فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا ادعى أو قذف، فله أن يلتمس البينة، وينطلق لطلب البينة

( بابٌُ إِذا إدَّعى أَو قَذَفَ فلَهُ أنْ يَلْتَمِسَ البَيِّنَةَ ويَنْطَلِقَ لِطَلَبِ البَيِّنَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا ادّعى رجل بِشَيْء على آخر.
قَوْله: ( أَو قذف) أَي: أَو قذف رجل رجلا أَو قذف امْرَأَته بِأَن رَمَاهَا بِالزِّنَا.
قَوْله: ( فَلهُ) أَي: فَلهَذَا الْمُدَّعِي أَو لهَذَا الْقَاذِف وَالضَّمِير هُنَا مثل الضَّمِير فِي قَوْله: { اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} ( الْمَائِدَة: 8) .
فَإِن هُوَ يرجع إِلَى الْعدْل الَّذِي يدل عَلَيْهِ: إعدلوا، وَكَذَلِكَ قَوْله: أدعى، يدل على الْمُدَّعِي، وَقَوله: أَو قذف، يدل على الْقَاذِف.
قَوْله: ( وينطلق) بِالنّصب عطفا على قَوْله: ( أَن يلْتَمس) وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَن لَهُ حق المهلة فِي التمَاس الْبَيِّنَة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون من بابُُ اللف والنشر، وخصص هَذَا بالقسم الثَّانِي أَي: الْقَذْف مُوَافقَة للفظ الحَدِيث.
قلت: هُوَ قَوْله: فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِذا رأى أَحَدنَا على امْرَأَته رجلا ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة؟ ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ هَذَا، فَمن أَيْن علم حكم الادعاء؟ قلت: بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.


[ قــ :2554 ... غــ :2671 ]
- ( حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن هِشَام قَالَ حَدثنَا عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشريك بن سمحاء فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ يَا رَسُول الله إِذا رأى أَحَدنَا على امْرَأَته رجلا ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة فَجعل يَقُول الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد فِي ظهرك فَذكر حَدِيث اللّعان) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة فَإِن قلت الحَدِيث ورد فِي الزَّوْجَيْنِ والترجمة أَعم من ذَلِك والانطلاق لالتماس الْبَيِّنَة لتمكين الْقَاذِف من إِقَامَة الْبَيِّنَة حَتَّى ينْدَفع الْحَد عَنهُ وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيّ كَذَلِك ( قلت) كَانَ ذَلِك قبل نزُول آيَة اللّعان حَيْثُ كَانَ الزَّوْج وَالْأَجْنَبِيّ سَوَاء ثمَّ كَمَا ثَبت للقاذف ذَلِك ثَبت لكل مُدع بطرِيق الأولى وَمُحَمّد بن بشار بتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة قد تكَرر ذكره وَابْن أبي عدي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة هُوَ مُحَمَّد بن أبي عدي واسْمه إِبْرَاهِيم وَهِشَام هُوَ ابْن حسان القردوسي الْبَصْرِيّ والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير وَفِي الطَّلَاق وَأَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق وَالتِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير وَالطَّلَاق كلهم عَن بنْدَار وَهُوَ مُحَمَّد بن بشار الْمَذْكُور ( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " هِلَال بن أُميَّة " بن عَامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عَامر بن كَعْب بن وَاقِف واسْمه مَالك بن امرىء الْقَيْس بن مَالك بن الأوسي الْأنْصَارِيّ الوَاقِفِي شهد بَدْرًا وأحدا وَكَانَ قديم الْإِسْلَام وَأمه أنيسَة بنت هدم أُخْت كُلْثُوم بن الْهدم الَّذِي نزل عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قدم الْمَدِينَة مُهَاجرا وَهُوَ الَّذِي لَاعن امْرَأَته على مَا نذكرهُ وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّذين تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ والمهلب بن أبي صفرَة يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث هِلَال بن أُميَّة وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر الْعجْلَاني وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة فِي شعْبَان سنة تسع منصرف سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من تَبُوك.

     وَقَالَ  الْمُهلب وَأَظنهُ غلط من هِشَام بن حسان وَمِمَّا يدل على أَنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة توقف سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى أنزل الله عز وَجل الْآيَة وَلَو أَنَّهُمَا قضيتان لم يتَوَقَّف عَن الحكم فيهمَا وَالْحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا أنزل الله تَعَالَى قلت لم ينْفَرد بِهِ هِشَام بل تَابعه عباد بن مَنْصُور ذكره التِّرْمِذِيّ.

     وَقَالَ  وَرَوَاهُ عباد بن مَنْصُور عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مُتَّصِلا وَرَوَاهُ أَيُّوب عَن عِكْرِمَة مُرْسلا وَلم يذكر ابْن عَبَّاس وروى الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره قَالَ حَدثنَا أَبُو أَحْمد الْحُسَيْن بن مُحَمَّد حَدثنَا جرير بن حَازِم عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قذف هِلَال امْرَأَته قيل لَهُ ليجلدنك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانِينَ جلدَة فَنزلت لَهُ الْآيَة الحَدِيث مطولا وَلما رَوَاهُ الْحَاكِم كَذَلِك من حَدِيث الْحسن بن مُحَمَّد الْمروزِي عَن جرير بِهِ قَالَ صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره عَن عباد عَن عَطاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس.

     وَقَالَ  الْخَطِيب حَدِيث هِلَال وعويمر صَحِيحَانِ فلعلهما اتفقَا مَعًا فِي مقَام وَاحِد أَو مقامين وَنزلت الْآيَة الْكَرِيمَة فِي تِلْكَ الْحَال لَا سِيمَا وَفِي حَدِيث عُوَيْمِر كره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّائِل يدل على أَنه سبق بِالْمَسْأَلَة مَعَ مَا روينَا عَن جَابر أَنه قَالَ مَا نزلت آيَة اللّعان إِلَّا لِكَثْرَة السُّؤَال.

     وَقَالَ  الْمَاوَرْدِيّ الْأَكْثَرُونَ على أَن قَضِيَّة هِلَال أسبق من قَضِيَّة عُوَيْمِر وَالنَّقْل فيهمَا مشتبه مُخْتَلف.

     وَقَالَ  ابْن الصّباغ فِي الشَّامِل قصَّة هِلَال تبين الْآيَة نزلت فِيهِ أَولا وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعويمر " إِن الله أنزل فِيك وَفِي صَاحبَتك " مَعْنَاهُ مَا نزل فِي قَضِيَّة هِلَال لِأَن ذَلِك حكم عَام لجَمِيع الْمُسلمين قَالَ النَّوَوِيّ ولعلها نزلت فيهمَا جَمِيعًا لاحْتِمَال سؤالهما فِي وَقْتَيْنِ متقاربين فَنزلت وَسبق هِلَال بِاللّعانِ قَوْله " قذف " الْقَذْف فِي اللُّغَة الرَّمْي بِقُوَّة وَلَكِن المُرَاد هُنَا رمي الْمَرْأَة بِالزِّنَا أَو مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ يُقَال قذف يقذف قذفا فَهُوَ قَاذف قَوْله " امْرَأَته " زعم مقَاتل فِي تَفْسِيره أَن الْمَرْأَة اسْمهَا خَوْلَة بنت قيس الْأَنْصَارِيَّة قَوْله " بِشريك بن سمحاء " سمحاء أمه وَأَبُو عَبدة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن معتب بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة كَذَا ضَبطه الشَّيْخ مُحي الدّين رَحمَه الله تَعَالَى.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ مغيث بالغين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة ابْن الْجد بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الدَّال ابْن عجلَان بن حَارِثَة بن ضبيعة البلوي وَهُوَ ابْن عَم معن وَعَاصِم بن عدي بن الْجد وَهُوَ حَلِيف الْأَنْصَار وَهُوَ صَاحب اللّعان قيل أَنه شهد مَعَ أَبِيه أحدا وَهُوَ أَخُو الْبَراء بن مَالك لأمه وَهُوَ الَّذِي قذفه هِلَال بن أُميَّة بامرأته وَعَن أنس أَنه أول من لَاعن فِي الْإِسْلَام وَإِنَّمَا سميت أمه سمحاء لسوادها قيل اسْمهَا لبينة وَقيل مانية بنت عبد الله قَوْله " الْبَيِّنَة " بِالنّصب أَي أحضر الْبَيِّنَة أَو أقمها وَيجوز الرّفْع على معنى الْوَاجِب عَلَيْك الْبَيِّنَة قَوْله " أَو حد " أَي الْوَاجِب عِنْد عدم الْبَيِّنَة حد فِي ظهرك ويروي الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد أَي وَإِن لم تحضر الْبَيِّنَة أَو إِن لم تقمها فجزاؤك حد فِي ظهرك والجزء الأول من الْجُمْلَة الجزائية وَالْفَاء محذوفان وَكلمَة فِي بِمَعْنى على أَي على ظهرك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي عَلَيْهَا قَوْله " يلْتَمس الْبَيِّنَة " جملَة حَالية من الالتماس وَهُوَ الطّلب قَوْله " فَجعل يَقُول " أَي فَجعل الرَّسُول يَقُول الْمَعْنى أَنه يُكَرر قَوْله الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك قَوْله فَذكر حَدِيث اللّعان أَي فَذكر ابْن عَبَّاس حَدِيث اللّعان وَهُوَ الَّذِي ذكره البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فِي سُورَة النُّور وَالَّذِي ذكره هُنَا قِطْعَة مِنْهُ وَذكره بالسند الْمَذْكُور عَن مُحَمَّد بن بشار الْمَذْكُور من قَوْله أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ هِلَال وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِنِّي لصَادِق فلينزلن الله مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأنزل عَلَيْهِ { وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} فَقَرَأَ حَتَّى بلغ { إِن كَانَ من الصَّادِقين} فَانْصَرف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأرْسل إِلَيْهَا فجَاء هِلَال فَشهد وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " إِن الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب فَهَل مِنْكُمَا تائب " ثمَّ قَامَت فَشَهِدت فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْخَامِسَة وقفوها وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجبَة قَالَ ابْن عَبَّاس فتلكأت وَنَكَصت حَتَّى ظننا أَنَّهَا ترجع ثمَّ قَالَت لَا أفضح قومِي سَائِر الْيَوْم فمضت فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أبصروها فَإِن جَاءَت بِهِ أكحل الْعَينَيْنِ سابغ الأليتين خَدلج السَّاقَيْن فَهُوَ لِشَرِيك بن سمحاء " فَجَاءَت بِهِ كَذَلِك فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله لَكَانَ لي وَلها شَأْن " وَأَبُو دَاوُد لَهُ طَرِيقَانِ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا أَحدهمَا عَن مُحَمَّد بن بشار إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ شَيخا وسندا ومتنا وَالْآخر عَن الْحسن بن عَليّ قَالَ حَدثنَا يزِيد بن هرون قَالَ أخبرنَا عباد بن مَنْصُور عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ جَاءَ هِلَال بن أُميَّة وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّذين تَابَ الله عَلَيْهِم فجَاء من أرضه عشَاء فَوجدَ عِنْد أَهله رجلا فَرَأى بِعَيْنيهِ وَسمع بأذنيه فَلم يهجه حَتَّى أصبح ثمَّ غَدا على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي جِئْت أَهلِي عشَاء فَرَأَيْت عِنْدهم رجلا فَرَأَيْت بعيني وَسمعت بأذني فكره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَنزلت { وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا نفسهم فشهادة أحدهم أَربع شَهَادَات} الْآيَتَيْنِ كلتيهما فسرى عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " أبشر يَا هِلَال قد جعل الله لَك فرجا ومخرجا " قَالَ هِلَال قد كنت أَرْجُو ذَلِك من رَبِّي فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرْسلُوا إِلَيْهَا فَجَاءَت فَتلا عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذكرهما وأخبرهما أَن عَذَاب الْآخِرَة أَشد من عَذَاب الدُّنْيَا فَقَالَ هِلَال وَالله لقد صدقت عَلَيْهَا فَقَالَت كذب فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَاعِنُوا بَينهمَا " فَقيل لهِلَال اشْهَدْ فَشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه أَنه لمن الصَّادِقين فَلَمَّا كَانَ الْخَامِسَة قيل لَهُ يَا هِلَال اتَّقِ الله فَإِن عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَإِن هَذِه الْمُوجبَة الَّتِي توجب عَلَيْك الْعَذَاب فَقَالَ وَالله لَا يُعَذِّبنِي الله عَلَيْهَا كَمَا لم يجلدني عَلَيْهَا فَشهد الْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين ثمَّ قيل لَهَا اشهدي فَشَهِدت أَربع شَهَادَات بِاللَّه أَنه لمن الْكَاذِبين فَلَمَّا كَانَ الْخَامِسَة قيل لَهَا اتقِي الله فَإِن عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَأَن هَذِه الْمُوجبَة الَّتِي توجب عَلَيْك الْعَذَاب فتلكأت سَاعَة ثمَّ قَالَت وَالله لَا أفضح قومِي فَشَهِدت الْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين فَفرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا وَقضى أَن لَا يدعى وَلَدهَا لأَب وَلَا ترمى وَلَا يرْمى وَلَدهَا وَمن رَمَاهَا أَو رمى وَلَدهَا فَعَلَيهِ الْحَد وَقضى أَن لَا بَيت عَلَيْهِ وَلَا قوت من أجل أَنَّهُمَا يتفرقان من غير طَلَاق وَلَا متوفي عَنْهَا.

     وَقَالَ  إِن جَاءَت بِهِ أُصَيْهِب أريصح أثيبج حمش السَّاقَيْن فَهُوَ لهِلَال وَإِن جَاءَت بِهِ أَوْرَق جَعدًا جمالِيًّا خَدلج السَّاقَيْن سابغ الأليتين فَهُوَ للَّذي رميت بِهِ فَجَاءَت بِهِ أَوْرَق جَعدًا جمالِيًّا خَدلج السَّاقَيْن سَابق الأليتين فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن قَالَ عِكْرِمَة فَكَانَ بعد ذَلِك أَمِيرا على مصر وَمَا يدعى لأَب ولنذكر تَفْسِير مَا وَقع فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة من الْأَلْفَاظ الغريبة قَوْله الْمُوجبَة أَي توجب الْعَذَاب.
قَوْله فتلكأت أَي تبطأت عَن إتْمَام اللّعان.
قَوْله وَنَكَصت أَي رجعت إِلَى وَرَائِهَا وَهُوَ الْقَهْقَرَى يُقَال نكص يَنْكص من بابُُ نصر ينصر.
قَوْله لَا أفضح بِضَم الْهمزَة من الإفضاح.
قَوْله سابغ الأليتين أَي تامهما وعظيمهما من سبوغ الثَّوْب وَالنعْمَة.
قَوْله خَدلج السَّاقَيْن أَي عظيمهما.
قَوْله لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { ويدرؤ عَنْهَا الْعَذَاب} .
قَوْله فَلم يهجه أَي لم يزعجه وَلم ينفره من هاج الشَّيْء يهيج هيجا واهتاج أَي ثار وهاجه غَيره.
قَوْله أُصَيْهِب تَصْغِير أصهب وَكَذَا فِي رِوَايَة أصهب بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ الَّذِي تعلو لَونه صهبة وَهِي كالشقرة.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ وَالْمَعْرُوف أَن الصهبة مُخْتَصَّة بالشعر وَهِي حمرَة يعلوها سَواد.
قَوْله أريصح تَصْغِير الأرصح وَهُوَ الناتىء الأليتين ومادته رَاء وصاد وحاء مهملتان وَيجوز بِالسِّين قَالَه الْهَرَوِيّ وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الأرسخ والأرصح هُوَ الْخَفِيف لحم الأليتين قَوْله أثيبج تَصْغِير الأثبج وَهُوَ الناتىء الثبج أَي مَا بَين الْكَتِفَيْنِ والكاهل ومادته الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم.
قَوْله حمش السَّاقَيْن أَي دقيقهما يُقَال رجل حمش السَّاقَيْن وأحمش السَّاقَيْن ومادته حاء مُهْملَة وَمِيم وشين مُعْجمَة.
قَوْله أَوْرَق أَي أسمر والورقة السمرَة يُقَال جمل أَوْرَق وناقة وَرْقَاء.
قَوْله جعد الْجَعْد فِي صِفَات الرِّجَال يكون مدحا وذما فالمدح مَعْنَاهُ أَن يكون شَدِيد الْأسر والخلق أَو يكون جعد الشّعْر وَهُوَ ضد السبط لِأَن السبوطة أَكْثَرهَا فِي شُعُور الْعَجم وَأما الذَّم فَهُوَ الْقصير المتردد الْخلق.
قَوْله جمالِيًّا بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْيَاء الضخم الْأَعْضَاء التَّام الأوصال ( ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) أجمع الْعلمَاء على صِحَة اللّعان وَاللّعان عندنَا شَهَادَات مؤكدات بالأيمان مقرونة بِاللّعانِ قَائِمَة مقَام الْقَذْف فِي حَقه وَلِهَذَا يشْتَرط كَونهَا مِمَّن يحد قاذفها وَلَا يقبل شَهَادَته بعد اللّعان أبدا وقائمة مقَام حد الزِّنَا فِي حَقّهَا وَلِهَذَا لَو قَذفهَا مرَارًا يَكْفِي لعان وَاحِد كالحد وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد هِيَ أَيْمَان مؤكدات بِلَفْظ الشَّهَادَة فَيشْتَرط أَهْلِيَّة الْيَمين عِنْدهم فَيجْرِي بَين الْمُسلم وَامْرَأَته الْكَافِرَة وَبَين الْكَافِر وَامْرَأَته الْكَافِرَة وَبَين العَبْد وَامْرَأَته وَعِنْدنَا يشْتَرط أَهْلِيَّة الشَّهَادَة فَلَا يجْرِي إِلَّا بَين الْمُسلمين الحرين العاقلين الْبَالِغين غير محدودين فِي قذف لقَوْله تَعَالَى { فشهادة أحدهم} وَيجْرِي عندنَا بَين الْفَاسِق وَامْرَأَته وَبَين الْأَعْمَى وَامْرَأَته لِأَن هَذِه الشَّهَادَة مَشْرُوعَة فِي مَوَاضِع التُّهْمَة وَإِن كَانَ لَا يقبل شَهَادَة الْفَاسِق وَالْأَعْمَى فِي سَائِر الْمَوَاضِع وَالشّرط أَيْضا كَون الْمَرْأَة مِمَّن يحد قاذفها فَلَا بُد من إحصانها وَالشّرط أَيْضا أَن يكون الْقَذْف بِالزِّنَا بِأَن يَقُول أَنْت زَانِيَة أَو زَنَيْت وَلَو قَذفهَا بِغَيْر الزِّنَا لَا يجب اللّعان.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ الْأَكْثَر على أَنَّهُمَا بفراغهما من اللّعان يَقع التَّحْرِيم المؤبد وَلَا تحل لَهُ أبدا وَإِن أكذب نَفسه مُتَمَسِّكِينَ بقوله لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا وَرُبمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن شهَاب لمضت سنة المتلاعنين أَن يفرق بَينهمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه إِذا التعنا بَانَتْ بتفريق الْحَاكِم حَتَّى لَو مَاتَ أَحدهمَا قبل حكم الْحَاكِم وَرثهُ الآخر.

