فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الصلاة بين السواري في غير جماعة

( بابُ الصَّلاَةِ بَيْنَ السَّوَارِي فَي غَيْرِ جَمَاعَةٍ)
أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الصَّلَاة بَين السَّوَارِي أَي: الأساطين والأعمدة فِي غير جمَاعَة، يَعْنِي إِذا كَانَ مُنْفَردا لَا بَأْس فِي الصَّلَاة بَين الساريتين، إِذا لم يكن فِي جمَاعَة، وَقيد بِغَيْر جمَاعَة لِأَن لَك يقطع الصُّفُوف، وتسوية الصُّفُوف فِي الْجَمَاعَة مَطْلُوبَة.



[ قــ :492 ... غــ :505]
- حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ الله دَخَلَ الكَعْبَةَ وأُسامَةُ بنُ زَيْدٍ وبِلاَلٌ وعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فأغْلَقَها علَيْهِ ومَكَثَ فِيهَا فَسألْتُ بِلاَلاً حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ النبيُّ قَالَ جَعَلَ عَمُوداً عنْ يَسَارِهِ وَعَمُوداً عنْ يَمِينِهِ وثَلاثَةَ أعْمِدَةٍ ورَاءَهُ وكانَ البَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلى سِتَّةِ أعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى.
.

     وَقَالَ  لنَا إسْماعِيلُ حدّثني مَالك.

     وَقَالَ  عَمُودَيْنِ عنْ يَمِينِهِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَجعل عموداً) إِلَى آخِره.
وَرِجَاله قد تكرروا.
قَوْله: ( وَأُسَامَة) بِالنّصب عطفا على: رَسُول ا، وَيجوز رَفعه عطفا على فَاعل دخل.
قَوْله: ( الحَجبي) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ بِالْجِيم وبالباء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة.
قَوْله: ( فأغلقها) ، أَي: أغلق عُثْمَان، الْكَعْبَة أَي: فَإِن قلت: فِي رِوَايَة مَالك إِشْكَال لِأَنَّهُ عموداً عَن يسَاره وعموداً عَن يَمِينه، وَهَذَانِ إثنان، ثمَّ قَالَ: وَثَلَاثَة أعمدة وَرَاءه، فَتكون الْجُمْلَة خَمْسَة، ثمَّ قَالَ: وَكَانَ الْبَيْت يَوْمئِذٍ على سِتَّة أعمدة.
قلت: أجَاب الْكرْمَانِي عَنهُ بِأَن لفظ العمود جنس يحْتَمل الْوَاحِد الإثنتين فَهُوَ مُجمل بَينه مَالك فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَنهُ، وَهِي قَوْله:.

     وَقَالَ  لنا إِسْمَاعِيل: حَدثنِي مَالك؟ فَقَالَ: عمودين عَن يَمِينه، فَحِينَئِذٍ تكون الأعمدة سِتَّة.
.

     وَقَالَ  خلف: لم أَجِدهُ من حَدِيث إِسْمَاعِيل.
وَقد اخْتلف عَن مَالك فِي لَفظه فَرَوَاهُ مُسلم: ( عمودين عَن يسَاره وعموداً عَن يَمِينه) ، عكس رِوَايَة إِسْمَاعِيل، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ ( عموداً عَن يَمِينه وعموداً عَن يسَاره) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ الصَّحِيح، وَفِي رِوَايَة: ( جعل عموداً عَن يَمِينه وعمودين عَن يسَاره) ، عكس مَا سبق.
وَقد ذكر الدَّارَقُطْنِيّ الِاخْتِلَاف على مَالك فِيهِ، فَوَافَقَ الْجُمْهُور عبد ابْن يُوسُف فِي قَوْله: ( عموداً عَن يَمِينه) ؛ وَوَافَقَ إِسْمَاعِيل فِي قَوْله: ( عمودين عَن يَمِينه) ؛ ابْن الْقَاسِم والقعنبي وَأَبُو مُصعب وَمُحَمّد بن الْحسن وَأَبُو حذافة، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِي وَابْن مهْدي فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُم، وَأجَاب قوم عَنهُ بِاحْتِمَال تعدد الْوَاقِعَة، وروى عُثْمَان بن عمر عَن مَالك: ( جعل عمودين عَن يَمِينه وعمودين عَن يسَاره) ، فعلى هَذَا تكون الأعمدة سَبْعَة، ويردها قَوْله: ( وَكَأن الْبَيْت يَوْمئِذٍ على سِتَّة أعمدة) ، بعد قَوْله: ( وَثَلَاثَة أعمدة وَرَاءه) وَعَن هَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يُتَابع عُثْمَان بن عمر على ذَلِك، وَأجَاب الْكرْمَانِي بجوابين آخَرين: الأول: هُوَ أَن الأعمدة الثَّلَاثَة الْمُقدمَة مَا كَانَت على سمت وَاحِد، بل عمودان مسامتان وَالثَّالِث على غير سمتها؛ وَلَفظ المقدمين فِي الحَدِيث السَّابِق يشْعر بِهِ، فتعرض للعمودين المسامتين وَسكت عَن ثَالِثهَا.
وَالثَّانِي: أَن تكون الثَّلَاثَة على سمت وَاحِد، وَقَامَ رَسُول الله عِنْد الوسطاني.

قَوْله: ( وَقَالَ لنا إِسْمَاعِيل) وَهُوَ أبي أويس بن أُخْت مَالك بن أنس، وَهَذَا مَوْصُول بِوَاسِطَة قَوْله لنا، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي:.

     وَقَالَ  إِسْمَاعِيل، بِدُونِ لفظ: قَالَ لنا، أحط دَرَجَة من: حدّثنا.
قَوْله: ( حَدثنِي مَالك) ، يَعْنِي: بِهَذَا الحَدِيث.


