِي بِهَا أَحَدٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ أَنَّ السَّارِقَ يسرق الْجَلِيل قطع يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَقِيرَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ فَكَأَنَّهُ تَعْجِيزٌ لَهُ وَتَضْعِيفٌ لِاخْتِيَارِهِ لِكَوْنِهِ بَاعَ يَدَهُ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ.

     وَقَالَ  الْمَازِرِيُّ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ الْبَيْضَة فِي الحَدِيث ببيضة الْحَدِيدِ لِأَنَّهُ يُسَاوِي نِصَابَ الْقَطْعِ وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ مَا خَسِرَ وَحِقَرِ مَا حَصَلَ وَأَرَادَ مِنْ جِنْسِ الْبَيْضَةِ وَالْحَبْلِ مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَنَظِيرُ حَمْلِهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ فَإِنَّ أَحَدَ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَفْحَصَ الْقَطَاةِ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَحْضُنُ فِيهِ بَيْضَهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا قَالَ وَمِنْهُ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ وَهُوَ مِمَّا لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْبَيْضَةَ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَالْحَبْلَ حَبْلُ السُّفُنِ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَهُ قِيمَةٌ وَقَدْرٌ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي ذَمَّ مَنْ أَخَذَ الْقَلِيلَ لَا الْكَثِيرَ وَالْخَبَرُ إِنَّمَا وَرَدَ لِتَعْظِيمِ مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ بِمَا تَقِلُّ بِهِ قِيمَتُهُ لَا بِأَكْثَرَ وَالصَّوَابُ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيلِ أَمْرِهِ وَتَهْجِينِ فِعْلِهِ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقْطَعْ فِي هَذَا الْقَدْرِ جَرَّتْهُ عَادَتُهُ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ وَأَجَابَ بَعْضُ مَنِ انْتَصَرَ لِتَأْوِيلِ الْأَعْمَشِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مُجْمَلَةً قَبْلَ بَيَانِ نِصَابِ الْقَطْعِ انْتَهَى وَقَدْ أَخْرَجَ بن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فِي بَيْضَةِ حَدِيدٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِينَارٍ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ انْقِطَاعِهِ وَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ التَّأْوِيلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَعْمَشُ.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمُ الْبَيْضَةُ فِي اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ وَفِي الْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ فَمِنَ الْأَوَّلِ .

     قَوْلُهُ مْ فُلَانٌ بَيْضَةُ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ فَرْدًا فِي الْعَظَمَةِ وَكَذَا فِي الِاحْتِقَارِ وَمِنْهُ قَوْلُ أُخْتِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَخَاهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي مَرْثِيَّتِهَا لَهُ لَكِنَّ قَاتِلَهُ مَنْ لَا يعاب بِهِ من كَانَ يدعى قديم بَيْضَةَ الْبَلَدِ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الْآخَرِ يَهْجُو قَوْمًا تَأْبَى قُضَاعَةُ أَنْ تُبْدِيَ لَكُمْ نَسَبًا وَابْنَا نِزَارٍ فَأَنْتُمْ بَيْضَةُ الْبَلَدِ وَيُقَالُ فِي الْمَدْحِ أَيْضًا بَيْضَةُ الْقَوْمِ أَيْ وَسَطُهُمْ وَبَيْضَةُ السنام أَي شحمته فَلَمَّا كَانَتِ الْبَيْضَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَسُنَ التَّمْثِيلُ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ يَسْرِقُ الْجَلِيلَ وَالْحَقِيرَ فَيُقْطَعُ فَرُبَّ أَنَّهُ عُذِرَ بِالْجَلِيلِ فَلَا عُذْرَ لَهُ بِالْحَقِيرِ.
وَأَمَّا الْحَبْلُ فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّحْقِيرِ كَقَوْلِهِمْ مَا تَرَكَ فُلَانٌ عِقَالًا وَلَا ذَهَبَ مِنْ فُلَانٍ عِقَالٌ فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا اعْتَادَ السَّرِقَةَ لَمْ يَتَمَالَكْ مَعَ غَلَبَةِ الْعَادَةِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ وَأَيْضًا فَالْعَارُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْقَطْعِ لَا يُسَاوِي مَا حَصَلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ جَلِيلًا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بِقَوْلِهِ صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصُهَا صِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي وَرَدَّ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ يَدٌ بِخمْس مئين عسجد وديت مَا بالها قطعت فِي رُبْعِ دِينَارِ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي بَابِ السَّرِقَةِ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى