فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر

( بابٌُ إنَّ الله يُؤيِّدُ الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ أَن الله ... إِلَى آخِره، والفاجر من الْفُجُور، وَهُوَ الانبعاث فِي الْمعاصِي والمحارم، وَيَأْتِي بِمَعْنى: الذَّنب، كَمَا فِي قَوْلهم: الْعمرَة فِي أشهر الْحَج من أفجر الْفُجُور، أَي: الذُّنُوب، وَبِمَعْنى الْعِصْيَان كَمَا فِي قَوْله: ونترك من يفجرك،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: فجر فجوراً، أَي: فسق، وفجر، أَي: كذب وَأَصله: الْميل، والفاجر: المائل.



[ قــ :2925 ... غــ :3062 ]
- حدَّثنا أَبُو اليَمانِ قَالَ أخْبَرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْريِّ ح وحدَّثني مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ شَهِدْنَا مَعَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإسْلاَمَ هَذَا منْ أهْلِ النَّارِ فَلَمَّا حَضرَ القِتالُ قاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيداً فأصابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ يَا رسولَ الله الَّذِي قُلْتَ إنَّهُ مِنْ أهْلِ النَّارِ فإنَّهُ قَدْ قاتَلَ اليَوْمَ قِتَالاً شَدِيداً وقدْ ماتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّارِ قالَ فَكانَ بعْضَ النَّاسِ أرَادَ أنْ يَرْتَابَ فَبَيْنَما هُمْ علَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَمُتْ ولَكِنَّ بِهِ جِرَاحاً شَديدَاً فلَمَّا كانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ علَى الجِرَاحِ فقَتَلَ نَفْسَهُ فأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذَلِكَ فَقَالَ الله أكْبَرُ أشْهَدُ أنِّي عَبْدُ الله ورسُولُهُ ثُمَّ أمَرَ بِلاَلاً فَنادَى بالنَّاسِ إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلاَّ نَفْسٌ مُسلِمةٌ وإنَّ الله لَيُؤيِّدُ هذَا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفَاجِرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.

وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي الْيَمَان الحكم ابْن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
وَالْآخر: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر ابْن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْقدر عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد، وَنَظِير هَذَا الحَدِيث عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ قد مر فِيمَا قبل فِي: بابُُ لَا يُقَال فلَان شَهِيد.

قَوْله: ( شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، لم يعين المشهد، فَزعم ابْن إِسْحَاق والواقدي وَآخَرُونَ: أَن هَذَا كَانَ بِأحد، وَاسم الرجل: قزمان، وَهُوَ مَعْدُود فِي جملَة الْمُنَافِقين، وَكَانَ تخلف عَن أحد فَعَيَّرْته النِّسَاء، فَلَمَّا احفضنه خرج وَقتل سَبْعَة ثمَّ جرح فَقتل نَفسه، ورد عَلَيْهِم بِأَن قصَّة قزمان كَانَت بِأحد، وَقد سلف ذكرهَا فِيمَا قبل.
وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا فَكَانَ بِخَيْبَر، كَمَا ذكره البُخَارِيّ، وَلِهَذَا ذكر فِي بعض النّسخ: شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَر، فَقَالَ لرجل ... إِلَى آخِره، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لِأَنَّهُمَا قصتان.
قَوْله: ( فَلَمَّا حضر الْقِتَال) قَالَ الْكرْمَانِي: بِالرَّفْع وَالنّصب.
قلت: وَجه الرّفْع على أَنه فَاعل حضر، وَوجه النصب على المفعولية على التَّوَسُّع، وَفِي: حضر، ضمير يرجع إِلَى الرجل، وَهُوَ فَاعله.
قَوْله: ( الَّذِي قلت: إِنَّه من أهل النَّار) ويروى الَّذِي قلت لَهُ: إِنَّه، أَي: الَّذِي قلت فِيهِ، وَاللَّام بِمَعْنى: فِي قَوْله: ( فَكَأَن بعض النَّاس أَرَادَ) ويروى: فكاد بعض النَّاس، من أَفعَال المقاربة.
قَوْله: ( أَن يرتاب) كَذَا فِي الأَصْل بِإِثْبَات: أَن، وإثباتها مَعَ: كَاد، قَلِيل.
قَالَ الْكرْمَانِي: ويرتاب أَي: يشك فِي صدق رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: يرْتَد عَن دينه.
قَوْله: ( فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( إلاَّ نفس مسلمة) يدل على أَن الرجل قد ارتاب وَشك حِين أَصَابَته الْجراحَة، وَقيل: هَذَا رجل ظَاهر الْإِسْلَام قتل نَفسه، وَظَاهر النداء عَلَيْهِ يدل على أَنه كَانَ لَيْسَ مُسلما، وَالْمُسلم لَا يُخرجهُ قتل نَفسه عَن كَونه مُسلما فَلَا يحكم بِكُفْرِهِ، وَيصلى عَلَيْهِ.
وَأجِيب: عَن ذَلِك بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطلع من أمره على سره: فَعلم بِكُفْرِهِ لِأَن الْوَحْي عِنْده عتيد.
قَوْله: { إِن الله ليؤيد} ( آل عمرَان: 31) .
ويروى: يأيد، بِدُونِ: اللَّام، وَيجوز فِي: إِن، هَذِه الْفَتْح وَالْكَسْر وَقد قرىء فِي السَّبْعَة: { إِن الله يبشرك} ( آل عمرَان: 93 و 54) .
فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّا لَا نستعين بمشرك، رَوَاهُ مُسلم.
قلت: لَا تعَارض، لِأَن الْمُشرك غير الْمُسلم الْفَاجِر، رُوِيَ هَذَا أَيْضا عَن الشَّافِعِي، أَو يُقَال: إِنَّه خَاص بذلك الْوَقْت، وَقد اسْتَعَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِصَفْوَان بن أُميَّة فِي هوَازن، واستعار مِنْهُ مائَة درع بأداتها، وَخرج مَعَه صَفْوَان حَتَّى قَالَت لَهُ هوَازن: تقَاتل مَعَ مُحَمَّد وَلست على دينه؟ فَقَالَ: رب من قُرَيْش خير من رب من هوَازن،.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: قتال صَفْوَان مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُعَارض قَوْله: ( إِنَّا لَا نستعين بمشرك) .

     وَقَالَ  بَعضهم: هِيَ تَفْرِقَة لَا دَلِيل عَلَيْهَا، وَلَا أثر.
قلت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد علم بِالْوَحْي أَنه لَا بُد من إِسْلَامه، وَلِهَذَا أعْطى لَهُ من الْغَنَائِم يَوْم حنين شَيْئا كثيرا، ثمَّ أسلم وَالله أعلم.
وَمن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله ليؤيد ... الحَدِيث، اسْتحْسنَ الْعلمَاء الدُّعَاء للسلاطين بالتأييد، وَشبهه من أهل الْخَيْر من حَيْثُ تأييدهم للدّين لَا من أَحْوَالهم الْخَارِجَة.