فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} [مريم: 16] "

(بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى {واذْكْرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِهَا} (مَرْيَم: 61) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حَال مَرْيَم، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم ... } (مَرْيَم: 61) .
الْآيَة، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا قد تقدّمت قبل هَذَا الْبابُُ ببابُين، وَمضى الْكَلَام فِيهَا.

نبَذْنَاهُ ألْقَيْنَاهُ اعتَزَلَتْ شَرْقِيَّاً مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ
لفظ: نبذناه، فِي قصَّة يُونُس، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فنبذناه بالعراء وَهُوَ سقيم} (الصافات: 541) .
وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {فنبذناه} قَالَ: ألقيناه، وَلَيْسَ لذكره هَهُنَا مُنَاسبَة، لِأَن الْمَذْكُور فِي قصَّة مَرْيَم، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، لفظ: انتبذت، وَمعنى: انتبذت، غير معنى: فنبذناه، على مَا لَا يخفى، وَأَشَارَ إِلَى معنى: انتبذت، بقوله: (فاعتزلت شرقياً مِمَّا يَلِي الشرق) أَي: اعتزلت وانفردت وتخلت لِلْعِبَادَةِ فِي مَكَان شَرْقي مِمَّا يَلِي شَرْقي بَيت الْمُقَدّس، أَو مَكَان شَرْقي من دارها، وَقد مر هَذَا التَّفْسِير عَن قريب.

فأجاءَهَا أفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ يُقَالُ ألْجَأَهَا اضْطَرَّهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فإجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة} (مَرْيَم: 32) .
وَأَشَارَ بقوله: أفعلت من جِئْت، إِلَى أَن لفظ أجاء، مزِيد: جَاءَ، تَقول: جِئْت إِذا أخْبرت عَن نَفسك، ثمَّ إِذا أردْت أَن تعدى بِهِ إِلَى غَيْرك تَقول: أجأت زيدا، وَهنا كَذَلِك بالتعدية لِأَن الضَّمِير فِي أجاءها يرجع إِلَى مَرْيَم، وفاعل: أجاء، هُوَ قَوْله: الْمَخَاض، أَي: الطلق، إِلَى جذع النَّخْلَة أَي: سَاقهَا وَكَانَت نَخْلَة يابسة فِي الصَّحرَاء لَيْسَ لَهَا رَأس وَلَا ثَمَر وَلَا خضرَة، وقصتها مَشْهُورَة.
قَوْله: (وَيُقَال ألجأها: اضطرها) إِشَارَة إِلَى أَن بَعضهم قَالَ: إِن معنى فأجاءها ألجأها، يَعْنِي: ألجأها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: إِن أجاء، مَنْقُول من: جَاءَ، إلاَّ أَن اسْتِعْمَاله تغير بعد النَّقْل إِلَى معنى الإلجاء.

تَسَاقَطُ تَسْقُطُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنياً} (مَرْيَم: 52) .
وَفسّر: تساقط، بقوله: تسْقط، قَرَأَ حَمْزَة بِفَتْح التَّاء وَتَخْفِيف السِّين، وَقَرَأَ حَفْص عَن عَاصِم بِضَم التَّاء وَكسر الْقَاف، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بتَشْديد السِّين، أَصله: تتساقط، أدغمت التَّاء فِي السِّين.
قَوْله: (رطبا) ، تَمْيِيز جنياً غضاً طرياً.

قَصِيَاً قاصياً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَحَملته فانتبذت بِهِ مَكَانا قصياً} (مَرْيَم: 22) .
وَفسّر قصياً بقوله: قاصياً.
وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: قصياً أَي بَعيدا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أقْصَى وَادي بَيت لحم فِرَارًا من قَومهَا أَن يعيروا وِلَادَتهَا من غير زوج، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَابْن أبي عبلة: قاصياً.
.

     وَقَالَ  الْفراء: القاصي والقصي بِمَعْنى.
قلت: أَصله من القصو وَهُوَ الْبعد، والأقصى الْأَبْعَد.

فَرِياً عَظيمَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فرياً} (مَرْيَم: 72) .
وَفسّر: فريا، بقوله: عَظِيما، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : لقد جِئْت شَيْئا فرياً بديعاً، من فرى الْجلد.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: كل فائق من عجب أَو عمل فَهُوَ فري وَقيل: الفري، من الْوَلَد من الزِّنَا كالشيء المفترى،.

     وَقَالَ  قطرب: الفري الْجلد الْجَدِيد من الأسقية، أَي: جِئْت بِأَمْر عَجِيب أَو أَمر جَدِيد لم تسبقي إِلَيْهِ.

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ نِسْياً لَمْ أكُنْ شَيْئَاً.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ النِّسْيُ الحَقِيرُ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن مَرْيَم: {قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسياً منسياً} (مَرْيَم: 32) .
وَفسّر ابْن عَبَّاس قَوْله: نسياً، بقوله: لم أكن شَيْئا، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: (نسياً منسياً) ، أَي: لم أخلق وَلم أك شَيْئا.
قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: غير ابْن عَبَّاس: النسي، الحقير، وَهُوَ قَول السّديّ، وَقَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ وَأَبُو بكر عَن عَاصِم: نسياً، بِكَسْر النُّون، وَقَرَأَ حَمْزَة وَحَفْص عَن عَاصِم بِفَتْح النُّون وهما لُغَتَانِ،.

     وَقَالَ  أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: الْكسر أَعلَى اللغتين،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَنْبَارِي من كسر النُّون، قَالَ النسي اسْم لما ينسى بِمَنْزِلَة الْبَعْض، اسْم لما يبعض، والنسي، بِالْفَتْح إسم لما ينسى أَيْضا على أَنه مصدر نَاب عَن الإسم، وَقيل: نسياً، لم أذكر فِيمَا بَقِي.

وَقَالَ أَبُو وائِلٍ عَلِمَتْ مَرْيَمَ أنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قالَتْ إنْ كُنْتَ تَقِيَّاً
أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَذكر هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن مَرْيَم: {قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيَّاً} (مَرْيَم: 81) .
وَإِنَّمَا قَالَت مَرْيَم هَذَا حِين رَأَتْ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَعْنِي: إِن كنت تقياً فانته عني.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ فِي زمانها رجل، يُقَال لَهُ: تَقِيّ، وَكَانَ فَاجِرًا، فظنته أَيَّاهُ، وَقيل: كَانَ تَقِيّ رجلا من أمثل النَّاس فِي ذَلِك الزَّمَان، فَقَالَت: إِن كنت فِي الصّلاح مثل التقي، فَإِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك، كَيفَ يكون رجل أَجْنَبِي وَامْرَأَة أَجْنَبِيَّة فِي حجاب وَاحِد؟ قَوْله: (ذُو نهية) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الْهَاء أَي: ذُو عقل وانتهاء عَن فعل الْقَبِيح.

قَالَ وكِيعُ عنْ إسرَائِيلَ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ سَرِيَّاً نَهَرٌ صَغيرٌ بالسُّرْيَانِيَّةِ
وَكِيع هُوَ ابْن الْجراح الرُّؤَاسِي الْكُوفِي، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق يروي عَن جده إِسْحَاق السبيعِي واسْمه عَمْرو، وَهُوَ يروي عَن الْبَراء بن عَازِب: أَن السّري فِي قَوْله تَعَالَى: {فناداها من تحتهَا أَن لَا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سرياً} (مَرْيَم: 42) .
هُوَ: النَّهر الصَّغِير بالسُّرْيَانيَّة، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الثَّوْريّ، والطبري من طَرِيق شُعَيْب كِلَاهُمَا عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء مَوْقُوفا، وَعَن ابْن جريج: هُوَ الْجَدْوَل بالسُّرْيَانيَّة، وَقيل: هُوَ نهر صَغِير.



[ قــ :3279 ... غــ :3436 ]
- حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ عِيسَى وكانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالِ لَهُ جُرَيْجٌ كانَ يُصَلِّي جاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أوْ أُصَلِّي فقالَتْ أللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حتَّى تُرِيَهُ وجوهَ المُومِسَاتِ وكانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأةٌ وكلَّمَتْهُ فَأبى فأتَتْ رَاعِيَاً فأمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فوَلَدَتْ غُلاماً فقالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فأتَوْهُ فكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وأنْزَلُوهُ وسَبُّوهُ فتَوَضَّأ وصلَّى ثُمَّ أتَى الغُلاَمَ فَقَالَ منْ أبُوكَ يَا غُلاَمُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إلاَّ مِنْ طِينٍ وكانَتِ امْرَأةٌ تُرْضِعُ ابْنَاً لَهَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فتَرَكَ ثَدْيَهَا وأقْبَلَ علَى الرَّاكِبِ فَقَالَ أللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أقْبَلَ على ثَدْيِهَا يَمَصُهُ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ كأنِّي أنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمَصُّ إصْبَعَهُ ثُمَّ مرَّ بأمَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هذِهِ فتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فقالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبابُُِرَةِ وهذِهِ الأمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ ولَمْ تَفْعَلْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُوجد من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة فِي قَضِيَّة مِيم وفيهَا التَّعَرُّض لميلاد عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه كَانَ يكلم النَّاس وَهُوَ فِي المهد صبي، وَالصَّبِيّ رَضِيع، وَالصَّبِيّ الَّذِي فِي قَضِيَّة جريج كَذَلِك، وَكَذَلِكَ كَانَ صبي الْمَرْأَة الْحرَّة، وَصبي الْأمة، وَصدر الحَدِيث الَّذِي يشْتَمل على قَضِيَّة جريج قد مر فِي الْمَظَالِم فِي: بابُُ إِذا هدم حَائِطا فليبن مثله، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَمر أَيْضا فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ إِذا دعت الْأُم وَلَدهَا فِي الصَّلَاة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنشرح الَّذِي مَا شرح، ونكرر مَا شرح أَيْضا فِي بعض الْمَوَاضِع لطول الْعَهْد بِهِ.

