فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب أفضل الاستغفار

( قَولُهُ بَابُ أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ)
سَقَطَ لَفْظُ بَابُ لأبي ذَر وَوَقع فِي شرح بن بَطَّالٍ بِلَفْظِ فَضْلُ الِاسْتِغْفَارِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْآيَتَيْنِ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ وَهُمَا دَالَّتَانِ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ ظَنَّ أَنَّ التَّرْجَمَةَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَلَكِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ يُؤَيِّدُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ إِثْبَاتَ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِذِكْرِ الْآيَتَيْنِ ثُمَّ بَيَّنَ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَتَرْجَمَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ وَوَقَعَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ السِّيَادَةِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيَادَةِ الْأَفْضَلِيَّةُ وَمَعْنَاهَا الْأَكْثَرُ نَفْعًا لِمُسْتَعْمِلِهِ وَمِنْ أَوْضَحِ مَا وَقَعَ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ يَسَارٍ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبِهَانِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْكَبَائِرِ تُغْفَرُ بِبَعْضِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَضَابِطُهُ الذُّنُوبُ الَّتِي لَا تُوجِبُ عَلَى مُرْتَكِبِهَا حُكْمًا فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ مَثَّلَ بِالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ يُغْفَرُ إِذَا كَانَ مِثْلَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ عَلَى مُرْتَكِبِهِ حُكْمًا فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ .

     قَوْلُهُ  وَقَولُهُ تَعَالَى وَاسْتَغْفرُوا ربكُم انه كَانَ غفارًا الْآيَةَ كَذَا رَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا ربكُم وَسَاقَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْهَارًا وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَثَرِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَيْهِ الْجَدْبَ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَشَكَى إِلَيْهِ آخَرُ الْفَقْرَ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَشَكَى إِلَيْهِ آخَرُ جَفَافَ بُسْتَانِهِ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَشَكَى إِلَيْهِ آخَرُ عَدَمَ الْوَلَدِ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي الْآيَةِ حَثٌّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَإِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا .

     قَوْلُهُ  وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ذَكَرُوا اللَّهَ فَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ فَاسْتَغْفَرُوا تَفْسِيرٌ لِلْمُرَادِ بِالذِّكْرِ وَقِيلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ ذَكَرُوا عِقَابَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى تَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أَيْ لِأَجْلِ ذُنُوبِهِمْ وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ صِفَةُ الِاسْتِغْفَارِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَة وَصَححهُ بن حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ يَقُولُ مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا غَفَرَ لَهُ ثُمَّ تَلَا وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة الْآيَةَ وَقَولُهُ تَعَالَى وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فعلوا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يُقْلِعَ الْمُسْتَغْفِرُ عَنِ الذَّنْبِ وَإِلَّا فَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّلَبُّسِ بِالذَّنْبِ كَالتَّلَاعُبِ وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ قَالَ إِبْلِيسُ يَا رَبِّ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِزَّتِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَفَعَهُ مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ السَّبْعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ وَإِلَّا فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ مَرْفُوعًا أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غفرت لَك



[ قــ :5972 ... غــ :6306] قَوْله حَدثنَا الْحُسَيْن هُوَ بن ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ أَيِ بن الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا بُشَيْرٌ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ وَقَدْ تَابَعَ حُسَيْنًا عَلَى ذَلِكَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَأَبُو الْعَوَّامِ عَنْ بُرَيْدَةَ وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ بَلْ قَالَا عَن بن بُرَيْدَةَ عَنْ شَدَّادٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَخَالَفَهُمُ الْوَلِيدُ بن ثَعْلَبَة فَقَالَ عَن بن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ وَصَححهُ بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ لَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ أَوَّلُ الْحَدِيثِ قَالَ النَّسَائِيُّ حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ أَثْبَتُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَأَعْلَمُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ وَحَدِيثُهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ.

قُلْتُ كَأَنَّ الْوَلِيدَ سَلَكَ الْجَادَّةَ لِأَنَّ جُلَّ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ وَكَأَنَّ مَنْ صَحَّحَهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْله حَدثنِي شَدَّاد بن أَوْس أَي بن ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ الْأَنْصَارِيُّ بن أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الشَّاعِرِ وَشَدَّادٌ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ نَزَلَ الشَّامَ وَكُنْيَتُهُ أَبُو يَعْلَى وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَةِ أَبِيهِ وَلَيْسَ لِشَدَّادٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ .

     قَوْلُهُ  سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ قَالَ الطِّيبِيُّ لَمَّا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ جَامِعًا لِمَعَانِي التَّوْبَةِ كُلِّهَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ السَّيِّدِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الرَّئِيسُ الَّذِي يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْأُمُورِ .

     قَوْلُهُ  أَنْ يَقُولَ أَيِ الْعَبْدُ وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ إِنَّ سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ شَدَّادٍ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ تَعَلَّمُوا سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ قَوْله لَا اله الا أَنْت أَنْتَ خَلَقْتَنِي كَذَا فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ بِتَكْرِيرِ أَنْتَ وَسَقَطَتِ الثَّانِيَةُ مِنْ مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَالْبَاقِي نَحْوُ حَدِيثِ شَدَّادٍ وَزَادَ فِيهِ آمَنْتُ لَكَ مُخْلِصًا لَكَ دِينِي .

     قَوْلُهُ  وَأَنَا عَبْدُكَ قَالَ الطِّيبِيُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكَّدَةً وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً أَيْ أَنَا عَابِدٌ لَكَ وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ قَوْلِهِ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ .

     قَوْلُهُ  وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ سَقَطَتِ الْوَاوُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ أَنَا عَلَى مَا عَهِدْتُكَ عَلَيْهِ وَوَاعَدْتُكَ مِنَ الْإِيمَانِ بِكَ وَإِخْلَاصِ الطَّاعَةِ لَكَ مَا اسْتَطَعْتُ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى مَا عَهِدْتَ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِكَ وَمُتَمَسِّكٌ بِهِ وَمُنْتَجِزٌ وَعْدَكَ فِي الْمَثُوبَةِ وَالْأَجْرِ وَاشْتِرَاطُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي ذَلِكَ مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ عَنْ كُنْهِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقِّهِ تَعَالَى.

     وَقَالَ  بن بَطَّالٍ .

     قَوْلُهُ  وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ يُرِيدُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بربكم فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَبِالْوَعْدِ مَا قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ إنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَأَدَّى مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.

قُلْتُ وَقَولُهُ وَأَدَّى مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ الْمِيثَاقَ الْمَأْخُوذَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ خَاصَّةً فَالْوَعْدُ هُوَ إِدْخَالُ مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ قَالَ وَفِي قَوْلِهِ مَا اسْتَطَعْتُ إِعْلَامٌ لِأُمَّتِهِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلَّهِ وَلَا الْوَفَاءِ بِكَمَالِ الطَّاعَاتِ وَالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ فَرَفَقَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وُسْعَهُمْ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَهْدِ وَالْوَعْدِ مَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ كَذَا قَالَ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْوَعْدِ أَوْضَحُ .

     قَوْلُهُ  أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ سَقَطَ لَفْظُ لَكَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَأَبُوءُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْهَمْزِ مَمْدُودٌ مَعْنَاهُ أَعْتَرِفُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ شَدَّادٍ وَأَعْتَرِفُ بِذُنُوبِي وَأَصْلُهُ الْبَوَاءُ وَمَعْنَاهُ اللُّزُومُ وَمِنْهُ بَوَّأَهُ اللَّهُ مَنْزِلًا إِذَا أَسْكَنَهُ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِهِ .

     قَوْلُهُ  وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي أَيْ أَعْتَرِفُ أَيْضًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَحْمِلُهُ بِرَغْمِي لَا أَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنِّي.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْإِنْعَامِ ثُمَّ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ شُكْرِهَا ثُمَّ بَالَغَ فَعَدَّهُ ذَنْبًا مُبَالَغَةً فِي التَّقْصِيرِ وَهَضْمِ النَّفْسِ.

قُلْتُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ .

     قَوْلُهُ  أَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي أَعْتَرِفُ بِوُقُوعِ الذَّنْبِ مُطْلَقًا لِيَصِحَّ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ لَا أَنَّهُ عَدَّ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ ذَنْبًا .

     قَوْلُهُ  فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ غُفِرَ لَهُ وَقَدْ وَقَعَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ الطَّوِيلِ وَفِيهِ الْعَبْدُ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا بِهَا أَيْ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ مُصَدِّقًا بِثَوَابِهَا.

     وَقَالَ  الدَّاوُدِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا من قَوْله ان الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات وَمِثْلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ بُشِّرَ بِالثَّوَابِ ثُمَّ بُشِّرَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ فَثَبَتَ الْأَوَّلُ وَمَا زِيدَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يُبَشِّرُ بِالشَّيْءِ ثُمَّ يُبَشِّرُ بِأَقَلَّ مِنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَوَّلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَاسِخًا وَأَنْ يَكُونَ هَذَا فِيمَنْ قَالَهَا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَغْفِرُ لَهُ بِهِ ذُنُوبَهُ أَوْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ كَذَا حَكَاهُ بن التِّينِ عَنْهُ وَبَعْضُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ .

     قَوْلُهُ  وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ لَا يَقُولُهَا أَحَدُكُمْ حِينَ يُمْسِي فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ أَوْ حِينَ يُصْبِحُ فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ .

     قَوْلُهُ  فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ قَالَ بن أَبِي جَمْرَةَ جَمَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَدِيعِ الْمَعَانِي وَحُسْنِ الْأَلْفَاظِ مَا يَحِقُّ لَهُ أَنَّهُ يُسَمَّى سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ فَفِيهِ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ وَالْإِقْرَارُ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ بِمَا وَعَدَهُ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ مَا جَنَى الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِضَافَةُ النَّعْمَاءِ إِلَى مُوجِدِهَا وَإِضَافَةُ الذَّنْبِ إِلَى نَفْسِهِ وَرَغْبَتُهُ فِي الْمَغْفِرَةِ وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا هُوَ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ فَإِنَّ تَكَالِيفَ الشَّرِيعَةِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْقَدَرُ الَّذِي يُكَنَّى عَنْهُ بِالْحَقِيقَةِ فَلَوِ اتَّفَقَ أَنَّ الْعَبْدَ خَالَفَ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ بِبَيَانِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْعُقُوبَةُ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ أَوِ الْعَفْوُ بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ انْتهى مُلَخصا.

     وَقَالَ  أَيْضًا مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِغْفَارِ صِحَّةُ النِّيَّةِ وَالتَّوَجُّهُ وَالْأَدَبُ فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا حَصَّلَ الشُّرُوطَ وَاسْتَغْفَرَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ الْوَارِدِ وَاسْتَغْفَرَ آخَرُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَارِدِ لَكِنْ أَخَلَّ بِالشُّرُوطِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَكُونُ سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ إِذَا جَمَعَ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَة وَالله اعْلَم