فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال

( بابُُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمانِ فِي الأَعْمَالِ)

أَي: هَذَا بابُُ تفاضل أهل الْإِيمَان، وَالْأَصْل: هَذَا بابُُ فِي بَيَان تفاضل أهل الْإِيمَان فِي أَعْمَالهم، وتفاضل، مجرور بِإِضَافَة الْبابُُ إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ.
وَقَوله: ( فِي الْأَعْمَال) خَبره، وَيكون الْبابُُ مُضَافا إِلَى جملَة، وَقَوله: فِي الْأَعْمَال يتَعَلَّق بتفاضل.
أَو يتَعَلَّق بمقدر نَحْو: الْحَاصِل، وَكلمَة: فِي، للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل) أَي: التَّفَاضُل الْحَاصِل بِسَبَب الْأَعْمَال.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الأول ثَلَاث خِصَال، وَالنَّاس متفاوتون فِيهَا، والفاضل من اسْتكْمل الثَّلَاث فقد حصل فِيهِ التَّفَاضُل فِي الْعَمَل، وَهَذَا الْبابُُ أَيْضا فِي التَّفَاضُل فِي الْعَمَل.



[ قــ :22 ... غــ :22 ]
- حدّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدّثني مَالِكٌ عَن عَمْرِو بنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَن أبِيهِ عَن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي رَضِي الله عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ يدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُم يَقولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَياءِ أَو الحَيَاةِ شَكَّ مَالِكٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي جانِب السَّيْلِ أَلَمْ تَرَ أَنَّها تَخْرُجُ صَفَرَاءَ مُلْتَوِيَةً..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن الْمَذْكُور فِيهِ هُوَ: أَن الْقَلِيل جدا من الْإِيمَان يخرج صَاحبه من النَّار والتفاوت فِي شَيْء فِيهِ الْقلَّة وَالْكَثْرَة ظَاهر وَهُوَ عين التَّفَاضُل، لَا يُقَال: الحَدِيث إِنَّمَا يدل على تفاضلهم فِي ثَوَاب الْأَعْمَال لَا فِي نفس الْأَعْمَال، إِذْ الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان أَن بعض الْمُؤمنِينَ يدْخلُونَ الْجنَّة أول الْأَمر، وَبَعْضهمْ يدْخلُونَ آخرا لأَنا نقُول: يدل على تفَاوت النَّاس فِي الْأَعْمَال أَيْضا، لِأَن الْإِيمَان: إِمَّا التَّصْدِيق وَهُوَ عمل الْقلب، وَإِمَّا التَّصْدِيق مَعَ الْعَمَل، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ قَابل للتفاوت، إِذْ مِثْقَال الْحبَّة إِشَارَة إِلَى مَا هُوَ أقل مِنْهُ أَو تفَاوت الثَّوَاب مُسْتَلْزم لتَفَاوت الْأَعْمَال شرعا، وَيحْتَمل أَن يُرَاد من الْأَعْمَال ثَوَاب الْأَعْمَال، إِمَّا تجوزاً بِإِطْلَاق السَّبَب وَإِرَادَة الْمُسَبّب، وَإِمَّا إضماراً بِتَقْدِير لفظ الثَّوَاب مُضَافا إِلَيْهَا.

( بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن عبد الله أبي أويس بن عبد الله بن أويس بن مَالك بن أبي عَامر الأصبحي، عَم مَالك بن أنس أخي الرّبيع وَأنس وَأبي سُهَيْل نَافِع أَوْلَاد مَالك بن أبي عَامر؛ وَإِسْمَاعِيل هَذَا ابْن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس، سمع: خَاله وأباه وأخاه عبد الْمجِيد وَإِبْرَاهِيم بن سعد وَسليمَان بن بِلَال وَآخَرين، روى عَنهُ: الدَّارمِيّ وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهم من الْحفاظ، وروى مُسلم أَيْضا عَن رجل عَنهُ، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَلم يخرج لَهُ النَّسَائِيّ لِأَنَّهُ ضعفه،.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق وَكَانَ مغفلاً،.

     وَقَالَ  يحيى بن معِين: هُوَ ووالده ضعيفان، وَعنهُ: يسرقان الحَدِيث، وَعنهُ: إِسْمَاعِيل صَدُوق ضَعِيف الْعقل لَيْسَ بذلك، يَعْنِي: أَنه لَا يحسن الحَدِيث وَلَا يعرف أَن يُؤَدِّيه وَيقْرَأ فِي غير كِتَابه، وَعنهُ: مختلط يكذب لَيْسَ بِشَيْء، وَعنهُ: يُسَاوِي فلسين، وَعنهُ: لَا بَأْس بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمد: قَالَ أَبُو الْقَاسِم اللالكائي: بَالغ النَّسَائِيّ فِي الْكَلَام عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى تَركه، وَلَعَلَّه بَان لَهُ مَا لم يبن لغيره، لِأَن كَلَام هَؤُلَاءِ كلهم يؤول إِلَى أَنه ضَعِيف.
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: لَا اخْتَارَهُ فِي الصَّحِيح.
.

     وَقَالَ  ابْن عدي: روى عَن خَاله مَالك أَحَادِيث غرائب لَا يُتَابِعه أحد عَلَيْهَا.
وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن معِين وَأحمد، وَالْبُخَارِيّ يحدث عَنهُ بالكثير وَهُوَ خير من أَبِيه،.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: عيب على البُخَارِيّ وَمُسلم إخراجهما حَدِيثه وَقد احتجا بِهِ مَعًا، وغمزه من يحْتَاج إِلَى كَفِيل فِي تَعْدِيل نَفسه، أَعنِي: النَّضر بن سَلمَة، أَي: فَإِنَّهُ قَالَ: كَذَّاب.
قلت: قد غمزه من لَا يحْتَاج إِلَى كَفِيل، وَمن قَوْله حجَّة مَقْبُولَة.
وَقد أخرجه البُخَارِيّ عَن غَيره أَيْضا، فاللين الَّذِي فِيهِ يُجبر إِذن.
مَاتَ فِي سنة سِتّ، وَيُقَال: فِي رَجَب سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: مَالك بن أنس، وَقد تقدم ذكره.
الثَّالِث: عَمْرو، بِفَتْح الْعين، ابْن يحيى بن عمَارَة، وَوَقع بِخَط النَّوَوِيّ فِي شَرحه عُثْمَان وَهُوَ تَحْرِيف، ابْن أبي حسن تَمِيم بن عَمْرو، وَقيل: يحيى بن عَمْرو، حَكَاهُ الذَّهَبِيّ فِي الصَّحَابَة، ابْن قيس بن يحرث بن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن النجار الْأنْصَارِيّ الْمَازِني الْمدنِي روى عَن أَبِيه وَعَن غَيره من التَّابِعين، وَعنهُ: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَغَيره من التَّابِعين وَغَيرهم، والأنصاري من أقرانه، وروى عَن يحيى بن كثير وَهُوَ من أقرانه أَيْضا، وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ، توفّي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة.
وَعمارَة صَحَابِيّ بَدْرِي عَقبي، ذكره أَبُو مُوسَى وَأَبُو عمر، وَفِيه نظر.
نعم، أَبوهُ صَحَابِيّ عَقبي بَدْرِي،.