قَوْله: (لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ ثَلَاثَة) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الْحصْر نظر.
قلت: لَيْسَ من الْأَدَب أَن يُقَال: فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نظر، بل الَّذِي يُقَال فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر الثَّلَاثَة قبل أَن يعلم بِالزَّائِدِ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَعْنى لم يتَكَلَّم إلاَّ ثَلَاثَة على مَا أُوحِي إِلَيْهِ، وإلاَّ فقد تكلم من الْأَطْفَال سَبْعَة.
مِنْهُم: شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم وَابْن حبَان من حَدِيث ابْن عَبَّاس: لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ أَرْبَعَة، فَذكر مِنْهَا شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع الَّذِي قَالَ لأمه، وَهِي ماشطة بنت فِرْعَوْن، لما أَرَادَ فِرْعَوْن إِلْقَاء أمه فِي النَّار: إصبري يَا أُمَّاهُ فَأَنا على الْحق.
أخرج الْحَاكِم نَحوه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع فِي قصَّة أَصْحَاب الْأُخْدُود: أَن امْرَأَة جِيءَ بهَا لتُلقى فِي النَّار، فَتَقَاعَسَتْ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ إصبري فَإنَّك على الْحق.
وَمِنْهُم: يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرج الثَّعْلَبِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن الضَّحَّاك أَن يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكلم فِي المهد.
قَوْله: (جَاءَتْهُ أمه) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، فَجَاءَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي رَافع: كَانَ جريج يتعبد فِي صومعته فَأَتَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: روى الحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن مَعَ أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: كَانَت أمه تَأتيه فتناديه فيشرف عَلَيْهَا فيكلمها، فَأَتَتْهُ يَوْمًا وَهُوَ فِي صلَاته، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من حَدِيث أبي رَافع: فَأَتَتْهُ أمه ذَات يَوْم فنادته، فَقَالَت: أَي جريج أشرف عَليّ أُكَلِّمك أَنا أمك.
.
قَوْله: (أجيبها أَو أُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع، فصادفته يُصَلِّي فَوضعت يَدهَا على حاجبها فَقَالَ: يَا جريج.
فَقَالَ: يَا رب أُمِّي وصلاتي فَاخْتَارَ صلَاته، وَرجعت ثمَّ أَتَتْهُ فصادفته يُصَلِّي، فَقَالَت: يَا جريج أَنا أمك فكلمني.
وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنَّهَا جَاءَتْهُ ثَلَاث مَرَّات تناديه فِي كل مرّة ثَلَاث مَرَّات، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَقَالَ: أُمِّي وصلاتي؟ لرَبي أوثر صَلَاتي على أُمِّي؟ فَإِن قلت: الْكَلَام فِي الصَّلَاة مُبْطل فَكيف هَذَا؟ قلت: كَانَ الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة فِي شرعهم، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي صدر الْإِسْلَام، وَقيل: إِنَّه مَحْمُول على أَنه قَالَه فِي نَفسه، لَا أَنه نطق بِهِ.
قَوْله: (حَتَّى تريه وُجُوه المومسات) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: حَتَّى تنظر فِي وُجُوه المياميس، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: حَتَّى تريه المومسة، بِالْإِفْرَادِ، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَغضِبت فَقَالَت: أللهم لَا يموتن جريج حَتَّى ينظر فِي وُجُوه المومسات، وَهِي جمع مومسة وَهِي الزَّانِيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَقَالَت: أَبيت أَن تطلع عَليّ وَجهك؟ لَا أماتك الله حَتَّى تنظر فِي وَجهك زواني الْمَدِينَة، فتعرضت لَهُ امْرَأَة فكلمته فَأبى، فَأَتَت رَاعيا فأمكنته من نَفسهَا.
وَفِي رِوَايَة وهب بن جريج بن حَازِم عَن أَبِيه: فَذكر بَنو إِسْرَائِيل عبَادَة جريج، فَقَالَت بغي مِنْهُم: إِن شِئْتُم لأفتننه، قَالُوا: قد شِئْنَا، فَأَتَتْهُ فتعرضت لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا، فأمكنت نَفسهَا من رَاع كَانَ يؤوي غنمه إِلَى أصل صومعة جريج، وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: أَنَّهَا كَانَت بنت ملك الْقرْيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: وَكَانَت تأوي إِلَى صومعته راعية ترعى الْغنم، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: وَكَانَ عِنْد صومعته راعي ضَأْن وراعية معزى فَولدت غُلَاما، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَحملت حَتَّى انْقَضتْ أَيَّامهَا فَولدت.
قَوْله: (من جريج) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِير: فَسُئِلت مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: من جريج، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: هُوَ من صَاحب الدَّيْر، وَزَاد فِي رِوَايَة أَحْمد: فَأخذت وَكَانَ من زنا مِنْهُم قتل، فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ قَالَت: هُوَ من صَاحب الصومعة.
وَزَاد الْأَعْرَج: نزل إِلَيّ فَأَصَابَنِي، وَزَاد أَبُو سَلمَة لي فِي رِوَايَته: فَذَهَبُوا إِلَى الْملك فأخبروه فَقَالَ أدركوه فائتوني بِهِ قَوْله وكسروا صومعته) .
وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَأَقْبَلُوا بفؤسهم ومساحيهم إِلَى الدَّيْر فَنَادَوْهُ فَلم يكلمهم، فَأَقْبَلُوا يهدمون ديره، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَمَا شعر حَتَّى سمع بالفؤوس فِي أصل صومعته، فَجعل يسألهم: وَيْلكُمْ مَا لكم؟ فَلم يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا رأى ذَلِك أَخذ الْحَبل فَتَدَلَّى.
قَوْله: (فسبوه) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: وضربوه، فَقَالَ: مَا شَأْنكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّك زَنَيْت بِهَذِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع عَنهُ: فَقَالُوا: أَي جريج إنزل فَأبى وَأخذ يقبل على صلَاته، فَأخذُوا فِي هدم صومعته، فَلَمَّا رأى ذَلِك نزل، فَجعلُوا فِي عُنُقه وعنقها حبلاً فَجعلُوا يطوفون بهما فِي النَّاس، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَقَالَ لَهُ الْملك: وَيحك يَا جريج! كُنَّا نرَاك خير النَّاس فأحبلت هَذِه؟ اذْهَبُوا بِهِ فاصلبوه.
وَفِي حَدِيث عمرَان: فَجعلُوا يضربونه وَيَقُولُونَ: مراءٍ تخادع النَّاس بعملك؟ وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا مروا بِهِ نَحْو بَيت الزواني خرجن ينظرن، فَتَبَسَّمَ، فَقَالُوا: لم يضْحك حَتَّى مر بالزواني.
قَوْله: (وَتَوَضَّأ وَصلى) ، وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: فَقَامَ وَصلى ودعا، وَفِي حَدِيث عمرَان: قَالَ: فتولوا عني، فتولوا عَنهُ، فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَتَى الْغُلَام، أَي: ثمَّ أَتَى جريج الْغُلَام، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك يَا غُلَام؟ قَالَ أَنا ابْن الرَّاعِي، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: ثمَّ مسح رَأس الصَّبِي، فَقَالَ: من أَبوك؟ قَالَ: راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة عِنْد أَحْمد: فَوضع إصبعه على بَطنهَا، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَأتى بِالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ وفمه فِي ثديها، فَقَالَ لَهُ جريج: يَا غُلَام من أَبوك؟ فَنزع الْغُلَام فَاه من الثدي،.

     وَقَالَ : أبي راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا أَدخل على ملكهم قَالَ جريج أَيْن الصَّبِي الَّذِي وَلدته؟ فَأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك؟ قَالَ: فلَان، وسمى أَبَاهُ، وَقد مضى فِي أَوَاخِر الصَّلَاة بِلَفْظ: قَالَ: يابابُوس ... ومرَّ شَرحه هُنَاكَ.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: هَذَا اسْم الْغُلَام، وَفِي حَدِيث عمرَان: ثمَّ انْتهى إِلَى شَجَرَة فَأخذ مِنْهَا غصناً، ثمَّ أَتَى الْغُلَام وَهُوَ فِي مهده، فَضَربهُ بذلك الْغُصْن، فَقَالَ: من أَبوك؟ فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: لَا مَانع من وُقُوع الْكل، فَكل روى بِمَا سمع وَمَا قيل بِتَعَدُّد الْقِصَّة فبعيد.
قَوْله: (نَبْنِي صومعتك من ذهب، قَالَ: لَا إلاَّ من طين) .
وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: (إبنوها من طين كَمَا كَانَت) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: (نَبْنِي مَا هدمناه من ديرك بِالذَّهَب وَالْفِضَّة قَالَ: لَا، وَلَكِن أعيدوه كَمَا كَانَ، فَفَعَلُوا) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ إِيثَار إِجَابَة الْأُم على صَلَاة التَّطَوُّع، لِأَن إِجَابَة الْأُم وَاجِبَة فَلَا تتْرك لأجل النَّافِلَة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث يزِيد بن حَوْشَب عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَو كَانَ جريج فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه أولى من عبَادَة ربه) ، أخرجه الْحسن بن سُفْيَان.
قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ: حَوْشَب بن يزِيد الفِهري مَجْهُول، روى عَنهُ ابْنه يزِيد فِي ذكر جريج الراهب، وَتمسك بعض الشَّافِعِيَّة بِظَاهِر الحَدِيث فِي جَوَاز قطع الصَّلَاة لإجابة الْأُم سَوَاء كَانَت فرضا أَو نفلا، وَالأَصَح عِنْدهم: أَنه على التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة إِن كَانَت نفلا وَعلم تأذي الْوَالِد أَو الوالدة وَجَبت الْإِجَابَة، وَإِن كَانَت فرضا وضاق الْوَقْت لم تجب الْإِجَابَة، وَإِن لم يضق وَجَبت عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَخَالفهُ غَيره لِأَنَّهَا تلْزم بِالشُّرُوعِ، وَعند الْمَالِكِيَّة: إِن إِجَابَة الْوَالِد فِي النَّافِلَة أفضل من التَّمَادِي فِيهَا، وَحكى القَاضِي أَبُو الْوَلِيد: أَن ذَلِك يخْتَص بِالْأُمِّ دون الْأَب، وَبِه قَالَ مَكْحُول، وَقيل: لم يقل بِهِ من السّلف غَيره.
وَفِيه: قُوَّة يَقِين جريج وَصِحَّة رجائه لِأَنَّهُ استنطق الْمَوْلُود مَعَ كَون الْعَادة أَنه لَا ينْطق، وَلَوْلَا صِحَة رجائه بنطقه لما استنطقه،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون جريج كَانَ نَبيا فَتكون معْجزَة.
وَفِيه: عظم بر الْوَالِدين وَإجَابَة دعائهما، وَلَو كَانَ الْوَلَد مَعْذُورًا لَكِن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك بِحَسب الْمَقَاصِد وَفِيه صَاحب الصدْق مَعَ الله تَعَالَى لَا تضره الْفِتَن وَفِيه اثبات الْكَرَامَة للأولياء وَوُقُوع الْكَرَامَة لَهُم بإختيارهم وطلبهم.
وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بالأشد فِي الْعِبَادَة لمن يعلم من نَفسه قُوَّة على ذَلِك.
وَفِيه: أَن الْوضُوء لَا يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة، خلافًا لمن زعم ذَلِك، وَإِنَّمَا الَّذِي يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة الْغرَّة والتحجيل فِي الْآخِرَة.
وَفِيه: أَن مرتكب الْفَاحِشَة لَا تبقى لَهُ حُرْمَة.
وَفِيه: أَن الْفَزع فِي الْأُمُور المهمة إِلَى الله تَعَالَى يكون بالتوجه إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على أَن من شرع بني إِسْرَائِيل أَن الْمَرْأَة تصدق فِيمَا تدعيه على الرِّجَال من الْوَطْء، وَيلْحق بِهِ الْوَلَد، وَأَنه لَا ينفع الرجل جحد ذَلِك إلاَّ بِحجَّة تدفع قَوْلهَا.

قَوْله: (وَكَانَت امْرَأَة) إِلَى آخِره، قَضِيَّة أُخْرَى تشبه قَضِيَّة جريج (وَامْرَأَة) بِالرَّفْع فَاعل: كَانَت، وَهِي تَامَّة.
قَوْله: (فَمر بهَا رجل) ويروى: إِذْ مر بهَا رَاكب جمل، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من خلاس عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَارس متكبر.
قَوْله: (ذُو شارة) ، بالشين الْمُعْجَمَة وبالراء المخففة أَي: ذُو حسن وجمال، وَقيل: صَاحب هَيْئَة وملبس حسن يتعجب مِنْهُ ويشار إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة خلاس: (ذُو شارة حَسَنَة) .
قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَفِيه الْمُبَالغَة فِي إِيضَاح الْخَبَر بتمثيله بِالْفِعْلِ.
قَوْله: (ثمَّ مر بِأمة) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: (بِأمة تضرب) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة الْآتِيَة فِي ذكر بني إِسْرَائِيل: (تجرر ويلعب بهَا) ، وتجرر بجيم مَفْتُوحَة بعْدهَا رَاء مُشَدّدَة ثمَّ رَاء أُخْرَى، وَفِي رِوَايَة خلاس: (أَنَّهَا كَانَت حبشية أَو زنجية وَأَنَّهَا مَاتَت، فجروها حَتَّى ألقوها) .
قَوْله: (فَقَالَت: لِمَ ذلِك؟) أَي: قَالَت الْأُم لابنها: لم قلت هَكَذَا؟ حَاصله أَنَّهَا سَأَلت مِنْهُ عَن سَبَب ذَلِك.
قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: الإبن: (الرَّاكِب جَبَّار) وَفِي رِوَايَة أَحْمد، فَقَالَ: يَا أمتاه {أما الرَّاكِب ذُو الشارة فجبار من الْجَبابُُِرَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَإِنَّهُ كَانَ جباراً، قَوْله: (سرقتِ زنيتِ) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا بِكَسْر التَّاء لخطاب الْمُؤَنَّث، وَالْآخر بسكونها على الْخَبَر، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (يَقُولُونَ سرقت وَلم تسرق، وزنيت وَلم تزنِ، وَهِي تَقول: حسبي الله) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (يَقُولُونَ لَهَا: تَزني؟ وَتقول: حسبي الله، وَيَقُولُونَ لَهَا: تسرقي؟ وَتقول: حسبي الله) .
قَوْله: (وَلم تفعل) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنَّهَا لم تسرق وَلم تزنِ.





[ قــ :379 ... غــ :3436 ]
- حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ عِيسَى وكانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالِ لَهُ جُرَيْجٌ كانَ يُصَلِّي جاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أوْ أُصَلِّي فقالَتْ أللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حتَّى تُرِيَهُ وجوهَ المُومِسَاتِ وكانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأةٌ وكلَّمَتْهُ فَأبى فأتَتْ رَاعِيَاً فأمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فوَلَدَتْ غُلاماً فقالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فأتَوْهُ فكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وأنْزَلُوهُ وسَبُّوهُ فتَوَضَّأ وصلَّى ثُمَّ أتَى الغُلاَمَ فَقَالَ منْ أبُوكَ يَا غُلاَمُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إلاَّ مِنْ طِينٍ وكانَتِ امْرَأةٌ تُرْضِعُ ابْنَاً لَهَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فتَرَكَ ثَدْيَهَا وأقْبَلَ علَى الرَّاكِبِ فَقَالَ أللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أقْبَلَ على ثَدْيِهَا يَمَصُهُ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ كأنِّي أنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمَصُّ إصْبَعَهُ ثُمَّ مرَّ بأمَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هذِهِ فتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فقالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبابُُِرَةِ وهذِهِ الأمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ ولَمْ تَفْعَلْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُوجد من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة فِي قَضِيَّة مِيم وفيهَا التَّعَرُّض لميلاد عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه كَانَ يكلم النَّاس وَهُوَ فِي المهد صبي، وَالصَّبِيّ رَضِيع، وَالصَّبِيّ الَّذِي فِي قَضِيَّة جريج كَذَلِك، وَكَذَلِكَ كَانَ صبي الْمَرْأَة الْحرَّة، وَصبي الْأمة، وَصدر الحَدِيث الَّذِي يشْتَمل على قَضِيَّة جريج قد مر فِي الْمَظَالِم فِي: بابُُ إِذا هدم حَائِطا فليبن مثله، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَمر أَيْضا فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ إِذا دعت الْأُم وَلَدهَا فِي الصَّلَاة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنشرح الَّذِي مَا شرح، ونكرر مَا شرح أَيْضا فِي بعض الْمَوَاضِع لطول الْعَهْد بِهِ.

قَوْله: (لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ ثَلَاثَة) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الْحصْر نظر.
قلت: لَيْسَ من الْأَدَب أَن يُقَال: فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نظر، بل الَّذِي يُقَال فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر الثَّلَاثَة قبل أَن يعلم بِالزَّائِدِ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَعْنى لم يتَكَلَّم إلاَّ ثَلَاثَة على مَا أُوحِي إِلَيْهِ، وإلاَّ فقد تكلم من الْأَطْفَال سَبْعَة.
مِنْهُم: شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم وَابْن حبَان من حَدِيث ابْن عَبَّاس: لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ أَرْبَعَة، فَذكر مِنْهَا شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع الَّذِي قَالَ لأمه، وَهِي ماشطة بنت فِرْعَوْن، لما أَرَادَ فِرْعَوْن إِلْقَاء أمه فِي النَّار: إصبري يَا أُمَّاهُ فَأَنا على الْحق.
أخرج الْحَاكِم نَحوه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع فِي قصَّة أَصْحَاب الْأُخْدُود: أَن امْرَأَة جِيءَ بهَا لتُلقى فِي النَّار، فَتَقَاعَسَتْ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ إصبري فَإنَّك على الْحق.
وَمِنْهُم: يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرج الثَّعْلَبِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن الضَّحَّاك أَن يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكلم فِي المهد.
قَوْله: (جَاءَتْهُ أمه) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، فَجَاءَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي رَافع: كَانَ جريج يتعبد فِي صومعته فَأَتَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: روى الحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن مَعَ أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: كَانَت أمه تَأتيه فتناديه فيشرف عَلَيْهَا فيكلمها، فَأَتَتْهُ يَوْمًا وَهُوَ فِي صلَاته، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من حَدِيث أبي رَافع: فَأَتَتْهُ أمه ذَات يَوْم فنادته، فَقَالَت: أَي جريج أشرف عَليّ أُكَلِّمك أَنا أمك.
.
قَوْله: (أجيبها أَو أُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع، فصادفته يُصَلِّي فَوضعت يَدهَا على حاجبها فَقَالَ: يَا جريج.
فَقَالَ: يَا رب أُمِّي وصلاتي فَاخْتَارَ صلَاته، وَرجعت ثمَّ أَتَتْهُ فصادفته يُصَلِّي، فَقَالَت: يَا جريج أَنا أمك فكلمني.
وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنَّهَا جَاءَتْهُ ثَلَاث مَرَّات تناديه فِي كل مرّة ثَلَاث مَرَّات، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَقَالَ: أُمِّي وصلاتي؟ لرَبي أوثر صَلَاتي على أُمِّي؟ فَإِن قلت: الْكَلَام فِي الصَّلَاة مُبْطل فَكيف هَذَا؟ قلت: كَانَ الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة فِي شرعهم، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي صدر الْإِسْلَام، وَقيل: إِنَّه مَحْمُول على أَنه قَالَه فِي نَفسه، لَا أَنه نطق بِهِ.
قَوْله: (حَتَّى تريه وُجُوه المومسات) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: حَتَّى تنظر فِي وُجُوه المياميس، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: حَتَّى تريه المومسة، بِالْإِفْرَادِ، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَغضِبت فَقَالَت: أللهم لَا يموتن جريج حَتَّى ينظر فِي وُجُوه المومسات، وَهِي جمع مومسة وَهِي الزَّانِيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَقَالَت: أَبيت أَن تطلع عَليّ وَجهك؟ لَا أماتك الله حَتَّى تنظر فِي وَجهك زواني الْمَدِينَة، فتعرضت لَهُ امْرَأَة فكلمته فَأبى، فَأَتَت رَاعيا فأمكنته من نَفسهَا.
وَفِي رِوَايَة وهب بن جريج بن حَازِم عَن أَبِيه: فَذكر بَنو إِسْرَائِيل عبَادَة جريج، فَقَالَت بغي مِنْهُم: إِن شِئْتُم لأفتننه، قَالُوا: قد شِئْنَا، فَأَتَتْهُ فتعرضت لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا، فأمكنت نَفسهَا من رَاع كَانَ يؤوي غنمه إِلَى أصل صومعة جريج، وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: أَنَّهَا كَانَت بنت ملك الْقرْيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: وَكَانَت تأوي إِلَى صومعته راعية ترعى الْغنم، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: وَكَانَ عِنْد صومعته راعي ضَأْن وراعية معزى فَولدت غُلَاما، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَحملت حَتَّى انْقَضتْ أَيَّامهَا فَولدت.
قَوْله: (من جريج) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِير: فَسُئِلت مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: من جريج، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: هُوَ من صَاحب الدَّيْر، وَزَاد فِي رِوَايَة أَحْمد: فَأخذت وَكَانَ من زنا مِنْهُم قتل، فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ قَالَت: هُوَ من صَاحب الصومعة.
وَزَاد الْأَعْرَج: نزل إِلَيّ فَأَصَابَنِي، وَزَاد أَبُو سَلمَة لي فِي رِوَايَته: فَذَهَبُوا إِلَى الْملك فأخبروه فَقَالَ أدركوه فائتوني بِهِ قَوْله وكسروا صومعته) .
وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَأَقْبَلُوا بفؤسهم ومساحيهم إِلَى الدَّيْر فَنَادَوْهُ فَلم يكلمهم، فَأَقْبَلُوا يهدمون ديره، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَمَا شعر حَتَّى سمع بالفؤوس فِي أصل صومعته، فَجعل يسألهم: وَيْلكُمْ مَا لكم؟ فَلم يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا رأى ذَلِك أَخذ الْحَبل فَتَدَلَّى.
قَوْله: (فسبوه) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: وضربوه، فَقَالَ: مَا شَأْنكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّك زَنَيْت بِهَذِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع عَنهُ: فَقَالُوا: أَي جريج إنزل فَأبى وَأخذ يقبل على صلَاته، فَأخذُوا فِي هدم صومعته، فَلَمَّا رأى ذَلِك نزل، فَجعلُوا فِي عُنُقه وعنقها حبلاً فَجعلُوا يطوفون بهما فِي النَّاس، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَقَالَ لَهُ الْملك: وَيحك يَا جريج} كُنَّا نرَاك خير النَّاس فأحبلت هَذِه؟ اذْهَبُوا بِهِ فاصلبوه.
وَفِي حَدِيث عمرَان: فَجعلُوا يضربونه وَيَقُولُونَ: مراءٍ تخادع النَّاس بعملك؟ وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا مروا بِهِ نَحْو بَيت الزواني خرجن ينظرن، فَتَبَسَّمَ، فَقَالُوا: لم يضْحك حَتَّى مر بالزواني.
قَوْله: (وَتَوَضَّأ وَصلى) ، وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: فَقَامَ وَصلى ودعا، وَفِي حَدِيث عمرَان: قَالَ: فتولوا عني، فتولوا عَنهُ، فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَتَى الْغُلَام، أَي: ثمَّ أَتَى جريج الْغُلَام، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك يَا غُلَام؟ قَالَ أَنا ابْن الرَّاعِي، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: ثمَّ مسح رَأس الصَّبِي، فَقَالَ: من أَبوك؟ قَالَ: راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة عِنْد أَحْمد: فَوضع إصبعه على بَطنهَا، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَأتى بِالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ وفمه فِي ثديها، فَقَالَ لَهُ جريج: يَا غُلَام من أَبوك؟ فَنزع الْغُلَام فَاه من الثدي،.

     وَقَالَ : أبي راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا أَدخل على ملكهم قَالَ جريج أَيْن الصَّبِي الَّذِي وَلدته؟ فَأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك؟ قَالَ: فلَان، وسمى أَبَاهُ، وَقد مضى فِي أَوَاخِر الصَّلَاة بِلَفْظ: قَالَ: يابابُوس ... ومرَّ شَرحه هُنَاكَ.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: هَذَا اسْم الْغُلَام، وَفِي حَدِيث عمرَان: ثمَّ انْتهى إِلَى شَجَرَة فَأخذ مِنْهَا غصناً، ثمَّ أَتَى الْغُلَام وَهُوَ فِي مهده، فَضَربهُ بذلك الْغُصْن، فَقَالَ: من أَبوك؟ فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: لَا مَانع من وُقُوع الْكل، فَكل روى بِمَا سمع وَمَا قيل بِتَعَدُّد الْقِصَّة فبعيد.
قَوْله: (نَبْنِي صومعتك من ذهب، قَالَ: لَا إلاَّ من طين) .
وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: (إبنوها من طين كَمَا كَانَت) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: (نَبْنِي مَا هدمناه من ديرك بِالذَّهَب وَالْفِضَّة قَالَ: لَا، وَلَكِن أعيدوه كَمَا كَانَ، فَفَعَلُوا) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ إِيثَار إِجَابَة الْأُم على صَلَاة التَّطَوُّع، لِأَن إِجَابَة الْأُم وَاجِبَة فَلَا تتْرك لأجل النَّافِلَة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث يزِيد بن حَوْشَب عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَو كَانَ جريج فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه أولى من عبَادَة ربه) ، أخرجه الْحسن بن سُفْيَان.
قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ: حَوْشَب بن يزِيد الفِهري مَجْهُول، روى عَنهُ ابْنه يزِيد فِي ذكر جريج الراهب، وَتمسك بعض الشَّافِعِيَّة بِظَاهِر الحَدِيث فِي جَوَاز قطع الصَّلَاة لإجابة الْأُم سَوَاء كَانَت فرضا أَو نفلا، وَالأَصَح عِنْدهم: أَنه على التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة إِن كَانَت نفلا وَعلم تأذي الْوَالِد أَو الوالدة وَجَبت الْإِجَابَة، وَإِن كَانَت فرضا وضاق الْوَقْت لم تجب الْإِجَابَة، وَإِن لم يضق وَجَبت عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَخَالفهُ غَيره لِأَنَّهَا تلْزم بِالشُّرُوعِ، وَعند الْمَالِكِيَّة: إِن إِجَابَة الْوَالِد فِي النَّافِلَة أفضل من التَّمَادِي فِيهَا، وَحكى القَاضِي أَبُو الْوَلِيد: أَن ذَلِك يخْتَص بِالْأُمِّ دون الْأَب، وَبِه قَالَ مَكْحُول، وَقيل: لم يقل بِهِ من السّلف غَيره.
وَفِيه: قُوَّة يَقِين جريج وَصِحَّة رجائه لِأَنَّهُ استنطق الْمَوْلُود مَعَ كَون الْعَادة أَنه لَا ينْطق، وَلَوْلَا صِحَة رجائه بنطقه لما استنطقه،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون جريج كَانَ نَبيا فَتكون معْجزَة.
وَفِيه: عظم بر الْوَالِدين وَإجَابَة دعائهما، وَلَو كَانَ الْوَلَد مَعْذُورًا لَكِن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك بِحَسب الْمَقَاصِد وَفِيه صَاحب الصدْق مَعَ الله تَعَالَى لَا تضره الْفِتَن وَفِيه اثبات الْكَرَامَة للأولياء وَوُقُوع الْكَرَامَة لَهُم بإختيارهم وطلبهم.
وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بالأشد فِي الْعِبَادَة لمن يعلم من نَفسه قُوَّة على ذَلِك.
وَفِيه: أَن الْوضُوء لَا يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة، خلافًا لمن زعم ذَلِك، وَإِنَّمَا الَّذِي يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة الْغرَّة والتحجيل فِي الْآخِرَة.
وَفِيه: أَن مرتكب الْفَاحِشَة لَا تبقى لَهُ حُرْمَة.
وَفِيه: أَن الْفَزع فِي الْأُمُور المهمة إِلَى الله تَعَالَى يكون بالتوجه إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على أَن من شرع بني إِسْرَائِيل أَن الْمَرْأَة تصدق فِيمَا تدعيه على الرِّجَال من الْوَطْء، وَيلْحق بِهِ الْوَلَد، وَأَنه لَا ينفع الرجل جحد ذَلِك إلاَّ بِحجَّة تدفع قَوْلهَا.

قَوْله: (وَكَانَت امْرَأَة) إِلَى آخِره، قَضِيَّة أُخْرَى تشبه قَضِيَّة جريج (وَامْرَأَة) بِالرَّفْع فَاعل: كَانَت، وَهِي تَامَّة.
قَوْله: (فَمر بهَا رجل) ويروى: إِذْ مر بهَا رَاكب جمل، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من خلاس عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَارس متكبر.
قَوْله: (ذُو شارة) ، بالشين الْمُعْجَمَة وبالراء المخففة أَي: ذُو حسن وجمال، وَقيل: صَاحب هَيْئَة وملبس حسن يتعجب مِنْهُ ويشار إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة خلاس: (ذُو شارة حَسَنَة) .
قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَفِيه الْمُبَالغَة فِي إِيضَاح الْخَبَر بتمثيله بِالْفِعْلِ.
قَوْله: (ثمَّ مر بِأمة) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: (بِأمة تضرب) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة الْآتِيَة فِي ذكر بني إِسْرَائِيل: (تجرر ويلعب بهَا) ، وتجرر بجيم مَفْتُوحَة بعْدهَا رَاء مُشَدّدَة ثمَّ رَاء أُخْرَى، وَفِي رِوَايَة خلاس: (أَنَّهَا كَانَت حبشية أَو زنجية وَأَنَّهَا مَاتَت، فجروها حَتَّى ألقوها) .
قَوْله: (فَقَالَت: لِمَ ذلِك؟) أَي: قَالَت الْأُم لابنها: لم قلت هَكَذَا؟ حَاصله أَنَّهَا سَأَلت مِنْهُ عَن سَبَب ذَلِك.
قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: الإبن: (الرَّاكِب جَبَّار) وَفِي رِوَايَة أَحْمد، فَقَالَ: يَا أمتاه! أما الرَّاكِب ذُو الشارة فجبار من الْجَبابُُِرَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَإِنَّهُ كَانَ جباراً، قَوْله: (سرقتِ زنيتِ) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا بِكَسْر التَّاء لخطاب الْمُؤَنَّث، وَالْآخر بسكونها على الْخَبَر، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (يَقُولُونَ سرقت وَلم تسرق، وزنيت وَلم تزنِ، وَهِي تَقول: حسبي الله) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (يَقُولُونَ لَهَا: تَزني؟ وَتقول: حسبي الله، وَيَقُولُونَ لَهَا: تسرقي؟ وَتقول: حسبي الله) .
قَوْله: (وَلم تفعل) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنَّهَا لم تسرق وَلم تزنِ.





[ قــ :380 ... غــ :3437 ]
- حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبَرَنَا هِشامٌ عنْ مَعْمَرٍ.
حدَّثني مَحْمودٌ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاق أخبرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرني سَعيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنعَتَهُ فإذَا رَجُل حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأسِ كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ قَالَ ولَقِيتُ عِيسَى فنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رَبْعَةٌ أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِن دِيماسٍ يَعْنِي الحَمَّامَ ورَأيْتُ إبْرَاهِيمَ وأنَا أشْبَهُ ولَدِهِ بِهِ قالَ وأُتِيتُ بإنَاءَيْنِ أحَدُهُمَا لَبَنٌ والآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِي خُذْ أيُّهُمَا شِئْتَ فأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ لِي هُدِيتَ الفِطْرَةَ أوْ أصَبْتَ الفِطْرَةَ أمَّا إنَّكَ لَوْ أخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهَا التَّعَرُّض لعيسى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهنا صرح بِذكر عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بابُُ قَول الله تَعَالَى: { وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} ( طه: 9، النازعات: 51) .
فَإِنَّهُ إخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أَيْضا.
وَأخرجه هَهُنَا من طَرِيقين.
أَحدهمَا: عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن هِشَام بن يُوسُف عَن معمر.
وَالْآخر: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره.

قَوْله: ( فنعته) ، أَي: وَصفه.
قَوْله: ( حسبته) الْقَائِل حسبته هُوَ عبد الرَّزَّاق.
قَوْله: ( مُضْطَرب) ، أَي: طَوِيل غير الشَّديد، وَقيل: الْخَفِيف اللَّحْم، وَقد تقدم فِي رِوَايَة هِشَام بِلَفْظ: ضرب، وَفسّر بالخفيف وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: هَذَا الْوَصْف مُغَاير لقَوْله بعد هَذَا: إِنَّه جسيم، قَالَ: وَالَّذِي وَقع نَعته بِأَنَّهُ جسيم إِنَّمَا هُوَ الدَّجَّال،.

     وَقَالَ  عِيَاض: رِوَايَة من قَالَ: ضرب، أصح من رِوَايَة من قَالَ: مُضْطَرب، لما فِيهَا من الشَّك، قَالَ: وَقد وَقع فِي رِوَايَة أُخْرَى على مَا يَأْتِي الْآن: جسيم، وَهُوَ ضد الضَّرْب إلاَّ أَن يُرَاد بالجسيم الزِّيَادَة فِي الطول،.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: لَعَلَّ بعض لفظ هَذَا الحَدِيث دخل فِي بعض لِأَن الجسيم ورد فِي صفة الدَّجَّال لَا فِي صفة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: ( ربعَة) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيجوز فتحهَا، وَهُوَ المربوع وَالْمرَاد أَنه وسط لَا طَوِيل وَلَا قصير.





[ قــ :381 ... غــ :3438 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثيرٍ أخْبرَنا إسْرَائِيلُ أخبَرَنا عُثْمَانُ بنُ الْمُغِيرَةِ عنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ الْنَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأيْتُ عِيساى ومُوسَى وإبْرَاهِيمَ فأمَّا عِيسَى فأحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ وأمَّا مُوسَى فآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كأنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ذكر لفظ عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس ابْن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَعُثْمَان هُوَ ابْن الْمُغيرَة الثَّقَفِيّ الْكُوفِي الْأَعْشَى، وَيُقَال لَهُ: عُثْمَان بن أبي زرْعَة، وَأَبُو زرْعَة هُوَ كنية الْمُغيرَة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ من صغَار التَّابِعين، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَهُوَ يروي عَن مُجَاهِد عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،.

     وَقَالَ  أَبُو مَسْعُود الْحَافِظ: أَخطَأ البُخَارِيّ فِي قَوْله: مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَإِنَّمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن كثير وَإِسْحَاق فَإِنَّهُ قَالَ هَكَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات المسموعة عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ وَلَا ادري إِلَى آخر مَا قَالَه التَّيْمِيّ ثمَّ قَالَ ابو ذَر ابْن مَنْصُور السَّلُولي وَابْن أبي زَائِدَة وَيحيى بن آدم وَغَيرهم عَن إِسْرَائِيل عَن عُثْمَان عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس،.

     وَقَالَ  الغساني: أَخطَأ البُخَارِيّ فِيمَا قَالَ: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَالصَّوَاب: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس،.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: قَالَ بَعضهم: لَا أَدْرِي أهكذا حدث بِهِ البُخَارِيّ أَو غلط فِيهِ الْفربرِي، لِأَن الْمَحْفُوظ رِوَايَة ابْن كثير عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس.
قلت: أَرَادَ التَّيْمِيّ من قَوْله: قَالَ بَعضهم، أَبَا ذَر: لِأَنِّي رَأَيْت فِي جَمِيع الطّرق عَن مُحَمَّد بن كثير وَغَيره عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَالَّذِي يظْهر من كَلَامهم أَن الصَّوَاب: مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَكَذَا قَالَ ابْن مَنْدَه بعد أَن أخرج الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالصَّوَاب: عَن ابْن عَبَّاس،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيَقَع فِي خاطري أَن الْوَهم فِيهِ من غير البُخَارِيّ فَإِن الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرجه من طَرِيق نصر بن عَليّ عَن أبي أَحْمد،.

