فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب صاع المدينة، ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته، وما توارث أهل المدينة من ذلك قرنا بعد قرن

( قَولُهُ بَابُ صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتِهِ)
أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ فِي الْوَاجِبَاتِ بِصَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ التَّشْرِيعَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلًا وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ فِي ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ الْمُدِّ وَالصَّاعِ فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ إِلَى زَمَنِهِ وَبِهَذَا احْتَجَّ مَالِكُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمَا فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي قَدْرِ الصَّاعِ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ الْأَوَّلُ حَدِيثُ السَّائِبِ بن يزِيد وَقَوله



[ قــ :6362 ... غــ :6712] كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ بن بَطَّالٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّهُمْ حِينَ حَدَّثَ بِهِ السَّائِبُ كَانَ أَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ فَإِذَا زِيدَ عَلَيْهِ ثُلُثُهُ وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ قَامَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَهُوَ الصَّاعُ بِدَلِيلِ أَنَّ مُدَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ وَصَاعُهُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ ثُمَّ قَالَ مِقْدَارُ مَا زِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا نَعْلَمُهُ وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ انْتَهَى وَمِنْ لَازِمِ مَا قَالَ أَنْ يَكُونَ صَاعُهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا لَكِنْ لَعَلَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ الرِّطْلِ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَكِيلَاتِ فَخَصَّ صَاعَ الْمَاءِ بِكَوْنِهِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَمُدَّهُ بِرِطْلَيْنِ فَقَصَرَ الْخِلَافَ عَلَى غَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَكِيلَاتِ الْحَدِيثُ الثَّانِي





[ قــ :6363 ... غــ :6713] .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ وَهُوَ سَلْمٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ.

قُلْتُ وَهُوَ الشَّعِيرِيُّ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَصْرِيٌّ أَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ بِالسِّنِّ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الْبَاهِلِيِّ وَلَدِ أَمِيرِ خُرَاسَانَ قُتَيْبَةَ بْنِ سلم وَقَدْ وُلِّيَ هُوَ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الشَّعِيرِيِّ وَمَاتَ قَبْلَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً .

     قَوْلُهُ  الْمُدُّ الْأَوَّلُ هُوَ نَعْتُ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ وَأَرَادَ نَافِعٌ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُعْطِي بِالْمُدِّ الَّذِي أَحْدَثَهُ هِشَامٌ قَالَ بن بَطَّالٍ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثُلُثَيْ رِطْلٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الْمُدَّ الْهِشَامِيَّ رِطْلَانِ وَالصَّاعَ مِنْهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ .

     قَوْلُهُ  قَالَ لَنَا مَالِكٌ هُوَ مَقُولُ أَبِي قُتَيْبَةَ وَهُوَ مَوْصُولٌ .

     قَوْلُهُ  مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ يَعْنِي فِي الْبَرَكَةِ أَيْ مُدُّ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ دُونَ مُدِّ هِشَامٍ فِي الْقدر لَكِن مد الْمَدِينَة مَخْصُوص با لبركة الْحَاصِلَةِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ مُدِّ هِشَامٍ ثُمَّ فسر مَالك مُرَاده بقوله وَلَا نرى الْفَضْلَ إِلَّا فِي مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

     قَوْلُهُ  وقَال لِي مَالِكٌ لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ إِلَخْ أَرَادَ مَالِكٌ بِذَلِكَ إِلْزَامَ مُخَالِفِهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ فَلَوِ احْتَجَّ الَّذِي تَمَسَّكَ بِالْمُدِّ الْهِشَامِيِّ فِي إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا شُرِعَ إِخْرَاجُهُ بِالْمُدِّ كَإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِأَنَّ الْأَخْذَ بِالزَّائِدِ أَوْلَى قِيلَ كَفَى بِاتِّبَاعِ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ بَرَكَةً فَلَوْ جَازَتِ الْمُخَالَفَةُ بِالزِّيَادَةِ لَجَازَتْ مُخَالَفَتُهُ بِالنَّقْصِ فَلَمَّا امْتَنَعَ الْمُخَالِفُ مِنَ الْأَخْذِ بِالنَّاقِصِ قَالَ لَهُ أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَمْدَادُ الثَّلَاثَةُ الْأَوَّلُ وَالْحَادِثُ وَهُوَ الْهِشَامِيُّ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ الْمَفْرُوضُ وُقُوعُهُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ الَّذِي تَحَقَّقَتْ شرعيته قَالَ بن بَطَّالٍ وَالْحُجَّةُ فِيهِ نَقْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ قَالَ وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ بِمِثْلِ هَذَا فِي تَقْدِيرِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ إِلَى مَالِكٍ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ تَنْبِيهٌ هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَبُو قُتَيْبَةَ وَلَا عَنْهُ إِلَّا الْمُنْذِرُ وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَعَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَلَمْ يَسْتَخْرِجَاهُ بَلْ ذَكَرَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ بن عُقْدَةَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْبَجَلِيِّ عَنِ الْمُنْذِرِ بِهِ دُونَ كَلَامِ مَالِكٍ.

     وَقَالَ  صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْمُنْذِرِ بِهِ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ وَزَادَ فِي آخِرِهِ يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَكَذَا عِنْد رُوَاة الْمُوَطَّأ عَن مَالك قَالَ بن الْمُنِيرِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَخْتَصَّ هَذِهِ الدَّعْوَةُ بِالْمُدِّ الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمُدُّ الْحَادِثُ بَعْدَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَعُمَّ كُلَّ مِكْيَالٍ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْأَبَدِ قَالَ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي كَذَا قَالَ وَكَلَامُ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ يَجْنَحُ إِلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَقَدْ تَغَيَّرَتِ الْمَكَايِيلُ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ عَصْرِ مَالِكٍ وَإِلَى هَذَا الزَّمَانِ وَقَدْ وُجِدَ مِصْدَاقُ الدَّعْوَةِ بِأَنْ بُورِكَ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ بِحَيْثُ اعْتَبَرَ قَدْرَهُمَا أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَمُقَلِّدُوهُمْ إِلَى الْيَوْمِ فِي غَالِبِ الْكَفَّارَاتِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُهَلَّبُ وَالله اعْلَم