     وَقَالَ  ابْن سعد: وَشهد الخَنْدَق وَمَا بعد هَذَا، وَأم عَمْرو هَذَا هِيَ أم النُّعْمَان بنت أبي حنة، بالنُّون، ابْن عَمْرو بن غزيَّة بن عَمْرو بن عَطِيَّة ابْن خنساء بن مندول بن عَمْرو بن غَانِم بن مَازِن بن النجار.
الرَّابِع: أَبُو يحيى بن عُثْمَان بن أبي حسن الْأنْصَارِيّ الْمَازِني الْمدنِي، سمع: أَبَا سعيد وَعبد الله بن زيدذ، وَعنهُ ابْنه وَالزهْرِيّ وَغَيرهمَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْخَامِس: أَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ.

( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) : أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَفِي صفة الْجنَّة وَالنَّار عَن وهيب بن خَالِد، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن هَارُون عَن ابْن وهب عَن مَالك، وَعَن أبي بكر عَن عَفَّان عَن وهيب، وَعَن حجاج ابْن الشَّاعِر عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد بن عبد الله ثَلَاثَتهمْ عَن عَمْرو بن يحيى بِهِ، وَوَقع هَذَا الحَدِيث للْبُخَارِيّ عَالِيا بِرَجُل عَن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا.
وَهَذَا الحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد وَافق إِسْمَاعِيل على رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عبد الله بن وهب ومعن بن عِيسَى عَن مَالك، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ غَرِيب صَحِيح، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل: ( يدْخل الله) ، وَزَاد من طَرِيق معن: ( يدْخل من يَشَاء برحمته) ، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيّ على طَرِيق ابْن وهب.

( بَيَان اللُّغَات) قَوْله: ( مِثْقَال حَبَّة) المثقال: كالمقدار لفظا وَمعنى، مفعال من الثّقل، وَفِي ( الْعبابُ) : مِثْقَال الشَّيْء مِيزَانه من مثله، وَقَوله تَعَالَى: { مِثْقَال ذرة} ( النِّسَاء: 40) أَي: زنة ذرة، قَالَ:
( وكلا يوافيه الْجَزَاء بمثقال)

أَي: بِوَزْن.
وَحكى أَبُو نصر: ألْقى عَلَيْهِ مثاقيله؛ أَي مؤونته، والثقل ضد الخفة، والمثقال فِي الْفِقْه من الذَّهَب عبارَة عَن اثْنَيْنِ وَسبعين شعيرَة، قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: ذكر فِي ( الِاخْتِيَار) أَن المثقال عشرُون قيراطاً وَكَذَا ذكر فِي ( الْهِدَايَة) وَفِي ( الْعبابُ) : القيراط مَعْرُوف ووزنه يخْتَلف باخْتلَاف الْبِلَاد، فَهُوَ عِنْد أهل مَكَّة، حرسها الله تَعَالَى: ربع سدس الدِّينَار، وَعند أهل الْعرَاق: نصف عشر الدِّينَار.
قلت: ذكر الْفُقَهَاء أَن القيراط: طسوجتان، والطسوجة: شعيرتان، والشعيرة: ذرتان، والذرة: فتيلتان، والفتيلة: شعرتان.
وَأما المُرَاد هَهُنَا من المثقال فقد قيل: هُوَ وزن مُقَدّر، الله أعلم بِقَدرِهِ، وَلَيْسَ المُرَاد الْمُقدر هَذَا الْمَعْلُوم، فقد جَاءَ مُبينًا، وَكَانَ فِي قلبه من الْخَيْر مَا يزن برة، والحبة، بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: وَاحِدَة الْحبّ الْمَأْكُول من الْحِنْطَة وَنَحْوهَا، وَفِي ( الْمُحكم) وَجمع الْحبَّة حبات وحبوب وَحب وحبان، الْأَخِيرَة نادرة.
قَوْله: ( من خَرْدَل) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة: هُوَ نَبَات مَعْرُوف يشبه الشَّيْء الْقَلِيل البليغ فِي الْقلَّة، بذلك يَعْنِي: يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه أقل قدر من الْإِيمَان،.

     وَقَالَ  فِي ( الْعبابُ) : الْخَرْدَل مَعْرُوف واحدته: خردلة؛ قَوْله: ( فِي نهر الْحيَاء) كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة بِالْمدِّ، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَلَا وَجه لَهُ كَمَا نبه عَلَيْهِ القَاضِي، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا بِالْقصرِ، وَعَلِيهِ الْمَعْنى، لِأَن المُرَاد كل مَا يحصل بِهِ الْحَيَاة، والحيا بِالْقصرِ هُوَ الْمَطَر، وَبِه يحصل حَيَاة النَّبَات، فَهُوَ أليق بِمَعْنى الْحَيَاة من الْحيَاء الْمَمْدُود الَّذِي بِمَعْنى الخجل، ونهر الْحَيَاة مَعْنَاهُ المَاء الَّذِي يحيى من انغمس فِيهِ.
قَوْله: ( كَمَا تنْبت الحِبَّة) بِكَسْر الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، بذر العشب، وَجمعه حبب، كقربة وَقرب.
وَيحْتَمل أَن يكون اللَّام للْعهد، وَيُرَاد بِهِ: حَبَّة بقلة الحمقاء، لِأَن شَأْنه أَن ينْبت سَرِيعا على جَانب السَّيْل فيتلفه السَّيْل، ثمَّ ينْبت فيتلفه السَّيْل، وَلِهَذَا سميت بالحمقاء، لِأَنَّهُ لَا تَمْيِيز لَهَا فِي اخْتِيَار المنبت.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الْحبَّة، بِالْكَسْرِ: بذور الصَّحرَاء مِمَّا لَيْسَ بقوت، وَفِي الحَدِيث يَنْبُتُونَ كَمَا تنْبت الْحبَّة فِي حميل السَّيْل، وَتسَمى: الرجلة، بِكَسْر الرَّاء وَالْجِيم، بقلة الحمقاء لِأَنَّهَا لَا تنْبت إلاَّ فِي المسيل.
.