     وَقَالَ  فِيهِ: عَن ابْن عَبَّاس وَلم يُنَبه على أَن البُخَارِيّ قَالَ فِيهِ: عَن ابْن عمر، فَلَو كَانَ وَقع لَهُ كَذَلِك لنبه عَلَيْهِ كعادته.
انْتهى.
قلت: لَا يلْزم من عدم تنبيهه على هَذَا أَن يكون الْوَهم فِيهِ من غير البُخَارِيّ، إِذْ البُخَارِيّ غير مَعْصُوم.
قَوْله: ( جعد) ، أَي: جعد الشّعْر وَهُوَ ضد السبط لِأَن السبط أَكثر مَا فِي شُعُور الْعَجم.
قَوْله: ( آدم) أَي: أسمر.
قَوْله: ( جسيم) ، وَقد مر فِيمَا مضى: أَنه ضرب، أَي: خَفِيف اللَّحْم وَأَنه مُضْطَرب، فَهَذَا يضاد قَوْله: جسيم، وَلِهَذَا قَالَ التَّيْمِيّ: كَأَن بعض لفظ الحَدِيث دخل فِي بعض، لِأَن الجسيم إِنَّمَا ورد فِي صفة الدَّجَّال، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الجسامة كَمَا تكون فِي الشَّخْص بِاعْتِبَار السّمن تكون فِيهِ أَيْضا بِاعْتِبَار الطول، وَلِهَذَا قَالَ: ( كَأَنَّهُ من رجال الزط) لِأَن الزط، بِضَم الزَّاي وَتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة: جنس من السودَان طوال.





[ قــ :38 ... غــ :3439 ]
- حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ حدَّثنا مُوسَى عنْ نافِعٍ قَالَ عبْدُ الله ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَاً بَيْنَ ظَهْرَيِ النَّاسِ المَسيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ إنَّ الله لَيْسَ بِأعْوَرَ ألاَ إنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العَيْنِ الْيُمْنَى كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَة.
وأرَاني اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنامِ فإذَا رَجُلٌ آدَمُ كأحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رأسُهُ مَاء واضِعَاً يَدَيْهِ علَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وهْوَ يَطُوفُ بالْبَيْتِ فقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا المَسِيحُ بنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأيْتُ رجُلاً ورَاءَهُ جَعْدَاً قَطِطاً أعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كأشْبَهِ مَنْ رَأيْتُ بابُنِ قَطَنِ واضِعاً يَدَيْهِ علَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بالْبَيْتِ فقُلْتُ مَنْ هاذَا قَالُوا المَسِيحُ الدَّجَّالُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة على مَا ذكرنَا.
وَأَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم: واسْمه أنس بن عِيَاض، ومُوسَى هُوَ ابْن عقبَة.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن الْمسَيبِي عَن أنس بن عِيَاض، وَفِي الْفِتَن عَن مُحَمَّد ابْن عماد.

قَوْله: ( بَين ظري النَّاس) ، ويروى: ظهراني النَّاس بِزِيَادَة النُّون أَي: جَالِسا فِي وسط النَّاس، وَالْمرَاد أَنه جلس بَينهم مستظهراً لَا مستخفياً، وَقد مر تَفْسِير هَذَا غير مرّة، وَيُقَال: إِن هَذِه اللَّفْظَة زَائِدَة.
قَوْله: ( أَلا أَن الْمَسِيح) ، كلمة ألاَ، للتّنْبِيه كَأَنَّهُ يُنَبه السامعين ليكونوا على ضبط من سَماع كَلَامه.
قَوْله: ( أَعور الْعين الْيُمْنَى) ، عين الجثة أَو الْجِهَة الْيُمْنَى، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن حُذَيْفَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الدَّجَّال أَعور عين الْيُسْرَى، وَالْجمع بَينهمَا أَن يقدر فِيهَا أَن إِحْدَى عَيْنَيْهِ ذَاهِبَة وَالْأُخْرَى مَعِيبَة، فَيصح أَن يُقَال لكل وَاحِدَة: عوراء، إِذْ الأَصْل فِي العور الْعَيْب.
قَوْله: ( كَأَن عينه عنبة طافية) ، الطافية الناتئة عَن حد أُخْتهَا من الطفو، وَهُوَ أَن يَعْلُو المَاء مَا وَقع فِيهِ وَيُقَال: طافئة، بِالْهَمْز أَي: ذَاهِب ضوؤها، وَبِدُون الْهَمْز: أَي ناتئة بارزة،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: العنبة الطافية هِيَ الْحبَّة الْكَبِيرَة الَّتِي خرجت عَن حد أخواتها.
قلت: طافية بِلَا همز من طفا الشَّيْء يطفو من بابُُ معتل اللَّام الواوي وبالهمزة: من طفأ يطفأ من بابُُ علم يعلم، يُقَال: طفئت النَّار تطفأ طفؤاً، وأطفأتها أَنا.
فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: أَنه جاحظ الْعين كَأَنَّهَا كَوْكَب، وَفِي أُخْرَى: أَنَّهَا لَيست بناتئة وَلَا حجراء، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم، قَالَ الْهَرَوِيّ: كَانَت اللَّفْظَة مَحْفُوظَة فمعناها أَنَّهَا لَيست بصلبة متحجرة، وَقد رويت: جحراء، بِتَقْدِيم الْجِيم، أَي: غائرة متجحرة فِي نقرتها،.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: هِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة دون الْحَاء، وبالجيم فِي أَوله، وَمَعْنَاهَا: الضيقة الَّتِي لَهَا غمص ورمص، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من حَدِيث أبي بن كَعْب: إِحْدَى عَيْنَيْهِ كَأَنَّهَا زجاجة خضراء، وَعَن ابْن عمر: إِحْدَى عَيْنَيْهِ مطموسة وَالْأُخْرَى ممزوجة بِالدَّمِ كَأَنَّهَا الزهرة.
قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن يُقَال: إِن اخْتِلَاف الْأَوْصَاف بِحَسب اخْتِلَاف الْعَينَيْنِ.
قَوْله: ( وَأرَانِي) بِفَتْح الْهمزَة، أَي: أرى نَفسِي اللَّيْلَة، أَي: فِي اللَّيْلَة.
قَوْله: ( آدم) ، بِالْمدِّ لِأَنَّهُ أفعل من الأدمة، وَهِي السمرَة الشَّدِيدَة.
قَوْله: ( وَمن أَدَم الرِّجَال) ، بِضَم الْهمزَة جمع: أَدَم.
قَوْله: ( لمته) ، بِكَسْر اللَّام: وَهِي الشّعْر إِذا جَاوز شَحم الْأُذُنَيْنِ، سميت بذلك لِأَنَّهَا ألمت بالمنكبين فَإِذا بلغت الْمَنْكِبَيْنِ فَهِيَ جمة، وَإِذا قصرت عَنْهُمَا فَهِيَ وفرة.
قَوْله: ( رجل الشّعْر) ، بِكَسْر الْجِيم بِمَعْنى: منظف الشّعْر ومسرحه، ومحسنه، وَهُوَ من الترجيل وَهُوَ تَسْرِيح الشّعْر وتنظيفه، وَفِي رِوَايَة مَالك: لَهُ لمة قد رجلهَا فَهِيَ تقطر مَاء.
قَوْله: ( تقطر رَأسه مَاء) ، وَهُوَ المَاء الَّذِي رجلهَا بِهِ لقرب ترجيله، أَو هُوَ اسْتِعَارَة من نضارته وجماله.
قَوْله: ( جَعدًا) ، قد ذكرنَا أَن الجعودة تحْتَمل الذَّم والمدح بِحَسب الِاسْتِعْمَال، وَهُوَ فِي صفة عِيسَى مدح، وَفِي صفة الدَّجَّال ذمّ.
قَوْله: ( قططاً) ، بِفَتْح الْقَاف والطاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَقد تكسر الطَّاء الأولى، وَالْمرَاد بِهِ: شدَّة جعودة الشّعْر.
قَوْله: ( أَعور عين الْيُمْنَى) من بابُُ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته، وَهُوَ عِنْد الْكُوفِيّين ظَاهر، وَعند الْبَصرِيين تَقْدِيره: عين صفحة وَجهه الْيُمْنَى.
قَوْله: ( كأشبه من رَأَيْت) ، بِضَم التَّاء وَفتحهَا.
قَوْله: ( بِابْن قطن) ، بِفَتْح الْقَاف والطاء: واسْمه عبد الْعُزَّى بن قطن بن عَمْرو الجاهلي الْخُزَاعِيّ، وَأمه هَالة بنت خويلد أُخْت خَدِيجَة بنت خويلد، وَكَانَت عِنْد الرّبيع بن عبد الْعُزَّى بن عبد شمس فَولدت لَهُ أَبَا الْعَاصِ، ثمَّ خلف عَلَيْهَا بعده أَخُوهُ ربيعَة بن عبد الْعُزَّى، ثمَّ خلف عَلَيْهَا وهب بن عبد فَولدت لَهُ أَوْلَادًا، ثمَّ خلف عَلَيْهَا قطن بن عَمْرو بن حبيب بن سعد بن عَائِذ بن مَالك بن جذيمة وَهُوَ المصطلق فَولدت لَهُ عبد الْعُزَّى بن قطن.
قَوْله: ( وَاضِعا يَدَيْهِ) ، نضب على الْحَال.