     وَقَالَ  زفر لَا تقع الْفرْقَة إِلَّا إِذا تلاعنا جَمِيعًا فَإِذا تلاعنا وَقعت بِغَيْر قَضَاء وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَعبيد الله بن الْحسن التَّفْرِيق تَطْلِيقَة بَائِنَة حَتَّى إِذا أكذب نَفسه جَازَ نِكَاحهَا وَعند أبي يُوسُف تَحْرِيم مؤبد وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَزفر.
.

     وَقَالَ  عُثْمَان البتي لَا تَأْثِير للعان فِي الْفرْقَة وَإِنَّمَا يسْقط النّسَب وَالْحَد وهما على الزَّوْجِيَّة كَمَا كَانَا حَتَّى يطلقهَا وَحَكَاهُ الطَّبَرِيّ أَيْضا عَن جَابر بن زيد قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ قَالَ مَالك وَالْحسن بن صَالح وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث أَي مِنْهُمَا نكل حد إِن كَانَ الزَّوْج فللقذف وَلها فللزنا وَعَن الشّعبِيّ وَالضَّحَّاك وَمَكْحُول إِذا أَبَت رجمت وَأيهمَا نكل حبس حَتَّى يُلَاعن وَذكر ذَلِك عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي بقوله قذف امْرَأَته بِشريك بن سمحاء على أَنه لَا حد على الرَّامِي زَوجته إِذا سمى الَّذِي رَمَاهَا بِهِ ثمَّ التعن وَعند مَالك يحد وَلَا يكْتَفى بلعانه وَاعْتذر بعض أَصْحَابه عَن حَدِيث شريك بِأَن شَرِيكا لم يطْلب حَقه.
وَزعم أَبُو بكر الرَّازِيّ أَنه كَانَ حد الْقَاذِف الْجلد بِدلَالَة قَوْله " الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد فِي ظهرك " وَأَنه نسخ الْجلد إِلَى اللّعان.
وَفِيه فِي قَوْله لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله أَن الحكم إِذا وَقع بِشَرْطِهِ لَا ينْقض وَإِن بَين خِلَافه إِذا لم يَقع خلل أَو تَفْرِيط فِي شَيْء وَفِيه فِي قَوْله الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد فِي ظهرك مُرَاجعَة الْخصم الإِمَام إِذا رجا أَن يظْهر لَهُ خلاف مَا قَالَ لَهُ لِأَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا كالفتيا وَفِيه أَن الْحُدُود والحقوق يَسْتَوِي فِيهِ الصَّالح وَغَيره قَالَه الدَّاودِيّ ( فَإِن قلت) لم سمي هَذَا الحكم لعانا وَلم اختير لفظ اللَّعْن على لفظ الْغَضَب وَمَا الْحِكْمَة فِي مشروعيته ( قلت) أما التَّسْمِيَة بِاللّعانِ فلقول الزَّوْج عَليّ لعنة الله إِن كنت من الْكَاذِبين وَاللّعان والتلاعن والملاعنة وَاحِد يُقَال تلاعنا والتعنا ولاعن القَاضِي بَينهمَا وَقيل سمي لعانا لِأَنَّهُ من اللَّعْن وَهُوَ الطَّرْد والإبعاد وَلَا شكّ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يبعد عَن صَاحبه وَأما وَجه اخْتِيَار لفظ اللَّعْن على لفظ الْغَضَب فَلِأَن لفظ اللَّعْن مقدم فِي الْآيَة الْكَرِيمَة وَفِي صُورَة اللّعان وَلِأَن جَانب الرجل فِيهِ أقوى من جَانب الْمَرْأَة لِأَنَّهُ قَادر على الِابْتِدَاء بِاللّعانِ دونهَا وَأَنه قد يَنْفَكّ لِعَانه عَن لعانها وَلَا ينعكس وَأما مَشْرُوعِيَّة اللّعان فلحفظ الْأَنْسَاب وَدفع المعرة عَن الْأزْوَاج ( فَإِن قلت) فَلم جعل اللَّعْن للرجل وَالْغَضَب للْمَرْأَة ( قلت) لِأَن الْإِنْسَان لَا يُؤثر أَن يهتك زوجه بالمحال -