     وَقَالَ  الْكسَائي: هُوَ حب الرياحين، فَفِي بعض الرِّوَايَات فِي حميل السَّيْل: وَهُوَ مَا يحملهُ السَّيْل من طين وَنَحْوه، قيل: فَإِذا اتّفق فِيهِ الْحبَّة واستقرت على شط مجْرى السَّيْل تنْبت فِي يَوْم وَلَيْلَة، وَهِي أسْرع نابتة نباتاً.
وَفِي ( الْمُحكم) : الْحبَّة بذور الْبُقُول والرياحين، وَاحِدهَا حب، وَقيل: إِذا كَانَت الْحُبُوب مُخْتَلفَة من كل شَيْء فَهِيَ حَبَّة، وَقيل: الْحبَّة نبت ينْبت فِي الْحَشِيش صغَار، وَقيل: مَا كَانَ لَهُ حب من النَّبَات فاسم ذَلِك الْحبّ الْحبَّة،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي: الْحبَّة، بِالْكَسْرِ: جَمِيع بذور النَّبَات، واحدتها حَبَّة، بِالْفَتْح.
وَعَن الْكسَائي: أما الْحبّ فَلَيْسَ إلاَّ الْحِنْطَة وَالشعِير، واحدتها حَبَّة بِالْفَتْح، وَإِنَّمَا افْتَرقَا فِي الْجمع؛ والحبة: بذر كل نَبَات ينْبت وَحده من غير أَن يبذر، وكل مَا بذر فبذره حَبَّة، بِالْفَتْح.
.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: مَا كَانَ لَهُ حب من النبت فاسمه حَبَّة إِذا جمع الْحبَّة،.

     وَقَالَ  أَبُو زِيَاد: كل مَا يبس من البقل كُله ذكوره وأحراره يُسمى: الْحبَّة إِذا سقط على الأَرْض وتكسر، وَمَا دَامَ قَائِما بعد يبسه فَإِنَّهُ يُسمى القت.
وَفِي ( الغريبين) : حب الْحِنْطَة يُسمى حَبَّة بِالتَّخْفِيفِ، والحبة، بِكَسْر الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء اسْم جَامع لحبوب الْبُقُول الَّتِي تَنْتَشِر إِذا هَاجَتْ، ثمَّ إِذا مطرَت فِي قَابل تنْبت.
وَفِي ( الْعبابُ) : الْحبَّة بِالْكَسْرِ بذور الصَّحرَاء، وَالْجمع الحبب.
قَوْله: فِي جَانب السَّيْل، كَذَا هَهُنَا، وَجَاء: حميل، بدل: جَانب، وَفِي رِوَايَة وهيب: حماة السَّيْل، والحميل، بِمَعْنى الْمَحْمُول، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ من طين أَو غثاء، والحمأة مَا تغير لَونه من الطين، وَكله بِمَعْنى.
فَإِذا اتّفق فِيهِ حَبَّة على شط مجْرَاه فَإِنَّهَا تنْبت سَرِيعا.
قَوْله: ( صفراء) تَأْنِيث الْأَصْفَر من الاصفرار، وَهُوَ من جنس الألوان للرياحين، وَلِهَذَا تسر الناظرين، وَسيد رياحين الْجنَّة: الْحِنَّاء، وَهُوَ أصفر.
قَوْله: ( ملتوية) أَي: منعطفة منثنية، وَذَلِكَ أَيْضا يزِيد الريحان حسنا، يَعْنِي اهتزازه وتميله، وَالله تَعَالَى أعلم.

