فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إحداد المرأة على غير زوجها

( بابُْ حَدِّ المَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان إحداد الْمَرْأَة على غير زَوجهَا، والإحداد، بِكَسْر الْهمزَة من: أحدت الْمَرْأَة على زَوجهَا تحد فَهِيَ محدة، إِذا حزنت عَلَيْهِ ولبست ثِيَاب الْحزن وَتركت الزِّينَة، وَكَذَلِكَ حدت الْمَرْأَة من الثلاثي تحد من بابُُ: نصر ينصر، وتحد، بِكَسْر الْحَاء من بابُُ: ضرب يضْرب، فَهِيَ: حادة.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: أحدت الْمَرْأَة، أَي: امْتنعت من الزِّينَة والخضاب بعد وَفَاة زَوجهَا، وَكَذَلِكَ حدت حدادا، وَلم يعرف الْأَصْمَعِي إلاَّ: أحدت، فَهِيَ محدة.
وَفِي بعض النّسخ: بابُُ حداد الْمَرْأَة، بِغَيْر همزَة على لُغَة الثلاثي.
وَفِي بَعْضهَا: بابُُ حد الْمَرْأَة، من مصدر الثلاثي، وأبيح للْمَرْأَة الْحداد لغير الزَّوْج ثَلَاثَة أَيَّام وَلَيْسَ ذَلِك بِوَاجِب،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن من مَاتَ أَبوهَا أَو ابْنهَا وَكَانَت ذَات زوج وطالبها زَوجهَا بِالْجِمَاعِ فِي الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي أُبِيح لَهَا الْإِحْدَاد فِيهَا أَنه يقْضِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْجِمَاعِ فِيهَا، وَقَوله: ( على غير زَوجهَا) يَشْمَل كل ميت غير الزَّوْج سَوَاء كَانَ قَرِيبا أَو أَجْنَبِيّا، وَأما الْحداد لمَوْت الزَّوْج فَوَاجِب عندنَا، سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة، وَكَذَلِكَ يجب على الْمُطلقَة طَلَاقا بَائِنا مُطلقًا.
.

     وَقَالَ  مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجب، وَلَا يجب على ذِمِّيَّة وَلَا صَغِيرَة عندنَا، خلافًا لَهُم.
فَإِن قلت: لم يُقيد فِي التَّرْجَمَة بِالْمَوْتِ؟ قلت: قَالَ بَعضهم: لم يُقَيِّدهُ فِي التَّرْجَمَة بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِهِ عرفا، وَظَاهر التَّرْجَمَة يُنَافِي مَا قَالَه، فَكَانَ البُخَارِيّ لَا يرى أَنه مُخْتَصّ بِهِ عِنْده، فَترك التَّقْيِيد بِهِ.

[ قــ :1232 ... غــ :1279 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حَدثنَا سَلَمَةُ بنُ عَلْقَمَةَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَ تُوُفِّيَ ابنٌ لأِمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فلَمَّا كانَ اليَوْمُ الثالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وقالَتْ نُهِينَا أنْ نُحِدَّ أكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إلاَّ بِزَوْجٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ أَن أم عَطِيَّة أحدث لابنها، فَقَوله فِي التَّرْجَمَة: على غير زَوجهَا، يصدق عَلَيْهِ.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل بن لَاحق أَبُو إِسْمَاعِيل، مر فِي: بابُُ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رب مبلغ.
الثَّالِث: سَلمَة بن عَلْقَمَة التَّمِيمِي، مر فِي: بابُُ من لم يتَشَهَّد فِي سَجْدَتي السَّهْو.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين، تكَرر ذكره.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( يَوْم الثَّالِث) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من بابُُ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصّفة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: ( فِي الْيَوْم الثَّالِث) على الأَصْل.
قَوْله: ( بصفرة) الصُّفْرَة فِي الأَصْل لون الْأَصْفَر، وَالْمرَاد هَهُنَا نوع من الطّيب فِيهِ صفرَة.
قَوْله: ( نهينَا) ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: ( أمرنَا أَن لَا نحد على هَالك فَوق ثَلَاثَة) .
وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق قَتَادَة عَن ابْن سِيرِين عَن أم عَطِيَّة.
قَالَت: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ... فَذكر مَعْنَاهُ.
قَوْله: ( أَن نحد) ، بِضَم النُّون من الْإِحْدَاد، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة.
قَوْله: ( إلاَّ بِزَوْج) ، أَي: بِسَبَب زوج، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( إلاَّ لزوج) بِاللَّامِ، وَوَقع فِي الْعدَد: ( إلاَّ على زوج) ، وَالْكل بِمَعْنى التَّسَبُّب.





