فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب تعليم الرجل أمته وأهله

( بابُُ مَنْ نَذَرَ أنْ يَصُومَ أيَّاماً فَوَافَقَ النَّحْرَ أوِ الفِطْرَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من نذر أَن يَصُوم أَيَّامًا بِعَينهَا فاتفق أَنه وَافق يَوْمًا مِنْهَا يَوْم الْفطر أَو يَوْم النَّحْر، هَل يجوز لَهُ أَن يَصُوم ذَلِك الْيَوْم أَو لَا؟ أم كَيفَ حكمه؟ وَلم يبين الحكم على عَادَته فِي غَالب الْأَبْوَاب.
إِمَّا اكْتِفَاء بِمَا يُوضح ذَلِك من حَدِيث الْبابُُ، أَو اعْتِمَادًا عَن المستنبط مِمَّا قَالَه الْفُقَهَاء فِي ذَلِك الْبابُُ، وَالْحكم هُنَا أَن إنْشَاء الصَّوْم فِي يَوْم الْفطر أَو فِي يَوْم النَّحْر لَا يجوز إِجْمَاعًا وَلَو نذر صومهما لَا ينْعَقد عندالشافعية، وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، وَعند أبي حنيفَة: ينْعَقد وَلَكِن لَا يَصُوم وَيجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَعند الْحَنَابِلَة رِوَايَتَانِ فِي وجوب الْقَضَاء، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصًى فِي أَوَاخِر كتاب الصَّوْم.



[ قــ :97 ... غــ :97 ]
- ( حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي حَدثنَا فُضَيْل بن سُلَيْمَان حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة حَدثنَا حَكِيم بن أبي حرَّة الْأَسْلَمِيّ أَنه سمع عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا سُئِلَ عَن رجل نذر أَن لَا يَأْتِي عَلَيْهِ يَوْم إِلَّا صَامَ فَوَافَقَ يَوْم أضحى أَو فطر فَقَالَ لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لم يكن يَصُوم يَوْم الْأَضْحَى وَالْفطر وَلَا نرى صيامهما) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَفِيه إِيضَاح حكم التَّرْجَمَة وَمُحَمّد بن أبي بكر الْمقدمِي على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من التَّقْدِيم وَحَكِيم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالكاف ابْن أبي حرَّة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء الْأَسْلَمِيّ الْمدنِي وَأَبُو حرَّة لَا يدرى اسْمه وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد وَقد أوردهُ مُتَابعًا لزياد بن جُبَير عَن ابْن عمر فِي الحَدِيث الْآتِي قَوْله سُئِلَ عَن رجل جملَة وَقعت حَالا عَن عبد الله بن عمر وَسُئِلَ على صِيغَة الْمَجْهُول لم يسم السَّائِل فَيحْتَمل أَن يكون رجلا أَو امْرَأَة قَالَ بَعضهم بعد أَن أورد من طَرِيق ابْن حبَان عَن كَرِيمَة بنت سِيرِين أَنَّهَا سَأَلت ابْن عمر فَقَالَت جعلت على نَفسِي أَن أَصوم كل أربعاء وَالْيَوْم يَوْم الْأَرْبَعَاء وَهُوَ يَوْم النَّحْر فَقَالَ أَمر الله بوفاء النّذر وَنهى رَسُول الله عَن صَوْم يَوْم النَّحْر وَرُوَاته ثِقَات يُفَسر بهَا الْمُبْهم فِي رِوَايَة حَكِيم بِخِلَاف رِوَايَة زِيَاد بن جُبَير حَيْثُ قَالَ فَسَأَلَهُ رجل انْتهى قلت فِيهِ نظر لِأَن أَبَا نعيم أخرج الحَدِيث الْمَذْكُور من طَرِيق مُحَمَّد بن أبي بكر شيخ البُخَارِيّ وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا من وَجه آخر عَن مُحَمَّد بن أبي بكر وَلَفظه أَنه سمع رجلا يسْأَل عبد الله بن عمر عَن رجل نذر فَذكر الحَدِيث وَهَذَا أقرب وَأولى لتفسير الْمُبْهم الْمَذْكُور من تَفْسِيره بِمَا فِي حَدِيث أَجْنَبِي عَن هَذَا مَعَ أَنه لَا مُنَافَاة أَن يَكُونَا قضيتين وَفِي وَاحِدَة مِنْهُمَا السَّائِل رجل وَفِي الْأُخْرَى امْرَأَة قَوْله لم يكن أَي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله وَلَا يرى قَالَ الْكرْمَانِي وَلَا نرى بِلَفْظ الْمُتَكَلّم فَيكون من جملَة مقول عبد الله بن عمر ويروى بِلَفْظ الْغَائِب وفاعله عبد الله وقائله حَكِيم بن أبي حرَّة.