(بابٌُ)

أَي: هَذَا بابُُ، فَإِذا لم يقدر شَيْئا لَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب يكون بِالْعقدِ والتركيب، كَذَا وَقع لفظ: بابُُ، بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَيْسَ لفظ بابُُ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وعَلى قَول الْأَكْثَرين: هُوَ كالفصل من الْبابُُ الَّذِي قبله، وَإِنَّمَا فَصله لِأَن فِيهِ زِيَادَة، وَهِي مِقْدَار مَا كَانَ بَينه وَبَين الْجِدَار من الْمسَافَة.



[ قــ :493 ... غــ :506]
- حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله كانَ إذَا دَخَلَ الكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخلُ وجَعَلَ البابَُُ قِبَلَ ظَهْرِهِ فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ الذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيباً منْ ثَلاَثَةِ أذْرُعٍ صَلَّى يَتَوَخَّى المَكَانَ الَّذِي أخْبرهُ بِلالٌ أنَّ النبيَّ صَلَّى فيهِ قَالَ وَلَيْسَ علَى أحَدِنا بَأْسٌ أنْ صلى فِي أيِّ نَوَاحِي البَيْتِ شاءَ.
.


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الإستلزام، وَهُوَ أَن الْموضع الْمَذْكُور من كَونه مُقَابلا للبابُ قَرِيبا من الْجِدَار يسْتَلْزم كَون صلَاته بَين الساريتين.

ذكر رِجَاله ومهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمَدِينِيّ.
الثَّانِي: أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء: اسْمه أنس بن عِيَاض، مر فِي بابُُ التبرز فِي الْبيُوت.
الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْمَدِينِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة.
الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر.
الْخَامِس: عبد ابْن عمر.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.

ذكر بِمَعْنَاهُ) : قَوْله: (قبل وَجهه) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: أَي مُقَابل وَجهه، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: (قبل وَجهه) الَّذِي بعده.
قَوْله: (قَرِيبا) كَذَا وَقع بِالنّصب، ويروى بِالرَّفْع وَهُوَ الأَصْل لِأَنَّهُ اسْم: يكون، وَوجه النصب أَن يكون اسْمه محذوفاً وَالتَّقْدِير: يكون الْقدر أَو الْمَكَان قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع، وَلَفظه: (بِثَلَاثَة) بالتأنيث فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر من: ثَلَاث أَذْرع، بِلَا تَاء.
فَإِن قلت: الذِّرَاع مُذَكّر فَمَا وَجهه ترك التَّأْنِيث.
قلت: أجَاب بَعضهم أَن الذِّرَاع يذكر وَيُؤَنث، وَلَيْسَ كَذَلِك على الْإِطْلَاق بل الذِّرَاع الَّذِي يذرع بِهِ يذكر، وذراع الْيَد يذكر وَيُؤَنث، وَهَهُنَا شبه بِذِرَاع الْيَد.
قَوْله: (صلى) ، جملَة استئنافية.
قَوْله: (يتوخى) أَي: يتحَرَّى، يُقَال: توخيت مرضاتك.
أَي: تحريت وقصدت.
قَوْله: (قَالَ) أَي: ابْن عمر.
قَوْله: (إِن صلى) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَصلى بِلَفْظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة الكشمهني: (أَن يُصَلِّي) بِفَتْح الْهمزَة وَلَفظ الْمُضَارع، وَالتَّقْدِير: وَلَا بَأْس بِأَن يُصَلِّي، وَحذف حرف سَائِغ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة فِي نفس الْبَيْت.
وَفِيه: الدنو من الستْرَة.
وَقد أَمر الشَّارِع بالدنو مِنْهَا لِئَلَّا يَتَخَلَّل الشَّيْطَان ذَلِك.
وَفِيه: الستْرَة بَين الْمُصَلِّي والقبلة ثَلَاثَة أَذْرع، وَادّعى ابْن بطال أَن الَّذِي واظب عَلَيْهِ الشَّارِع فِي مُقَدّر ذَلِك ممر الشَّاة، كَمَا جَاءَ فِي الْآثَار.
وَفِيه: أَنه لَا يشْتَرط فِي صِحَة الصَّلَاة فِي الْبَيْت مُوَافقَة الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ النَّبِي، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن عمر، وَلَكِن الْمُوَافقَة أولى وَإِن كَانَ يحصل الْغَرَض بِغَيْرِهِ، وَقد ذكرنَا أَن الحَدِيث لَا يدل صَرِيحًا على الصَّلَاة بَين الساريتين، وَإِنَّمَا دلَالَته على ذَلِك بطرِيق الاستلزام، وَقد بَيناهُ.
وَقد اخْتلف السّلف فِي الصَّلَاة بَين السَّوَارِي، فكرهه أنس بن مَالك لوُرُود النَّهْي بذلك، رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ،.

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود: لَا تصفوا بَين الأساطين واتموا الصُّفُوف) .
وَأَجَازَهُ الْحسن وَابْن سِيرِين، وَكَانَ سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وسُويد بن غَفلَة يؤمُّونَ قَومهمْ بَين الأساطين، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين.

     وَقَالَ  مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) لَا بَأْس باصلاة بَينهمَا لضيق الْمَسْجِد.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: لَيْسَ النَّهْي عَن تقطيع الصُّفُوف إِذْ ضَاقَ الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ إِذا كَانَ الْمَسْجِد وَاسِعًا.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَسبب الْكَرَاهَة بَين الأساطين أَنه رُوِيَ أَنه مصلى الْجِنّ الْمُؤمنِينَ.