[ قــ :133 ... غــ :180 ]
- حدَّثنا الحمَيْدِي قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَدثنَا أيُّوبُ بنُ مُوسى اقالَ أَخْبرنِي حُمَيْدُ بنُ نافِعٍ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أبِي سَلَمَةَ قالَتْ لَمَّا جاءَ نَعْيُ أبي سُفْيَانَ مِنَ الشامِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وقالَتْ إنِّي كُنْتُ عنْ هاذَا لَغَنِيَّةً لَوْلاَ أنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ فإنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِحْدَاد على غير الزَّوْج.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء: عبد الله بن الزبير بن عِيسَى القريشي الْأَسدي أَبُو بكر.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: أَيُّوب بن مُوسَى بن عَمْرو ابْن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي، أحد الْفُقَهَاء، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِمَكَّة.
الرَّابِع: حميد الطَّوِيل، بِضَم الْحَاء: بن نَافِع أَبُو أَفْلح، بِالْفَاءِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة.
الْخَامِس: زَيْنَب بنت أبي سَلمَة، وأسمه: عبد الله بن عبد الْأسد، المخزومية ربيبة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أُخْت عمر بن أبي سَلمَة، أمهما أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مرت فِي: بابُُ الخباء فِي الْعلم.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مكيون وَالرَّابِع مدنِي.
وَفِيه: شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى أحد أجداده.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله ( نعى أَبُو سُفْيَان) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْعين وَتَخْفِيف الْيَاء، وَهُوَ الْخَبَر بِمَوْت الشَّخْص، ويروى بِكَسْر الْعين وَتَشْديد الْيَاء، وَأَبُو سُفْيَان: هُوَ ابْن حَرْب والدمعاوية.
قَوْله: ( من الشَّام) قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لِأَن أَبَا سُفْيَان مَاتَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف بَين أهل الْعلم بالأخبار، وَالْجُمْهُور على أَنه مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَعلل على ذَلِك بقوله: لَيْسَ فِي طرق هَذَا الحَدِيث التَّقْيِيد بذلك إلاَّ فِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وأظنها وهما، وأظن أَنه حذف مِنْهُ لفظ: ابْن، لِأَن الَّذِي جَاءَ نعيه من الشَّام وَأم حَبِيبَة فِي الْحَيَاة هُوَ أَخُوهَا يزِيد بن أبي سُفْيَان الَّذِي كَانَ أَمِيرا على الشَّام.
قلت: يزِيل هَذَا الظَّن أَن البُخَارِيّ روى الحَدِيث فِي ( الْعدَد) من طَرِيق مَالك وَمن طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن حميد بن نَافِع بِلَفْظ: ( حِين توفّي أَبوهَا أَبُو سُفْيَان) ، وَفِيه تَصْرِيح بِأَن الَّذِي جَاءَ نعيه هُوَ أَبُو سُفْيَان لَا نعي ابْن سُفْيَان.
فَإِن قلت: هما لم يذكرَا فِي روايتهما من الشَّام؟ قلت: لَا يلْزم من عدم ذكرهمَا من الشَّام أَن يكون ذكر سُفْيَان بن عُيَيْنَة من الشَّام وهما، وَهُوَ إِمَام فِي الحَدِيث حجَّة ثَبت، وَعَن الشَّافِعِي: لَوْلَا مَالك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة لذهب علم الْحجاز، وَفِي قَول هَذَا الْقَائِل: أَبُو سُفْيَان مَاتَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف، نظر لِأَنَّهُ مُجَرّد دَعْوَى فَافْهَم.
قَوْله: ( أم حَبِيبَة) هِيَ بنت أبي سُفْيَان الْمَذْكُور، وَاسْمهَا: رَملَة، أم الْمُؤمنِينَ.
قَوْله: ( بصفرة) ، قد ذكرنَا مَعْنَاهَا عَن قريب، وَفِي رِوَايَة مَالك: ( بِطيب فِيهِ صفرَة خلوق) ، وَزَاد فِيهِ: ( فدهنت مِنْهُ جَارِيَة ثمَّ مست بعارضيها) .
قَوْله: ( وَعشرا) ، هَل المُرَاد مِنْهُ الْأَيَّام أَو اللَّيَالِي؟ فَفِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: أَحدهمَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: أَن المُرَاد الْأَيَّام بلياليها.
وَالْآخر: أَن المُرَاد اللَّيَالِي، وَأَنَّهَا تحل فِي الْيَوْم الْعَاشِر، وَهُوَ قَول يحيى بن أبي كثير وَالْأَوْزَاعِيّ، وَذكرنَا الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِالْحَدِيثِ وَالْخلاف فِيهَا فِي: بابُُ الطّيب عِنْد الْغسْل من الْمَحِيض.