     وَقَالَ  بَعضهم وَقع فِي رِوَايَة يُوسُف بن يَعْقُوب القَاضِي بِلَفْظ لم يكن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُوم يَوْم الْأَضْحَى وَلَا يَوْم الْفطر وَلَا يَأْمر بصيامهما انْتهى قلت قَصده أَن يخدش فِي كَلَام الْكرْمَانِي فِي نَقله الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْله وَلَا يرى وَلَا يضرّهُ ذَلِك لِأَن كَون الْفَاعِل فِي هَذَا هُوَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُنَافِي كَون الْفَاعِل فِي ذَلِك هُوَ عبد الله فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْقَائِل هُوَ حَكِيم بن أبي حرَّة فِي الْوَجْه الثَّانِي بِنَاء على تعدد الْقَضِيَّة -


( بابُُ تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أمَتَهُ وأهْلَهُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان تَعْلِيم الرجل جَارِيَته وَأهل بَيته.
الْأمة: أَصله: أموة بِالتَّحْرِيكِ لِأَنَّهُ يجمع على آم، وَهُوَ أفعل، مثل نَاقَة وأنيق، وَلَا يجمع فعلة بالتسكين على ذَلِك، وَيجمع على إِمَاء أَيْضا.
وَيُقَال: أَمُوت أموة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا أموى بِالْفَتْح، وتصغيرها: أُميَّة، وَهُوَ اسْم قَبيلَة أَيْضا، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا أموى أَيْضا بِالْفَتْح، وَرُبمَا تضم.
وَالْفرق بَين الجمعين أَن الأول جمع قلَّة، وَالثَّانِي جمع كَثْرَة.
وأصل آم: أءمؤ، على وزن أفعل، كأكلب، فأبدل من ضمة الْوَاو يَاء فَصَارَ: اءمى، ثمَّ أعل إعلال قاضٍ، فَصَارَ: اءم، ثمَّ قلبت الْهمزَة الثَّانِيَة الْفَا فَصَارَ: آم، وأصل إِمَاء: إماو، كعقاب، فابدلت الْوَاو همزَة لوقوعها طرفا بعد ألف زَائِدَة، وَيجمع أَيْضا على: إموان، مثل إخْوَان.
قَالَ الشَّاعِر.

( إِذا ترامى بَنو الإموان بالعار)

فَإِن قلت: الْأمة من أهل الْبَيْت فَكيف عطف عَلَيْهِ الْأَهْل؟ قلت: هُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الأول هُوَ التَّعْلِيم الْعَام، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبابُُ هُوَ التَّعْلِيم الْخَاص، فتناسبا من هَذِه الْجِهَة.



[ قــ :97 ... غــ :97 ]
- حدّثنا مُحَمَّدٌ هُوَ ابنُ سَلاَمٍ حدّثنا المُحَارِبِيُّ قَالَ: حدّثنا صالِحُ بنُ حَيَّانَ قالَ: قالَ عامِرٌ الشَّعْبِيُّ: حدّثني أبُو بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( ثَلاَثُةٌ لَهُمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنِ، بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إذَا أدَّى حَقَّ الله تَعَالَى وَحق مَوالِيهِ، وَرَجُلٌ كانَتْ عِنْدَهُ أمَةٌ فأدَّبَها فأحسَنَ تَأدِيبهَا وعَلَّمَها فأحْسَنَ تَعْلِيمَها ثمَّ أعْتَقها فَتَزَوَّجَها فَلهُ أَجْرَانِ) ثمَّ قالَ عامِرُ: اعْطَيناكَهَا بَغْيرِ شَيْءٍ قَدْ كانَ يَرْكَبُ فِيما دُونَها إلَى المَدِينَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي الْأمة فَقَط بِحَسب الظَّاهِر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على تَعْلِيم الْأَهْل، وَأما ذكر الْأَهْل فَيحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون بطرِيق الْقيَاس على الْأمة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، والاعتناء بتعليم الْحَرَائِر الْأَهْل من الْأُمُور الدِّينِيَّة أَشد من الْإِمَاء.
وَالْآخر: أَن يكون قد أَرَادَ أَن يضع فِيهِ حَدِيثا يدل عَلَيْهِ فَمَا اتّفق لَهُ.

بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة.
الأول: مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف اللَّام على الْأَصَح، وَقد تقدم.
الثَّانِي: الْمحَاربي، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وبالراء الْمَكْسُورَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف مُشَدّدَة: وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْكُوفِي.
قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: صَدُوق إِذا حدث عَن الثِّقَات، ويروي عَن المجهولين أَحَادِيث مُنكرَة فَيفْسد حَدِيثه بروايته عَنْهُم، مَاتَ سنة خَمْسَة وَتِسْعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: صَالح بن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ اسْم جد أَبِيه نسب إِلَيْهِ وَهُوَ صَالح بن صَالح بن مُسلم بن حَيَّان، ولقبه: حَيّ، وَهُوَ أشهر بِهِ من اسْمه، وَفِي طبقته آخر كُوفِي أَيْضا يُقَال لَهُ: صَالح بن حَيَّان الْقرشِي، لكنه ضَعِيف وَهَذَا ثِقَة مَشْهُور، وَقد طعن من لَا خبْرَة لَهُ فِي البُخَارِيّ أَنه أخرج الصَّالح بن حَيَّان وظنه صَالح بن حَيَّان الْقرشِي، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أخرج الصَّالح بن حَيَّان الَّذِي يلقب أَبوهُ بالحي، وَهَذَا الحَدِيث مَعْرُوف بروايته عَن الشّعبِيّ دون رِوَايَة الْقرشِي عَنهُ، وَقد أخرج البُخَارِيّ من حَدِيثه من طرق، مِنْهَا فِي الْجِهَاد من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا صَالح ابْن حَيّ، قَالَ: سَمِعت الشّعبِيّ وَصَالح ابْن حَيّ الْهَمدَانِي الْكُوفِي الثَّوْريّ، ثَوْر هَمدَان، وَهُوَ ثَوْر بن مَالك بن مُعَاوِيَة بن دومان بن بكيل بن جشم بن حَيَوَان بن نوف بن هَمدَان، وَهُوَ وَالِد الْحسن وَعلي، قَالَ الكلاباذي: مَاتَ هُوَ وَابْنه عَليّ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَابْنه الْحسن سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة.
الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ، وَقد تقدم.
الْخَامِس: أَبُو بردة عَامر الْأَشْعَرِيّ الْكُوفِي قاضيها.
السَّادِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى عبد اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله عَنهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون مَا خلا ابْن سَلام.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
قَوْله: ( حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: ( حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام) .
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: ( حَدثنَا مُحَمَّد) فَحسب، وَاعْتَمدهُ الْمزي فِي ( الْأَطْرَاف) فَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد، قيل: هُوَ ابْن سَلام.
قَوْله: ( أَنبأَنَا الْمحَاربي) ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: ( حَدثنَا الْمحَاربي) ، وَلَيْسَ عِنْد البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر فِي الْعِيدَيْنِ.
قَوْله: ( قَالَ عَامر) تَقْدِيره: قَالَ صَالح: قَالَ عَامر.
وعادتهم حذف قَالَ إِذا تَكَرَّرت خطا لَا نطقاً.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعتْق عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد اللَّه بن الْمُبَارك، وَفِي النِّكَاح عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، ثَلَاثَتهمْ عَن صَالح بن حَيَّان.
وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى عَن هشيم، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عَبدة بن سُلَيْمَان، وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن عبيد اللَّه بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة، أربعتهم عَن صَالح بن حَيَّان.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن ابْن أبي عمر بِهِ، وَعَن هناد بن السّري عَن عَليّ بن مسْهر عَن الْفضل بن يزِيد عَنهُ،.