تابَعَهُ عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ
أَي: تَابع مُوسَى بن عقبَة عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة مُسلم من طَرِيق أبي أُسَامَة وَمُحَمّد بن بشر جَمِيعًا عَن عبيد الله بن عمر فِي ذكر الدَّجَّال فَقَط إِلَى قَوْله: عنبة طافية، وَلم يذكر مَا بعده.





[ قــ :383 ... غــ :3441 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ بنَ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنِي الزُّهْرِيُّ عنْ سالِمٍ عنْ أبِيهِ قَالَ ل اَ وَالله مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعِيسَى أحْمَرُ ولَكِنْ قَالَ بَيْنَما أنَا نائِمٌ أطُوفُ بالْكَعْبَةِ فإذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعْرِ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطُفُ رأسُهُ مَاء أوْ يَهْرَاقُ رأسُهُ مَاء فقُلْتُ مَنْ هاذَا قالُوا ابنُ مَرْيَمَ فذَهَبْتُ ألْتَفِتُ فإذَا رَجُلٌ أحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأسِ أعْوَرُ عَيْنِهِ اليُمْنَى كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ.

قُلْتُ مَنْ هاذَا قَالُوا هذَا الدَّجَّالُ وأقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهَاً ابنُ قَطَنٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ابْن مَرْيَم) .
وَأحمد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد أَبُو مُحَمَّد الْأَزْرَقِيّ الْمَكِّيّ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد إِبْنِ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يروي عَن أَبِيه عبد الله بن عمر.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: ( قَالَ) ، أَي: قَالَ عبد الله بن عمر.
قَوْله: ( لَا وَالله مَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ فِي صفة عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَحْمَر، وَلَكِن قَالَ ... إِلَى آخِره.
وَفِيه: جَوَاز الْيَمين على غَلَبَة الظَّن، لِأَن ابْن عمر ظن أَن الْوَصْف اشْتبهَ على الرَّاوِي، وَأَن الْمَوْصُوف بِكَوْنِهِ أَحْمَر إِنَّمَا هُوَ الدَّجَّال لَا عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقرب ذَلِك أَن كلا مِنْهُمَا يُقَال لَهُ: الْمَسِيح، وَهِي صفة مدح فِي حق عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصفَة ذمّ فِي حق الدَّجَّال كَمَا ذكر، وَكَأن ابْن عمر قد تحقق سَمعه فِي وصف عِيسَى بِأَنَّهُ آدم فجوز الْحلف على غَلَبَة الظَّن، وَأَن من وَصفه بِأَنَّهُ أَحْمَر قد وهم فِيهِ.
قَوْله: ( بَينا أَنا نَائِم) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أصل: بَينا، بَين فأشبعت الفتحة ألفا، وَأَنه ظرف مُضَاف إِلَى جملَة، وَهَذَا يدل على أَن رُؤْيَته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذِه الْمرة غير رُؤْيَته الَّتِي ذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي مضى عَن قريب فِي هَذَا الْبابُُ، فَإِن تِلْكَ كَانَت لَيْلَة الْإِسْرَاء.
فَإِن قلت: الَّتِي كَانَت فِي الْإِسْرَاء على الِاخْتِلَاف فِي الْإِسْرَاء: هَل كَانَ فِي النّوم أَو فِي الْيَقَظَة؟ قلت: قد قيل: إِنَّه كَانَ فِي الْمَنَام، وَلَكِن الصَّحِيح أَن الْإِسْرَاء كَانَ فِي الْيَقَظَة، وَأَن رُؤْيَته الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَت فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء، كَانَت بالأشخاص، وَإِن زعم بَعضهم أَنَّهَا كَانَت بالأرواح.
فَإِن قلت: إِذا كَانَت الرُّؤْيَة فِي الْمَنَام فَلَا إِشْكَال، وَإِذا كَانَت فِي الْيَقَظَة فَفِيهِ إِشْكَال، وَيزِيد الْإِشْكَال مَا رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: ( أما مُوسَى فَرجل آدم جعد على جمل أَحْمَر مَخْطُوم بخلبة كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ إِذا انحدر فِي الْوَادي) ، وَقد تقدم فِي الْحَج، وَكَذَلِكَ رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُوسَى لَيْلَة الْمِعْرَاج وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبره.
قلت: لَا إِشْكَال فِي هَذَا أصلا، وَذَلِكَ أَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أفضل من الشُّهَدَاء، وَالشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم، فالأنبياء بِالطَّرِيقِ الأولى، وَلَا سِيمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد مُسلم، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَأَنِّي أنظر إِلَى مُوسَى، وَكَأَنِّي أنظر إِلَى يُونُس، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا يبعد أَن يصلوا ويحجوا ويتقربوا إِلَى الله تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعُوا مَا دَامَت الدُّنْيَا وَهِي دَار التَّكْلِيف بَاقِيَة.
قَوْله: ( يهادَى بَين رجلَيْنِ) أَي: يمشي بَينهمَا مائلاً إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ مُتكئا عَلَيْهِمَا.
قَوْله: ( ينطف) ، بِكَسْر الطَّاء وَضمّهَا أَي: يقطر ( وَرَأسه) بِالرَّفْع فَاعل لَهُ، وَقَوله: ( مَاء) ، يصب على التَّمْيِيز.
قَوْله: ( أَو يهراق) ، شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ بِضَم الْيَاء وَفتح الْهَاء وسكونها.
قَوْله: ( أَعور عينه الْيُمْنَى) ، بِإِضَافَة أَعور إِلَى عينه من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وارتفاع: أَعور، على أَنه صفة لقَوْله: رجل بعد صفة، وروى الْأصيلِيّ بِرَفْع: عينه، بِقطع إِضَافَة أَعور عَنهُ، وَذكر بَعضهم وَجه ذَلِك بقوله: كَأَنَّهُ وقف على وَصفه بِأَنَّهُ أَعور، وابتدأ الْخَبَر عَن صفة عينه، فَقَالَ: عينه كَأَنَّهَا كَذَا، وأبرز الضَّمِير، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ يصير كَأَنَّهُ قَالَ عينه كَانَ عينه انْتهى قلت لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التخبيط حَيْثُ يذكر وَجها فِي إعرابه ثمَّ يَقُول وَفِيه نظروالذي يُقَال فِيهِ على مَا ذهب إِلَيْهِ الْأصيلِيّ أَن تكون: عينه، بِالرَّفْع بدل من قَوْله: أَعور، وَيجوز أَن يكون ارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: عينه الْيُمْنَى عوراء، وَتَكون هَذِه الْجُمْلَة صفة كاشفة لقَوْله: أَعور.
قَوْله: ( كَأَن عينه عنبة طافية) ، هَذَا على رِوَايَة الْأَكْثَرين على أَن عينه مَنْصُوبَة على أَنه اسْم: كَانَ.
وَقَوله: عنبة، خَبره، وَهُوَ بِكَسْر الْعين وَفتح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة، و: طافية، صفتهَا، أَي: مُرْتَفعَة، وَعند الْأصيلِيّ: كَأَن عينه طافية، ويروى: كَأَن عنبة طافية، بِالنّصب على أَنه اسْم: كَأَن، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: كَأَن فِي وَجهه عنبة طافية، وَالْخَبَر مقدم على الإسم.
قَوْله: ( هَذَا الدَّجَّال) .
فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَيحرم على الدَّجَّال دُخُول مَكَّة؟ قلت: ذَاك فِي زمن خُرُوجه على النَّاس، وَأَيْضًا لفظ الحَدِيث أَنه: لَا يدْخل مَكَّة، وَلَيْسَ فِيهِ نفي الدُّخُول فِي الْمَاضِي.
قَوْله: ( قَالَ الزُّهْرِيّ) ، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
قَوْله: ( رجل) ، أَي: ابْن قطن رجل من خُزَاعَة هلك فِي الْجَاهِلِيَّة، و: خُزَاعَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي وبالعين الْمُهْملَة هُوَ: ربيعَة، وَرَبِيعَة هُوَ لحي بن حَارِثَة بن عَمْرو بن مزيقيا بن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة ابْن مَازِن بن الأزد، وَقيل لَهُم: خُزَاعَة لأَنهم تخزعوا من بني مَازِن بن الأزد فِي إقبالهم مَعَهم من الْيمن، أَي: انْقَطَعُوا عَنْهُم.
قَوْله: ( جاهلي) ، نِسْبَة إِلَى الْجَاهِلِيَّة، وَهِي الْحَالة الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا الْعَرَب قبل الْإِسْلَام من الْجَهْل بِاللَّه وَرَسُوله وَشَرَائِع الدّين والمفاخرة بالأنساب وَالْكبر والتجبر وَغير ذَلِك.