[ قــ :135 ... غــ :181 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عمْرِو بنِ حَزْمٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ نافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ أخْبرَتْهُ قالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّه واليَوْمِ الآخِرِ تحِدُّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.
ثمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ ثُمَّ قالَتْ مَال بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.

(81 طرفه فِي: 5335) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أويس ابْن أُخْت مَالك.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن عبد الله بن يُوسُف وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَعَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَعبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحَارِث بن مِسْكين، وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن عَمْرو بن مَنْصُور وَعَن هناد وَعَن وَكِيع.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ دخلت عَليّ زَيْنَب بنت جحش) ، فَاعل: دخلت، هُوَ زَيْنَب بنت أم سَلمَة، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (ثمَّ دخلت) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (فَدخلت) ، بِالْفَاءِ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (وَدخلت) ، بِالْوَاو، قلت: مَا وجدت فِي نسخ أبي دَاوُد إلاَّ بِالْفَاءِ، مثل رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَالْفرق بَين هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث على تَقْدِير كَون رِوَايَة أبي دَاوُد بِالْوَاو، أَن كلمة: ثمَّ، للْعَطْف على التَّرَاخِي والمهلة والتشريك فِي الحكم وَالتَّرْتِيب، وَكلمَة: الْفَاء، للْعَطْف على التعقيب، وَكلمَة: الْوَاو، الْعَطف على الْجمع.

فَإِن قلت: على مَا ذكرت معنى: ثمَّ، يَقْتَضِي أَن تكون قصَّة زَيْنَب هَذِه بعد قصَّة أم حَبِيبَة، وَلَا يَصح ذَلِك، لِأَن زَيْنَب مَاتَت قبل أبي سُفْيَان بِأَكْثَرَ من عشر سِنِين على الصَّحِيح.
قلت: فِي دلَالَة: ثمَّ، على التَّرْتِيب خلاف، وَلَئِن سلمنَا ضعف الْخلاف فَإِن: ثمَّ، هَهُنَا لترتيب الْإِخْبَار لَا لترتيب الحكم، وَذَلِكَ كَمَا يُقَال: بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب، أَي: ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب.
وَأما: الْفَاء، فَإِن الْفراء قَالَ: لَا تفِيد التَّرْتِيب مُطلقًا، وَلَئِن سلمنَا، فَنَقُول: التَّرْتِيب ذكري لَا معنوي، وَأما: الْوَاو، فَإِنَّهَا لَا تفِيد التَّرْتِيب أصلا، فَإِن صحت رِوَايَة: الْوَاو، فَلَا إِشْكَال أصلا.
فَافْهَم.
فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق لم يُنَبه عَلَيْهِ أحد من الشُّرَّاح.
قَوْله: (حِين توفّي أَخُوهَا) ، قَالَ شَيخنَا زين الدّين، فِيهِ إِشْكَال، لِأَن لِزَيْنَب ابْنة جحش ثَلَاثَة إخْوَة: عبد الله وَعبيد الله مُصَغرًا وَأَبُو أَحْمد، مَشْهُور بكنيته، واسْمه عبد على الصَّحِيح، وَقيل: عبد الله، وَلَا جَائِز أَن يكون عبد الله مكبرا لِأَنَّهُ قتل بِأحد قبل أَن يتَزَوَّج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش، وَلَا جَائِز أَن يكون عبيد الله فَإِنَّهُ مَاتَ بِالْحَبَشَةِ نَصْرَانِيّا، أما فِي سنة خمس أَو فِي سنة سِتّ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان بعده فَإِنَّهُ مَاتَ عَنْهَا بِأَرْض الْحَبَشَة، وَكَانَ تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا إِمَّا فِي سنة سِتّ أَو سبع على الْخلاف الْمَعْرُوف فِيهِ، وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة كَانَت حِينَئِذٍ صَغِيرَة، وَإِن أمكن أَن تعقل ذَلِك وَهِي صَغِيرَة على بعد فِيهِ، وَلَا جَائِز أَيْضا أَن يكون أَبَا أَحْمد، فَإِنَّهَا توفيت قبله وَتَأَخر بعْدهَا، كَمَا جزم بِهِ ابْن عبد الْبر وَغَيره، وَأقرب الِاحْتِمَالَات أَن يكون: عبيد الله، الَّذِي مَاتَ نَصْرَانِيّا على بعد فِيهِ.
فَإِن قلت: مثلهَا لَا يحزن على من مَاتَ كَافِرًا فِي بَيت النُّبُوَّة قلت: ذَاك الْحزن بالجبلة والطبع فَتعذر فِيهِ وَلَا تلام بِهِ، وَقد بَكَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى قبر أمه توجعا لَهَا.
وَقيل: يحْتَمل أَن يكون أَخا لِزَيْنَب بنت جحش من أمهَا أَو من الرَّضَاع.
قَوْله: (فمست بِهِ) أَي: شَيْئا من جَسدهَا، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْعدَد: (فمست مِنْهُ) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة على وجوب إحداد الْمَرْأَة على الزَّوْج،.