( بَيَان الْإِعْرَاب) : قَوْله: ( يدْخل أهل الْجنَّة) فعل وفاعل.
وَلَفْظَة: أهل، مُضَافَة إِلَى الْجنَّة، وَالْجنَّة الثَّانِيَة بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول، وَأَصله فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الْجنَّة محدودة، وَكَانَ الْحق أَن يُقَال: دخلت فِي الْجنَّة، كَمَا فِي قَوْلك: دخلت فِي الدَّار لِأَنَّهَا محدودة، إلاَّ أَنهم حذفوا حرف الْجَرّ اتساعاً، وأوصلوا الْفِعْل إِلَيْهِ ونصبوه نصب الْمَفْعُول بِهِ.
وَذهب الْجرْمِي: إِلَى أَنه فعل مُتَعَدٍّ، نصب الدَّار كنحو: بنيت الدَّار، وَقد دفعُوا قَوْله بِأَن مصدره يَجِيء على فعول، وَهُوَ من مصَادر الْأَفْعَال اللَّازِمَة، نَحْو: قعد قعُودا، وَجلسَ جُلُوسًا، وَلِأَن مُقَابِله لَازم.
أَعنِي: خرجت، قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ غير مطرد، لِأَن ذهب لَازم وَمَا يُقَابله جَاءَ متعدٍ، قَالَ الله تَعَالَى: { أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} ( النِّسَاء: 90) قَوْله: وَأهل النَّار، كَلَام إضافي عطف على الْأَهْل الأول، وَالتَّقْدِير: وَيدخل أهل النَّار النَّار، وَالْكَلَام فِي النَّار الثَّانِيَة مثل الْكَلَام فِي الْجنَّة الثَّانِيَة.
قَوْله: ( ثمَّ يَقُول الله عز وَجل) كلمة: ثمَّ، هَهُنَا وَاقعَة فِي موقعها، وَهُوَ التَّرْتِيب مَعَ المهلة.
قَوْله: ( أخرجُوا) بِفَتْح الْهمزَة، لِأَنَّهُ أَمر من الْإِخْرَاج، وَهُوَ خطاب للْمَلَائكَة.
وَقَوله: ( من كَانَ فِي قلبه) إِلَى آخِره ... جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول لقَوْله: أخرجُوا، و: ( من) ، مَوْصُولَة، وَقَوله: ( كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة) صلتها، و: ( مِثْقَال حَبَّة) ، كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ وَخَبره هُوَ: قَوْله: ( فِي قلبه) مقدما، وَقيل: يجوز أَن يكون: أخرجُوا، بِضَم الْهمزَة من الْخُرُوج، فعلى هَذَا يكون من، منادى قدحذف مِنْهُ حرف النداء، وَالتَّقْدِير: أخرجُوا يَا من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة، وَقَوله: ( من خَرْدَل) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف وَهُوَ: حَاصِلَة، وَالتَّقْدِير: مِثْقَال حَبَّة حَاصِلَة من خَرْدَل، وَهِي فِي مَحل الْجَرّ على أَنَّهَا صفة لمجرور، وَقَوله: ( من إِيمَان) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف آخر، وَالتَّقْدِير: من خَرْدَل حَاصِل من إِيمَان، وَهُوَ أَيْضا فِي مَحل الْجَرّ نَحْوهَا، وَيجوز أَن تتَعَلَّق: من، هَذِه بقوله: من كَانَ، وَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق بِفعل وَاحِد حرفا جرٍ من جنس وَاحِد.
فَافْهَم.
قَوْله: ( فَيخْرجُونَ مِنْهَا) أَي: من النَّار، وَالْفَاء فِيهِ للاستئناف، تَقْدِيره: فهم يخرجُون، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { كن فَيكون} ( الْبَقَرَة: 117 وَغَيرهَا) قَوْله: ( قد اسودوا) جملَة قد وَقعت حَالا، أَي: صَارُوا سُودًا كالفحم من تَأْثِير النَّار.
قَوْله: ( فيلقون) على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة معطوفة على الْجُمْلَة الأولى بِالْفَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرْتِيب، قَوْله: ( شكّ مَالك) جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: ( فيلقون فِي نهر الْحَيَاة) وَبَين قَوْله: ( فينبتون) ، وَأَرَادَ أَن الترديد بَين الْحيَاء والحياة إِنَّمَا هُوَ من مَالك بن أنس الإِمَام، وَهُوَ الَّذِي شكّ فِيهِ، وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة مَالك، فَأَيهمْ الشاك؟ وَقد فسر هُنَا قَوْله: ( فينبتون) عطف على قَوْله: فيلقون.
قَوْله: ( كَمَا تنْبت الْحبَّة) الْكَاف للتشبيه، وَمَا مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: كنبات الْحبَّة، وَمحل الْجُمْلَة: النصب على أَنَّهَا صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: فينبتون نباتاً كنبات الْحبَّة، قَوْله: ( ألم تَرَ) خطاب لكل من يَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَة.
قَوْله: ( تخرج) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن، قَوْله: ( صفراء ملتوية) حالان متداخلتان أَو مترادفتان.

( بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) قَوْله: ( يدْخل) فعل مضارع وَقد علم أَنه صَالح للْحَال والاستقبال، فَقيل: حَقِيقَة فِي الْحَال، مجَاز فِي الِاسْتِقْبَال، وَقيل: بِالْعَكْسِ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْحَاجِب: الصَّحِيح أَنه مُشْتَرك بَينهمَا لِأَنَّهُ يُطلق عَلَيْهِمَا على السوية، وَهُوَ دَلِيل الِاشْتِرَاك.
وَفِي قَوْله: على السوية، نظر لَا يخفى، ثمَّ إِنَّه لَا يخلص للاستقبال إلاَّ بِالسِّين وَنَحْوه، وَكَانَ الْقيَاس هَهُنَا أَن يذكر بأداة مخلصة للاستقبال، لِأَن دُخُول الْجنَّة وَالنَّار إِنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِقْبَال، وَلكنه مُحَقّق الْوُقُوع ذكره بِصُورَة الْحَال.
قَوْله: ( من إِيمَان) ذكره مُنْكرا لِأَن الْمقَام يَقْتَضِي التقليل، وَلَو عرف لم يفد ذَلِك، فَإِن قلت: فيكفيه الْإِيمَان بِبَعْض مَا يجب الْإِيمَان بِهِ، لِأَنَّهُ إيمانٌ مَا.
قلت: لَا يَكْفِيهِ لِأَنَّهُ علم، من عرف الشَّرْع أَن المُرَاد من الْإِيمَان هُوَ الْحَقِيقَة الْمَعْهُودَة عرف أَو نكر.
قَوْله: ( مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل) ، من بابُُ التَّمْثِيل ليَكُون عياراً فِي الْمعرفَة، وَلَيْسَ بعيار فِي الْوَزْن، لِأَن الْإِيمَان لَيْسَ بجسم يحصره الْوَزْن أَو الْكَيْل، لَكِن مَا يشكل من الْمَعْقُول قد يرد إِلَى عيار المحسوس ليفهم، وَيُشبه بِهِ ليعلم، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنه يَجْعَل عمل العَبْد، وَهُوَ عرض فِي جسم على مِقْدَار الْعَمَل عِنْد الله، ثمَّ يُوزن وَيدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ مُبينًا، وَكَانَ فِي قلبه من الْخَيْر مَا يزن برة.
.

     وَقَالَ  إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الصُّحُف الْمُشْتَملَة على الْأَعْمَال يزنها الله تَعَالَى على قدر أجور الْأَعْمَال، وَمَا يتَعَلَّق بهَا من ثَوَابهَا وعقابها، وَجَاء بِهِ الشَّرْع وَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يحيله، وَيُقَال: للوزن مَعْنيانِ: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر تَمْثِيل الْأَعْرَاض بجواهر، فَيجْعَل فِي كفة الْحَسَنَات جَوَاهِر بيض مشرقة، وَفِي كفة السَّيِّئَات جَوَاهِر سود مظْلمَة.
وَحكى الزّجاج وَغَيره من الْمُفَسّرين من أهل السّنة أَنه: إِنَّمَا يُوزن خَوَاتِيم الْأَعْمَال، فَإِن كَانَت خَاتِمَة عمله حسنا جوزي بِخَير، وَمن كَانَت خَاتِمَة عمله شرا جوزي بشر.
ثمَّ علم: أَن المُرَاد بِحَبَّة الْخَرْدَل زِيَادَة على أصل التَّوْحِيد، وَقد جَاءَ فِي الصَّحِيح بَيَان ذَلِك، فَفِي رِوَايَة فِيهِ: ( اخْرُجُوا من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَعمل من الْخَيْر مَا يزن كَذَا) ، ثمَّ بعد هَذَا يخرج مِنْهَا من لم يعْمل خيرا قطّ غير التَّوْحِيد،.

     وَقَالَ  القَاضِي: هَذَا هُوَ الصَّحِيح، إِذْ معنى الْخَيْر هَهُنَا أَمر زَائِد على الْإِيمَان، لِأَن مجرده لَا يتجزى، وَإِنَّمَا يتجزى الْأَمر الزَّائِد عَلَيْهِ وَهِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة، من: ذكر خَفِي، أَو شَفَقَة على مِسْكين، أَو خوف من الله تَعَالَى، وَنِيَّة صَادِقَة فِي عمل وَشبهه.
وَذكر القَاضِي عَن قوم أَن الْمَعْنى فِي قَوْله: من إِيمَان وَمن خير: مَا جَاءَ مِنْهُ أَي: من الْيَقِين، إلاَّ أَنه قَالَ: المُرَاد ثَوَاب الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق، وَبِه يَقع التَّفَاضُل، فَإِن اتبعهُ بِالْعَمَلِ عظم ثَوَابه، وَإِن كَانَ على خلاف ذَلِك نقص ثَوَابه.
فَإِن قلت: كَيفَ يعلمُونَ مَا كَانَ فِي قُلُوبهم فِي الدُّنْيَا من الْإِيمَان ومقداره؟ قلت: لَعَلَّه بعلامات كَمَا يعلمُونَ أَنهم من أهل التَّوْحِيد.
قَوْله: ( كَمَا تنْبت الْحبَّة) الخ فِيهِ تَشْبِيه مُتَعَدد، وَهُوَ التَّشْبِيه من حَيْثُ الْإِسْرَاع، وَمن حَيْثُ ضعف النَّبَات، وَمن حَيْثُ الطراوة وَالْحسن، والمنى: من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من الْإِيمَان يخرج من ذَلِك المَاء نضراً حسنا منبسطاً متبختراً كخروج هَذِه الريحانة من جَانب السَّيْل صفراء متميلة، وَهَذَا يُؤَيّد كَون اللَّام فِي الْحبَّة للْجِنْس، لِأَن بقلة الحمقاء لَيست صفراء؛ إلاَّ أَن يقْصد بِهِ مُجَرّد الْحسن والطراوة، وَقد ذكرنَا وَجه كَونهَا للْعهد.

( بَيَان استنباط الْفَوَائِد) الأولى: فِيهِ حجَّة لأهل السّنة على المرجئة حَيْثُ علم مِنْهُ دُخُول طَائِفَة من عصارة الْمُؤمنِينَ النَّار، إِذْ مَذْهَبهم أَنه لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة، فَلَا يدْخل العَاصِي النَّار.
الثَّانِيَة: فِيهِ حجَّة على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ دلّ على عدم وجوب تخليد العَاصِي فِي النَّار.
الثَّالِثَة: فِيهِ دَلِيل على تفاضل أهل الْإِيمَان فِي الْأَعْمَال.
الرَّابِعَة: مَا قيل: إِن الْأَعْمَال من الْإِيمَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( خَرْدَل من إِيمَان) ، وَالْمرَاد مَا زَاد على أصل التَّوْحِيد.
قلت: لَا دلَالَة فِيهِ على ذَلِك أصلا على مَا لَا يخفى.


قَالَ وُهَيْبٌ حَدثنَا عَمْرٌ والحَيَاةِ.

     وَقَالَ  خَرْدَلٍ مِنْ خيْرٍ.

الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه.
الأول: أَن هَذَا من بابُُ تعليقات البُخَارِيّ، وَلكنه أخرجه مُسْندًا فِي كتاب الرقَاق عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد بِهِ، وسياقه اتم من سِيَاق مَالك، لكنه قَالَ: ( من خَرْدَل من إِيمَان) كَرِوَايَة مَالك، وَقد اعْترض على البُخَارِيّ بِهَذَا، وَلَا يرد عَلَيْهِ لِأَن أَبَا بكر بن أبي شيبَة أخرج هَذَا الحَدِيث فِي مُسْنده عَن عَفَّان بن مُسلم عَن وهيب فَقَالَ: ( من خَرْدَل من خير) ، كَمَا علقه البُخَارِيّ، وَقد أخرج مُسلم عَن أبي بكر هَذَا لَكِن لم يسق لَفظه.
الثَّانِي: فِي إِيرَاد البُخَارِيّ هَذِه الزِّيَادَة من حَدِيث وهيب هُنَا فَوَائِد.
مِنْهَا: قَول وهيب: حَدثنَا عَمْرو آتِيَا بِلَفْظ التحديث، بِخِلَاف مَالك فَإِنَّهُ أَتَى بِلَفْظَة: عَن، وفيهَا خلاف مَعْرُوف، هَل يدل على الِاتِّصَال وَالسَّمَاع أم لَا؟ فأزال البُخَارِيّ بِهَذِهِ الزِّيَادَة توهم الْخلاف، مَعَ أَن مَالِكًا غير مُدَلّس، وَالْمَشْهُور عِنْد أهل هَذَا الْفَنّ أَن لَفْظَة: عَن، مَحْمُولَة على الِاتِّصَال إِذا لم يكن المعنعن مدلساً.
وَمِنْهَا: إِزَالَة الشَّك الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيث مَالك عَن عَمْرو فِي قَوْله: ( الْحيَاء أَو الْحَيَاة) فَأتى بِهِ وهيب مُجَردا من غير شكّ.
فَقَالَ: نهر الْحَيَاة.
وَمِنْهَا: قَوْله: من خير، وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ.
الثَّالِث: قَوْله: ( الْحَيَاة) بِالْجَرِّ، على الْحِكَايَة، وَالْمعْنَى أَن وهيباً وَافق مَالِكًا فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو بن يحيى بِسَنَدِهِ، وَجزم بقوله: فِي نهر الْحَيَاة وَلم يشك كَمَا شكّ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وَقَالَ خَرْدَل من خير) بجر خَرْدَل أَيْضا على الْحِكَايَة، أَي: قَالَ وهيب فِي رِوَايَته: مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل من خير، فَخَالف مَالِكًا أَيْضا فِي هَذِه اللَّفْظَة كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: ( وهيب) ، بِضَم الْوَاو وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، ابْن خَالِد بن عجلَان الْبَاهِلِيّ، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ، روى عَن: هِشَام بن عُرْوَة وَأَيوب وَسُهيْل وَعَمْرو بن يحيى وَغَيرهم، روى عَنهُ: الْقطَّان وَابْن مهْدي وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَخلق كثير، اتّفق على توثيقه،.