[ قــ :384 ... غــ :344 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو سلَمَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أنَا أوْلَى النَّاسِ بابُنِ مَرْيَمَ والأنْبِيَاءُ أوْلادُ عَلاَّتٍ لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَهُ نَبِيٌّ.
( الحَدِيث 443 طرفه فِي: 3443) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( بِابْن مَرْيَم) .
وَرِجَاله بِهَذَا النسق قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.

قَوْله: ( أَنا أولى النَّاس بِابْن مَرْيَم) أَي: بِعِيسَى ابْن مَرْيَم، أَي: أخص النَّاس بِهِ وأقربهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بشر بِأَنَّهُ يَأْتِي من بعدِي رَسُول اسْمه أَحْمد، وَقيل: لِأَنَّهُ لَا نَبِي بَينهمَا، فكأنهما كَانَا فِي زمن وَاحِد، وَفِيه نظر،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: { إِن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي} ( آل عمرَان: 86) .
قلت: الحَدِيث وَارِد فِي كَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متبوعاً، وَالْقُرْآن فِي كَونه تَابعا، وَله الْفضل تَابعا ومتبوعاً.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: مساق الحَدِيث كمساق الْآيَة، فَلَا دَلِيل على هَذِه التَّفْرِقَة، وَالْحق أَنه لَا مُنَافَاة ليحتاج إِلَى الْجمع، فَكَمَا أَنه أولى النَّاس بإبراهيم، كَذَلِك هُوَ أولى النَّاس بِعِيسَى، وَذَلِكَ من جِهَة قُوَّة الِاقْتِدَاء بِهِ، وَهَذَا من جِهَة قرب الْعَهْد بِهِ.
انْتهى.
قلت:

.
قَوْله: ( علات) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق وهم الْأُخوة لأَب من أُمَّهَات شَتَّى، كَمَا أَن الْأُخوة من الْأُم فَقَط أَوْلَاد أخياف، والأخوة من الْأَبَوَيْنِ أَوْلَاد أَعْيَان، وَمَعْنَاهُ: أَن أصولهم وَاحِدَة وفروعهم مُخْتَلفَة يَعْنِي: أَنهم متفقون فِيمَا يتَعَلَّق بالاعتقاديات الْمُسَمَّاة بأصول الديانَات كالتوحيد وَسَائِر مسَائِل علم الْكَلَام، مُخْتَلفُونَ فِيمَا يتَعَلَّق بالعمليات وَهِي الفقهيات، وَيُقَال: سميت أَوْلَاد الرجل من نسْوَة شَتَّى: أخوة علات، لأَنهم أَوْلَاد ضرائر، والعلات الضرائر، وَقيل: لِأَن الَّتِي تزَوجهَا على الأولى كَانَت قبلهَا ثمَّ عل من هَذِه، والعلل الشّرْب الثَّانِي، يُقَال: علل بعد نهل، وَفِي ( التَّهْذِيب) : هما أَخَوان من عِلّة، وهما ابْنا عِلّة، وهم بَنو عِلّة، وهم من علات.
وَفِي ( الْمُحكم) : جمع الْعلَّة العلائل.
قَوْله: ( لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي) أَي: وَبَين ابْن مَرْيَم، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن آدم: وَأَنا أولى النَّاس بِعِيسَى، لِأَنَّهُ لم يكن بيني وَبَينه نَبِي، وَبِه اسْتدلَّ قوم على أَنه لم يَأْتِ نَبِي بعد عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إلاَّ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال بِهِ قَوِيا، لِأَنَّهُ قد جَاءَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جرجيس وخَالِد بن سِنَان وَكَانَا نبيين، فعلى هَذَا معنى الحَدِيث: لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي بشريعة مُسْتَقلَّة، وَقيل: مَا ورد من خبر جرجيس وخَالِد لم يثبت، والْحَدِيث الصَّحِيح يردهُ.





[ قــ :385 ... غــ :3443 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمَانَ حدَّثنا هِلالُ بنُ عَلِيٍّ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي عَمْرَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا أوْلَى النَّاسُ بِعِيسَى بنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ والأنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى ودِينُهُمْ واحِدٌ.
( انْظُر الحَدِيث 443) .


هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة السَّابِق أخرجه عَن مُحَمَّد بن سِنَان بن أبي بكر الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الْأَعْمَى عَن فليح، بِضَم الْفَاء: ابْن سُلَيْمَان، وفليح لقبه واسْمه: عبد الْملك عَن هِلَال بن عَليّ بن أُسَامَة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة، وَاسم أبي عمْرَة: بشير بن عَمْرو بن مُحصن، قتل مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم صفّين وَله صُحْبَة.

قَوْله: ( وَدينهمْ وَاحِد) ، أَي: التَّوْحِيد دون الْفُرُوع للِاخْتِلَاف فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: { لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً} ( الْمَائِدَة: 84) .
وَيُقَال: دينهم أَي: أصُول الدّين وأصول الطَّاعَات وَاحِد، والكيفيات والكميات فِي الطَّاعَة مُخْتَلفَة.

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عنْ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ عنْ عَطاءِ بنِ يَسار عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ: قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ مُعَلّق وَصله النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن حَفْص بن عبد الله النَّيْسَابُورِي أبي عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، وَأحمد هَذَا من شُيُوخ البُخَارِيّ.





[ قــ :386 ... غــ :3444 ]
- وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَأى عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ سَرَقْتَ قَالَ كَلاَّ وَالله الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّه وكَذَّبْتُ عَيْنِي.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهَمَّام، بتَشْديد الْمِيم: ابْن مُنَبّه.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن رَافع.

قَوْله: ( سرقت) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر هَذَا أَنه خبر جازم عَمَّا فعل الرجل من السّرقَة، لِأَنَّهُ رَآهُ أَخذ مَالا من حرز فِي خُفْيَة، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون مستفهماً لَهُ عَن تَحْقِيق ذَلِك، فَحذف همزَة الِاسْتِفْهَام.
قلت: رَأَيْت فِي بعض النّسخ الصَّحِيحَة: أسرقت؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، ورد بِأَنَّهُ بعيد مَعَ جزم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَن عِيسَى رأى رجلا يسرق، وَقيل: يحْتَمل حل الْأَخْذ لهَذَا الرجل بِوَجْه من الْوُجُوه، ورد بِالْجَزْمِ الْمَذْكُور.
قَوْله: ( كلا) ، نفي للسرقة، ثمَّ أكده بقوله: ( وَالله الَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ هُوَ، وَفِي رِوَايَة غَيره: إِلَّا الله، وَفِي رِوَايَة ابْن طهْمَان عِنْد النَّسَائِيّ، قَالَ: لَا وَالَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ.
قَوْله: ( آمَنت بِاللَّه) أَي: صدقت من حلف بِاللَّه وكذبت مَا ظهر لي من كَون الْأَخْذ الْمَذْكُور سَرقَة، فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الرجل أَخذ مَاله فِيهِ حق أَو مَا أذن لَهُ صَاحبه فِي أَخذه، أَو أَخذه ليقلبه وَينظر فِيهِ، وَلم يقْصد الْغَصْب والاستيلاء.
قَوْله: ( وكذبت عَيْني) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وكذبت نَفسِي، وَفِي رِوَايَة ابْن طهْمَان: وكذبت بَصرِي،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قَالَ عِيسَى ذَلِك على الْمُبَالغَة فِي تَصْدِيق الْحَالِف، وَقيل: أَرَادَ بالتصديق والتكذيب ظَاهر الحكم لَا بَاطِن الْأَمر، وإلاَّ فالمشاهدة أَعلَى الْيَقِين، فَكيف يصدق عينه أَو يكذب قَول الْمُدَّعِي؟ .

وَفِيه: دَلِيل على دَرْء الْحَد بِالشُّبْهَةِ، وعَلى منع الْقَضَاء بِالْعلمِ.
وَالرَّاجِح عِنْد الْمَالِكِيَّة والحنابلة مَنعه مُطلقًا، وَعند الشَّافِعِيَّة جَوَازه إلاَّ فِي الْحُدُود.





[ قــ :387 ... غــ :3445 ]
- حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ عَلى المِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ لاَ تُطْرُونِي كَما أطْرَتِ النَّصارَى ابنَ مَرْيَمَ فإنَّمَا أنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ الله ورسُولُهُ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ابْن مَرْيَم) عَلَيْهِمَا السَّلَام.
والْحميدِي عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ونسبته إِلَى أحد أجداده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن عتبَة بن مَسْعُود.

والْحَدِيث طرف من حَدِيث السَّقِيفَة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن أَحْمد بن منيع وَسَعِيد بن عبد الرَّحْمَن وَغَيرهمَا، كلهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.

قَوْله: ( لَا تطروني) ، بِضَم التَّاء، من الإطراء وَهُوَ المديح بِالْبَاطِلِ، تَقول: أطريت فلَانا: مدحته فأفرطت فِي مدحه.
وَقيل: الإطراء مُجَاوزَة الْحَد فِي الْمَدْح وَالْكذب فِيهِ.
قَوْله: ( كَمَا أطرت النَّصَارَى) ، أَي: فِي دَعوَاهُم فِي عِيسَى بالإل هِية وَغير ذَلِك.
قَوْله: ( فَإِنَّمَا أَنا عَبده) إِلَى آخِره من هضمه نَفسه وإظهاره التَّوَاضُع.