     وَقَالَ  الرَّافِعِيّ: فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ نظر لِأَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات للمنفي، وَإِنَّمَا هُوَ عدم الْحل على غير الزَّوْج بعد الثَّلَاث، فَيكون الِاسْتِثْنَاء إِثْبَاتًا لحل الْإِحْدَاد لَا لوُجُوبه قلت: أُجِيب بِأَن ظَاهر اللَّفْظ، وَإِن كَانَ هَكَذَا، وَلَكِن حمل على الْوُجُوب لإِجْمَاع الْعلمَاء عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: الْحسن الْبَصْرِيّ لَا يرى وجوب الْإِحْدَاد؟ قلت: لَا يَصح هَذَا عَن الْحسن، قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ.
فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس، قَالَت: (دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَوْم الثَّالِث من قتل جَعْفَر فَقَالَ: لَا تحدي بعد يَوْمك هَذَا.
وَفِيه: لَا يجب الْإِحْدَاد بعد الْيَوْم الثَّالِث بل فِيهِ أَنه لَا يجوز لظَاهِر النَّهْي (قلت) هَذَا الحَدِيث مُخَالف الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الأحداد فَهُوَ شَاذ لَا عمل عَلَيْهِ للْإِجْمَاع إِلَى خِلَافه، وَأَيْضًا أَن جَعْفَر بن أبي طَالب كَانَ قتل شَهِيدا، وَالشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم، فَلذَلِك نهى زَوجته عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِ بعد الثَّلَاث، وَهَذَا الْجَواب فِيهِ نظر لَا يخفى، وَهُوَ أَن الشَّهِيد حَيّ فِي حق الْآخِرَة لَا فِي حق الدُّنْيَا، إِذْ لَو كَانَ حَيا فِي حق الدُّنْيَا لما كَانَ يجوز تزوج نِسَائِهِ، وَلَا كَانَ تقسم تركته.
فَإِن قلت: جَعْفَر مَقْطُوع لَهُ بِالشَّهَادَةِ لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه رَآهُ يطير فِي الْجنَّة بجناحين، فقطعنا بِأَنَّهُ حَيّ بِخِلَاف عُمُوم من قتل فِي حَرْب الْكفَّار، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَقولُوا: فلَان مَاتَ شَهِيدا، قلت: قد أخبر عَن جمَاعَة بِأَنَّهُم شُهَدَاء وَلم ينْه نِسَاءَهُ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم: كَعبد الله بن حرَام وَالِد جَابر بن عبد الله،.

     وَقَالَ  فِي حمزه: إِنَّه سيد الشُّهَدَاء، وَمَعَ هَذَا فَلم ينْقل أَنه نهى نِسَاءَهُمْ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم.
وَفِيه: دلَالَة لأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الزَّوْجَة الذِّمِّيَّة، لِأَنَّهُ قيد ذَلِك بقوله: (لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه) .
وَفِيه: دلَالَة على أَن الْإِحْدَاد لَا يجب على الصبية لِأَنَّهُ لَا تسمى امْرَأَة إلاَّ بعد الْبلُوغ.