     وَقَالَ  ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث حجَّة، وَكَانَ يملي من حفظه، مَاتَ وَهُوَ ابْن ثَمَان وَخمسين سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَقد سجن فَذهب بَصَره.
قَوْله: ( حَدثنَا عَمْرو) بِفَتْح الْعين، هُوَ عَمْرو بن يحيى الْمَازِني، وَقد مر ذكره عَن قريب.





[ قــ :3 ... غــ :3 ]
- حدّثنا مُحمدُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَن صالِحٍ عنِ ابْن شِهابٍ عَن أبي أُمامَةَ بنِ سَهْلٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ يَقولُ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَا أَنا نائِمٌ رَأْيْتُ الناسَ يُعْرَضُونَ عليَّ وَعَليهمْ قُمُصٌ مِنها مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ ومِنها مَا دُونَ ذلِكِ وعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَميصٌ يَجُرُّهُ قَالُوا فَمَا أَوّلْتَ ذلكَ يَا رسولَ اللَّهِ قَالَ الدِّينَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من جِهَة تَأْوِيل الْقَمِيص بِالدّينِ، وَذكر فِيهِ أَنهم متفاضلون فِي لبسهَا فَدلَّ على أَنهم متفاضلون فِي الْإِيمَان.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: دلّ الحَدِيث على أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان، وَأَن الْإِيمَان وَالدّين بِمَعْنى وَاحِد، وَأَن أهل الْإِيمَان يتفاضلون.
قلت: تفاضلهم فِي الْإِيمَان لَيْسَ فِي نفس الْإِيمَان وَحَقِيقَته، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْمَال الَّتِي يزْدَاد بهَا نور الْإِيمَان، كَمَا عرف فِيمَا مضى.
وَقَوله: الْإِيمَان وَالدّين بِمَعْنى وَاحِد، لَيْسَ كَذَلِك، وَقد أوضحنا الْفرق فِيمَا مضى.

( بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة.
الأول: مُحَمَّد بن عبيد الله، بِالتَّصْغِيرِ، ابْن مُحَمَّد بن زيد بن أبي زيد الْقرشِي الْأمَوِي، مولى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، أَبُو ثَابت الْمدنِي، سمع جمعا من الْكِبَار، وَعنهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ وَغَيرهمَا من الْأَعْلَام، قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق.
الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن عبد الْحَارِث بن زهرَة بن كلاب، سمع: أَبَاهُ وَالزهْرِيّ وَهِشَام بن عُرْوَة وَغَيرهم، روى عَنهُ: شُعْبَة وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وابناه يَعْقُوب وَمُحَمّد وَخلق كثير، قَالَ أَحْمد وَيحيى وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة: ثِقَة،.

     وَقَالَ  أَبُو زرْعَة: كثير الحَدِيث وَرُبمَا أَخطَأ فِي أَحَادِيث، وَقدم بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا وَولي بَيت المَال بهَا لهارون الرشيد، وَأَبوهُ سعد ولي قَضَاء الْمَدِينَة، وَكَانَ من جملَة التَّابِعين، وَكَانَ مولد إِبْرَاهِيم سنة عشرَة وَمِائَة، وَتُوفِّي بِبَغْدَاد سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: صَالح هُوَ ابْن كيسَان أَبُو مُحَمَّد الْغِفَارِيّ الْمدنِي التَّابِعِيّ، لَقِي جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، ثمَّ تلمذ بعد ذَلِك لِلزهْرِيِّ وتلقن مِنْهُ الْعلم، وابتدأ بالتعلم وَهُوَ ابْن تسعين سنة، وَمَات وَهُوَ ابْن مائَة وَسِتِّينَ سنة.
الرَّابِع: ابْن شهَاب، وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَقد تقدم.
الْخَامِس: أَبُو أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة، واسْمه أسعد بن سهل بن حنيف، بِضَم الْمُهْملَة؛ ابْن واهب بن الْعَلِيم بن ثَعْلَبَة بن الْحَارِث بن مجدعة بن عَمْرو بن خُنَيْس بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس، أخي الْخَزْرَج ابْني حَارِثَة بن ثَعْلَبَة العنقاء بن عَمْرو مزيقيا الْخَارِج من الْيمن أَيَّام سيل العرم بن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة بن مَازِن وَهُوَ جماع غَسَّان بن الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان، أخي حمير، أمه حَبِيبَة بنت أبي أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة، وَكَانَ أَبُو أُمَامَة أوصى ببناته إِلَى رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام فزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَبِيبَة سهل بن حنيف فَولدت لَهُ أسعد هَذَا، فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكناه باسم جده لأمه، وكنيته، وبرك عَلَيْهِ، وَمَات سنة مائَة وَهُوَ ابْن نَيف وَتِسْعين سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة عَن الصَّحَابَة، وروى لَهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَثَبت فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن أبي أُمَامَة بن سهل هُوَ ابْن حنيف، ولحاصل أَنه مُخْتَلف فِي صحبته وَلم يَصح لَهُ سَماع، وَإِنَّمَا ذكر فِي الصَّحَابَة لشرف الرِّوَايَة.
السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ، واسْمه سعد بن مَالك، وَقد مر بَيَانه.

( بَيَان لطائف أسناده) .
مِنْهَا: أَنه كَالَّذي قبله فِي أَن رِجَاله مدنيون، وَهَذَا فِي غَايَة الاستطراف إِذْ اقتران إسنادين مدنيين قَلِيل جدا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالتَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة ثَلَاثَة من التابعيين، أَو تابعيين وصحابيين.
فَافْهَم.

( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن مُحَمَّد بن عبيد الله كَمَا ترى، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ عَن يَعْقُوب عَن صَالح، وَفِي فضل عمر رَضِي الله عَنهُ، عَن يحيى بن بكير جَمِيعًا عَن اللَّيْث عَن عقيل، وَفِي التَّعْبِير عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي أُمَامَة عَنهُ، وَرَوَاهُ مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن صَالح، وَعَن الزُّهْرِيّ والحلواني، وَعبد بن حميد عَن يَعْقُوب عَن أَبِيه عَن صَالح عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن أبي أُمَامَة بن سههل بن حنيف عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، وَلم يسمعهُ.