     وَقَالَ : حسن.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم عَن يحيى بن أبي زَائِدَة عَن صَالح بِهِ، وَعَن هناد بن السّري عَن أبي زبيد عشير ابْن الْقَاسِم عَن مطرف عَن عَامر بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْأَشَج عَن عَبدة بن سُلَيْمَان بِهِ.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( ثَلَاثَة) مُبْتَدأ تَقْدِيره: ثَلَاثَة رجال أَو رجال ثَلَاثَة.
وَقَوله: ( لَهُم أَجْرَانِ) مُبْتَدأ وَخبر، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول.
قَوْله: ( رجل) قَالَ الْكرْمَانِي: بدل من ثَلَاثَة أَو الْجُمْلَة صفته، و: رجل، وَمَا عطف عَلَيْهِ خَبره.
ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: إِذا كَانَ بَدَلا أهوَ بدل الْبَعْض أَو بدل الْكل؟ قلت: بِالنّظرِ إِلَى كل رجل بدل الْبَعْض، وبالنظر إِلَى الْمَجْمُوع بدل الْكل.
قلت: الأولى أَن يُقَال: رجل، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أَو لَهُم، أَو: الأول رجل من أهل الْكتاب.
وَقَوله: ( من أهل الْكتاب) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لرجل.
قَوْله: ( آمن) ، حَال بِتَقْدِير: قد.
و ( آمن) ، الثَّانِي، عطف عَلَيْهِ.
قَوْله: ( وَالْعَبْد) ، عطف على قَوْله: رجل، قَوْله: ( حق الله) كَلَام إضافي مفعول.
( أدّى) و: ( حق موَالِيه) عطف عَلَيْهِ.
قَوْله: ( وَرجل) ، عطف على: رجل، الأول.
قَوْله: ( كَانَت عِنْده أمة) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لرجل، وارتفاع أمة لكَونهَا اسْم: كَانَت.
قَوْله: ( يَطَؤُهَا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة، أمة.
قَوْله: ( فأدبها) عطف على: يَطَؤُهَا.
قَوْله: ( فَأحْسن تأديبها) عطف على: فأدبها، وَكَذَلِكَ قَوْله: ( وَعلمهَا فَأحْسن تعليمها ثمَّ اعتقها فَتَزَوجهَا) بَعْضهَا مَعْطُوف على بعض، وَإِنَّمَا عطف الْجَمِيع بِالْفَاءِ مَا خلا: ( ثمَّ اعتقها) ، فَإِنَّهُ عطفه: بثم، وَذَلِكَ لِأَن التَّأْدِيب والتعليم يتعقبان على الْوَطْء، بل لَا بُد مِنْهُمَا فِي نفس الْوَطْء بل قبله أَيْضا لوجوبهما على السَّيِّد بعد التَّمَلُّك، بِخِلَاف الْإِعْتَاق.
أَو لِأَن الْإِعْتَاق نقل من صنف من أَصْنَاف الأناسي إِلَى صنف آخر مِنْهَا، وَلَا يخفى مَا بَين الصِّنْفَيْنِ: الْمُنْتَقل مِنْهُ، والمنتقل إِلَيْهِ من الْبعد، بل من الضدية فِي الْأَحْكَام والمنافاة فِي الْأَحْوَال، فَنَاسَبَ لفظ دَال على التَّرَاخِي بِخِلَاف التَّأْدِيب.
قَوْله: ( فَلهُ اجران) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الضَّمِير يرجع إِلَى الرجل الثَّالِث، وَيحْتَمل أَن يرجع إِلَى كل من الثَّلَاث.
قلت: بل يرجع إِلَى الرجل الْأَخير، وَإِنَّمَا لم يقْتَصر على قَوْله أَولا: لَهُم أَجْرَانِ، مَعَ كَونه دَاخِلا فِي الثَّلَاثَة بِحكم الْعَطف، لِأَن الْجِهَة كَانَت فِيهِ مُتعَدِّدَة، وَهِي التَّأْدِيب والتعليم وَالْعِتْق والتزوج، وَكَانَت مَظَنَّة أَن يسْتَحق الْأجر أَكثر من ذَلِك، فَأَعَادَ قَوْله: ( فَلهُ أَجْرَانِ) ، إِشَارَة إِلَى أَن الْمُعْتَبر من الْجِهَات أَمْرَانِ.
فَإِن قلت: لِمَ لِمْ يعْتَبر إلاَّ اثْنَتَانِ وَلم يعْتَبر الْكل؟ قلت: لِأَن التَّأْدِيب والتعليم يوجبان الْأجر فِي الْأَجْنَبِيّ وَالْأَوْلَاد وَجَمِيع النَّاس فَلم يكن مُخْتَصًّا بالإماء، فَلم يبْق الِاعْتِبَار إلاَّ فِي الْجِهَتَيْنِ، وهما: الْعتْق والتزوج.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْمُعْتَبر أَمريْن، فَمَا فَائِدَة ذكر الْأَمريْنِ الآخرين؟ قلت: لِأَن التَّأْدِيب والتعليم أكمل لِلْأجرِ، إِذْ تزوج الْمَرْأَة المؤدبة المعلمة أَكثر بركَة وَأقرب إِلَى أَن تعين زَوجهَا على دينه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: يَنْبَغِي أَن يكون لهَذَا الْأَخير أجور أَرْبَعَة: أجر التَّأْدِيب والتعليم وَالْإِعْتَاق والتزوج، بل سَبْعَة.
قلت: الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الصُّورَة واخواتها الْجمع بَين الْأَمريْنِ اللَّذين هما كالمتنافيين، فَلهَذَا لم يعْتَبر فِيهَا إلاَّ الْأجر الَّذِي من جِهَة الْأَحْوَال الَّتِي للرقية، وَالَّذِي من جِهَة الْأَحْوَال الَّتِي للحرية، وَلِهَذَا ميز بَينهمَا بِلَفْظ: ثمَّ، دون غَيرهمَا.
قلت: هَذَا كَلَام حسن، وَلَكِن فِي قَوْله: هما كالمتنافيين، نظر لَا يخفى.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( من أهل الْكتاب) اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هم الَّذين بقوا على مَا بعث بِهِ نَبِيّهم من غير تَبْدِيل وَلَا تَحْرِيف، فَمن بَقِي على ذَلِك حَتَّى بعث نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَآمن بِهِ فَلهُ الْأجر مرَّتَيْنِ، وَمن بدل مِنْهُم أَو حرف لم يبْق لَهُ أجر فِي دينه فَلَيْسَ لَهُ أجر إلاَّ بإيمانه بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،.

