فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الخطبة

( بابُُ الخُطْبَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْخطْبَة، بِضَم الْخَاء عِنْد العقد.



[ قــ :4868 ... غــ :5146 ]
- حدَّثنا قَبِيصَةُ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ قَالَ: سمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يقُولُ: جاءَ رجُلاَنٍ مِنَ المَشْرقِ فخَطَبَا، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنّ مِنَ البَيانِ سحْرا.

قيل: لَا وَجه لإدخال هَذَا الحَدِيث فِي كتاب النِّكَاح لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعه.
وَقد أطنب الشُّرَّاح هُنَا فِي الرَّد على قَائِل هَذَا القَوْل بِمَا لَا يجدي، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن خطْبَة الرجلَيْن الْمَذْكُورين عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تخل عَن قصد حَاجَة مَا، وَالْخطْبَة عِنْد الْحَاجة من الْأَمر الْقَدِيم الْمَعْمُول بِهِ لأجل استمالة الْقُلُوب وَالرَّغْبَة فِي الْإِجَابَة، فَمن ذَلِك الْخطْبَة عِنْد النِّكَاح لذَلِك الْمَعْنى.

وَقد ورد فِي تَفْسِير خطْبَة النِّكَاح أَحَادِيث أشهرها مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: علمنَا رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، التَّشَهُّد فِي الصَّلَاة وَالتَّشَهُّد فِي الْحَاجة ... الحَدِيث، وَفِيه التَّشَهُّد فِي الْحَاجة: إِن الْحَمد لله نستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ إِلَى آخِره، وَهَذَا اللَّفْظ التِّرْمِذِيّ، وَلما ذكره قَالَ: حَدِيث حسن، وَترْجم لَهُ بقوله: بابُُ مَا جَاءَ فِي خطْبَة النِّكَاح.
وَأخرجه أَبُو عوَانَة وَابْن حبَان وصححاه.
وَمن ذَلِك اسْتحبَّ الْعلمَاء الْخطْبَة عِنْد النِّكَاح.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِن النِّكَاح جَائِز بِغَيْر خطْبَة، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثورى وَغَيره من أهل الْعلم.
قلت: وأوجبها أهل الظَّاهِر فرضا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب عِنْد تزوج فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وأفعاله على الْوُجُوب، وَاسْتدلَّ الْفُقَهَاء على عدم وُجُوبهَا بقوله فِي حَدِيث سهل بن سعد: قد زوجتها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، وَلم يخْطب ثمَّ إِنَّه خرج الحَدِيث الْمَذْكُور عَن قبيصَة بن عقبَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، ويروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَلَا قدح بِهَذَا لِأَنَّهُمَا بِشَرْط البُخَارِيّ.

وَزيد بن أسلم مولى عمر بن الْخطاب.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْعَزِيز بِمَعْنَاهُ،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.

قَوْله: ( حاء رحلان) وهما: الزبْرِقَان بن بدر التَّمِيمِي وَعَمْرو بن الْأَهْتَم التَّمِيمِي، وَفْدًا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وُجُوه قومهماوساداتهم وأسلما، وَكَانَ فِي سنة تسع من الْهِجْرَة.
قَوْله: ( من الْمشرق) أَرَادَ بِهِ مشرق الْمَدِينَة، وَهُوَ طرف نجد.
قَوْله: ( فخطبا) ، فَقَالَ الزبْرِقَان: يَا رَسُول الله! أَنا سيد تَمِيم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظُّلم وآخذ لَهُم بحقوقهم، وَهَذَا يعلم ذَلِك.
يَعْنِي عمرا فَقَالَ عَمْرو: إِنَّه لشديد الْمُعَارضَة مَانع لجانبه مُطَاع فِي أدانيه، فَقَالَ الزبْرِقَان: وَالله يَا رَسُول الله، لقد علم مني غير مَا قَالَ: وَمَا مَنعه أَن يتَكَلَّم إلاَّ الْحَسَد، فَقَالَ عَمْرو: أَنا أحسدك؟ فوَاللَّه يَا رَسُول الله إِنَّه للئيم الْحَال حَدِيث المَال أمق الْوَلَد مضيع فِي الْعَشِيرَة، وَالله يَا رَسُول الله لقد صدقت فِي الأولى وَمَا كذبت فِي الْأُخْرَى، وَلَكِنِّي رجل إِذا رضيت قلت أحسن مَا علمت، وَإِذا غضِبت قلت أقبح مَا وجدت.
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن من الْبَيَان سحرًا إِن من الْبَيَان سحرًا) .
قَوْله: ( إِن من الْبَيَان سحرًا) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( إِن من الْبَيَان لسحرا) بِاللَّامِ الَّتِي هِيَ للتَّأْكِيد، وَالْبَيَان على نَوْعَيْنِ: بَيَان تقع بِهِ الْإِبَانَة عَن المُرَاد بِأَيّ وَجه كَانَ، وَبَيَان بلاغة وَهُوَ الَّذِي دَخلته الصَّنْعَة بِحَيْثُ يروق السامعين ويستميل بِهِ قُلُوبهم، وَهُوَ الَّذِي يشبه بِالسحرِ إِذا جلب الْقُلُوب وَغلب على النُّفُوس، وَفِي الْحَقِيقَة هُوَ تصنع فِي الْكَلَام وتكلف لتحسينه وَصرف الشَّيْء عَن ظَاهِرَة كالسحر الَّذِي هُوَ تخييل لَا حَقِيقَة لَهُ، والمذموم من هَذَا الْفَصْل أَن يقْصد بِهِ الْبَاطِل واللبس فيوهمك الْمُنكر مَعْرُوفا وَهَذَا مَذْمُوم، وَهُوَ أَيْضا مشبه بِالسحرِ لِأَن السحر صرف الشَّيْء عَن حَقِيقَته.
وَحكى يُونُس أَن الْعَرَب تَقول، مَا سحرك عَن وَجه كَذَا؟ أَي: صرفك، وَرُوِيَ أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب من حَدِيث صَخْر بن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عبد الله بن بُرَيْدَة يرفعهُ: ( إِن من الْبَيَان سحرًا وَإِن من الْعلم جهلا وَإِن من الشّعْر حكما وَإِن من القَوْل عيالاً) .
فَقَالَ صعصعة بن صوحان الْعَبْدي: صدق نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أما قَوْله: إِن من الْبَيَان سحرًا فالرجل يكون عَلَيْهِ الْحق وَهُوَ أَلحن بالحجج من صَاحب الْحق فيسحر الْقَوْم ببيانه فَيذْهب بِالْحَقِّ.
وَأما قَوْله: ( إِن من الْعلم جهلا) ، فَهُوَ أَن يتَكَلَّف الْعَالم إِلَى علمه مَا لم يعلم فيجهل لذَلِك، وَأما قَوْله: ( إِن من الشّعْر حكما) ، فَهِيَ هَذِه المواعظ والأمثال الَّتِي يتعظ بهَا النَّاس، وَلما قَوْله: ( إِن من القَوْل عيالاً) ، فعرضك كلامك على من لَيْسَ من شَأْنه وَلَا يُريدهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: أَن من القَوْل عيلاً، ثمَّ فسره بِمَا ذكرنَا، ثمَّ قَالَ: علت الضَّالة أعيل عيلاً إِذا لم تدر أَي جِهَة تبغيها، كَأَنَّهُ لم يهتد لمن يطْلب فعرضه على من لَا يُريدهُ.