( بَيَان اللُّغَات) .
قَوْله: ( يعرضون عَليّ) أَي: يظهرون لي، يُقَال: عرض الشَّيْء إِذا أبداه وأظهره، وَفِي ( الْعبابُ) عرض لَهُ أَمر كَذَا يعرض بِالْكَسْرِ، أَي: ظهر وَعرضت عَلَيْهِ أَمر كَذَا، وَعرضت لَهُ الشَّيْء أَي: أظهرته لَهُ، وأبرزته إِلَيْهِ، يُقَال: عرضت لَهُ ثوبا، فَكَانَ حَقه، وَذكر فِي هَذِه الْمَادَّة مَعَاني كَثِيرَة جدا، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: وَالْعين وَالرَّاء وَالضَّاد تكْثر فروعها، وَهِي مَعَ كثرتها ترجع إِلَى أصل وَاحِد، وَهُوَ الْعرض الَّذِي يُخَالف الطول، وَمن حقق النّظر ودققه علم صِحَة ذَلِك.
قَوْله: ( قمص) بِضَم الْقَاف وَالْمِيم، جمع: قَمِيص نَحْو: رغيف ورغف، وَيجمع أَيْضا على قمصان وأقمصة، كرغفان وأرغفة.
قَوْله: ( الثدي) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الدَّال، وَتَشْديد الْيَاء، جمع: الثدي، وَهُوَ على وزن فعل، كفلس يجمع على فعول كفلوس، وأصل الثدي الَّذِي هُوَ الْجمع ثدوي، على وزن فعول، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فابدلت الْوَاو يَاء وادغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَت: ثدي، بِضَم الدَّال، ثمَّ ابدلت كسرة من ضمة الدَّال لأجل الْيَاء، فَصَارَ ثدياً، وَجَاء أَيْضا: ثدي، بِكَسْر الثَّاء أَيْضا اتبَاعا لما بعْدهَا من الكسرة، وَجَاء جمعه أَيْضا على: أثد، وَأَصله: أثدي، على وزن أفعل: كيد تجمع على أيدٍ، استثقلت الضمة على الْيَاء فحذفت، فَالتقى ساكنان فحذفت الْيَاء، فَصَارَ: أثد،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الثدي يذكر وَيُؤَنث، وَهِي للْمَرْأَة وَالرجل جَمِيعًا.
وَقيل: يخْتَص بِالْمَرْأَةِ، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُور مَا نَص عَلَيْهِ الْجَوْهَرِي، وَفِي ( كتاب خلق الْإِنْسَان) وَفِي الصَّدْر ثديان وَثَلَاثَة أثد، فَإِذا كثرت فَهِيَ الثدي، يُقَال: امْرَأَة ثدياء إِذا كَانَت عَظِيمَة الثديين، وَلَا يُقَال رجل أثدأ.
قَوْله: ( أولت) من التَّأْوِيل، وَهُوَ تَفْسِير مَا يؤول إِلَيْهِ الشَّيْء، وَالْمرَاد هُنَا التَّعْبِير، وَفِي اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ التَّأْوِيل تَفْسِير الشَّيْء بِالْوَجْهِ الْمَرْجُوح، وَقيل: هُوَ حمل الظَّاهِر على الْمُحْتَمل الْمَرْجُوح بِدَلِيل يصيره راجحاً، وَهَذَا أخص مِنْهُ، وَأما تَفْسِير الْقُرْآن فَهُوَ الْمَنْقُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو عَن الصَّحَابَة، وَأما تَأْوِيله فَهُوَ مَا يسْتَخْرج بِحَسب الْقَوَاعِد الْعَرَبيَّة.

( بَيَان الْإِعْرَاب) : قَوْله: ( بَينا) .
أَصله: بَين، أشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: بَينا، فعلى مشبعة الفتحة قَالَ الشَّاعِر:
( فَبينا نَحن نرقبه أَتَانَا)

أَي: بَين أَوْقَات رقبتنا إِيَّاه، والجمل يُضَاف إِلَيْهَا أَسمَاء الزَّمَان نَحْو: أَتَيْتُك زمن الْحجَّاج أَمِير، ثمَّ حذف الْمُضَاف الَّذِي هُوَ: أَوْقَات، وَولي الظّرْف الَّذِي هُوَ: بَين الْجُمْلَة الَّتِي أُقِيمَت مقَام الْمُضَاف إِلَيْهَا، والأصمعي يستفصح طرح إِذْ وَإِذا فِي جَوَابه، واخرون يَقُولُونَ: بَينا أَنا قَائِم إِذْ جَاءَ أَو إِذا جَاءَ فلَان، وَالَّذِي جَاءَ فِي الحَدِيث هُوَ الفصيح، فَلذَلِك اخْتَارَهُ الْأَصْمَعِي، رَحمَه الله تَعَالَى.
قَوْله: ( أَنا) مُبْتَدأ، أَو ( نَائِم) خَبره، وَقَوله: رَأَيْت النَّاس، جَوَاب بَينا من الرُّؤْيَة بِمَعْنى: الإبصار فَيَقْتَضِي مَفْعُولا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْله: النَّاس، فعلى هَذَا يكون قَوْله: ( يعرضون عَليّ) جملَة حَالية، وَيجوز أَن يكون من الرُّؤْيَا بِمَعْنى الْعلم فَيَقْتَضِي حينئذٍ مفعولين، وهما قَوْله: النَّاس يعرضون عَليّ وَيجوز رفع النَّاس على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره، قَوْله: يعرضون عَليّ، وَالْجُمْلَة مفعول قَوْله رَأَيْت، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
( رَأَيْت النَّاس ينتجعون غيثاً ... فَقلت لصيدح: انتجعي بِلَالًا)

ويروى: سَمِعت النَّاس، وَالْقَائِل هُوَ ذُو الرمة الشَّاعِر الْمَشْهُور، وصيدح علم النَّاقة.
وينتجعون من: انتجعت فلَانا إِذا أَتَيْته تطلب معروفه، وَأَرَادَ ببلال هُوَ: بِلَال بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَاضِي الْبَصْرَة، كَانَ جواداً ممدوحاً رَحمَه الله.
قَوْله: ( وَعَلَيْهِم قمص) جملَة اسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: ( مِنْهَا) أَي: من القمص، وَهُوَ خبر لقَوْله: مَا يبلغ الثدي، وَمَا مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، و: الثدي، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول، يبلغ، وَكَذَلِكَ إِعْرَاب قَوْله: وَمِنْهَا دون ذَلِك، أَي: أقصر، فَيكون: فَوق الثدي لم ينزل إِلَيْهِ وَلم يصل بِهِ لقلته.
قَوْله: ( وَعرض) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَعمر بن الْخطاب، مُسْند إِلَيْهِ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل.
قَوْله: ( وَعَلِيهِ قَمِيص) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
وَقَوله: يجره، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ الْعَائِد إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ، وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي يرجع إِلَى الْقَمِيص، وَالْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة للقميص، وَيجوز أَن يكون محلهَا النصب على الْحَال من الْأَحْوَال المتداخلة، وَقد علم أَن الْجُمْلَة الفعلية المضارعية إِذا وَقعت حَالا وَكَانَت مثبتة تكون بِلَا وَاو.
قَوْله: ( قَالُوا) ، أَي: الصَّحَابَة.
قَوْله: ( ذَلِك) مفعول قَوْله: أولت، قَوْله: ( الدّين) بِالنّصب أَي: أولت الدّين.

( بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) فِيهِ من الفصاحة اسْتِعْمَال جَوَاب بَينا بِدُونِ إِذْ وَإِذ.
وَمِنْهَا: اسْتِعْمَال جمع الْكَثْرَة فِي الثدي لأجل الْمُطَابقَة، وَفِيه من التَّشْبِيه البليغ، وَهُوَ أَنه شبه الدّين بالقميص، وَوجه التَّشْبِيه السّتْر، وَذَلِكَ أَن الْقَمِيص يستر عَورَة الْإِنْسَان ويحجبه من وُقُوع النّظر عَلَيْهَا، فَكَذَلِك الدّين يستره من النَّار ويحجبه عَن كل مَكْرُوه، فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا أَوله الدّين بِهَذَا الِاعْتِبَار.
.

     وَقَالَ  أهل الْعبارَة: الْقَمِيص فِي النّوم مَعْنَاهُ الدّين، وجره يدل على بَقَاء آثاره الجميلة وسننه الْحَسَنَة فِي الْمُسلمين بعد وَفَاته ليُقتدى بهَا،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: مَعْلُوم أَن عمر رَضِي الله عَنهُ، فِي إيمَانه أفضل من عمل من بلغ قَمِيصه ثديه، وتأويله عَلَيْهِ السَّلَام، ذَلِك بِالدّينِ يدل على أَن الْإِيمَان الْوَاقِع على الْعَمَل يُسمى دينا، كالإيمان الْوَاقِع على القَوْل.
.

     وَقَالَ  القَاضِي: أَخذ ذَلِك أهل التَّعْبِير من قَوْله تَعَالَى: { وثيابك فطهر} ( المدثر: 4) يُرِيد بِهِ نَفسك، وَإِصْلَاح عَمَلك وَدينك على تَأْوِيل بَعضهم، لِأَن الْعَرَب تعبر عَن الْعِفَّة بنقاء الثَّوْب والمئزر، وجره عبارَة عَمَّا فضل عَنهُ وانتفع النَّاس بِهِ، بِخِلَاف جَرّه فِي الدُّنْيَا للخيلاء فَإِنَّهُ مَذْمُوم.
فَإِن قيل: يلْزم من الحَدِيث أَن يكون عمر رَضِي الله عَنهُ، أفضل من أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، لِأَن المُرَاد بالأفضل الْأَكْثَر ثَوابًا، والأعمال عَلَامَات الثَّوَاب، فَمن كَانَ دينه أَكثر فثوابه أَكثر، وَهُوَ خلاف الاجماع.
قلت: لَا يلْزم، إِذْ الْقِسْمَة غير حاصرة لجَوَاز قسم رَابِع سلمنَا انحصار الْقِسْمَة، لَكِن مَا خصص الْقسم الثَّالِث بعمر رَضِي الله عَنهُ، وَلم يحصره عَلَيْهِ سلمنَا التَّخْصِيص بِهِ، لكنه معَارض بالأحاديث الدَّالَّة على أَفضَلِيَّة الصّديق رَضِي الله عَنهُ، بِحَسب تَوَاتر الْقدر الْمُشْتَرك بَينهَا، وَمثله يُسمى بالمتواتر من جِهَة الْمَعْنى، فدليلكم آحَاد وَدَلِيلنَا متواتر، سلمنَا التَّسَاوِي بَين الدَّلِيلَيْنِ.
لَكِن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أفضليته وَهُوَ دَلِيل قَطْعِيّ، وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي، وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع، وَهَذَا الْجَواب يُسْتَفَاد من نفس تَقْرِير الدَّلِيل، وَهَذِه قَاعِدَة كُلية عِنْد أهل المناظرة فِي أَمْثَال هَذِه الإيرادات، بِأَن يُقَال: مَا أردته إِمَّا مجمع عَلَيْهِ أَو لَا، فَإِن كَانَ فالدليل مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع وإلاَّ فَلَا يتم الْإِيرَاد إِذْ لَا إِلْزَام إلاَّ بالمجمع عَلَيْهِ.
لَا يُقَال: كَيفَ يُقَال: الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَفضَلِيَّة الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد أنكر ذَلِك طَائِفَة الشِّيعَة والخوارج من العثمانية، لأَنا نقُول: لَا اعْتِبَار بمخالفة أهل الضلال، وَالْأَصْل إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة.

( بَيَان استنباط الْفَوَائِد) مِنْهَا: الدّلَالَة على تفاضل أهل الْإِيمَان، وَمِنْهَا: الدّلَالَة على فَضِيلَة عمر رَضِي الله عَنهُ.
وَمِنْهَا: تَعْبِير الرُّؤْيَا وسؤال الْعَالم بهَا عَنْهَا.
وَمِنْهَا: جَوَاز إِشَاعَة الْعَالم الثَّنَاء على الْفَاضِل من أَصْحَابه إِذا لم يحس بِهِ بإعجاب وَنَحْوه، وَيكون الْغَرَض التَّنْبِيه على فَضله لتعلم مَنْزِلَته ويعامل بمقتضاها، ويرغب الِاقْتِدَاء بِهِ والتخلق بأخلاقه.