     وَقَالَ  بَعضهم: يحْتَمل إجراؤه على عُمُومه إِذْ لَا يبعد أَن يكون طريان الْإِيمَان بِهِ سَببا لإعطاء الْأجر مرَّتَيْنِ: مرّة على أَعْمَالهم الْخَيْر الَّذِي فَعَلُوهُ فِي ذَلِك الدّين، وَإِن كَانُوا مبدلين محرفين.
فَإِنَّهُ قد جَاءَ أَن مبرات الْكفَّار وحسناتهم مَقْبُولَة بعد الْإِسْلَام.
وَمرَّة على الْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: المُرَاد بِهِ هُنَا أهل الْإِنْجِيل خَاصَّة إِن قُلْنَا: إِن النَّصْرَانِيَّة ناسخة لِلْيَهُودِيَّةِ.
قلت: لَا يحْتَاج إِلَى اشْتِرَاط النّسخ لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ قد أرسل إِلَى بني إِسْرَائِيل بِلَا خلاف، فَمن أَجَابَهُ مِنْهُم نسب إِلَيْهِ وَمن كذبه مِنْهُم وَاسْتمرّ على يَهُودِيَّته لم يكن مُؤمنا، فَلَا يتَنَاوَلهُ الْخَيْر، لِأَن شَرطه أَن يكون مُؤمنا بِنَبِيِّهِ.
وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الْألف وَاللَّام فِي: الْكتاب، للْعهد، إِمَّا من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَإِمَّا من الْإِنْجِيل.
قَالَ الله عز وَجل: { الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ} ( الْقَصَص: 5) إِلَى وَقَوله: { أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ} ( الْقَصَص: 54) فالآية مُوَافقَة لهَذَا الحَدِيث، وَهِي نزلت فِي طَائِفَة آمنُوا مِنْهُم: كَعبد اللَّه بن سَلام وَغَيره.
وَفِي الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث رِفَاعَة الْقرظِيّ، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فيّ وَفِي من آمن معي، وروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَليّ بن رِفَاعَة الْقرظِيّ، قَالَ: خرج عشرَة من أهل الْكتاب مِنْهُم أَبُو رِفَاعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فآمنوا بِهِ فأوذوا فَنزلت: { الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ} ( الْقَصَص: 5) الْآيَات، فَهَؤُلَاءِ من بني إِسْرَائِيل، وَلم يُؤمنُوا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل استمروا على الْيَهُودِيَّة إِلَى أَن آمنُوا بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد ثَبت أَنهم يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ، وَيُمكن أَن يُقَال فِي حق هَؤُلَاءِ الَّذين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ: إِنَّهُم لم تبلغهم دَعْوَة عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهَا لم تنشر فِي أَكثر الْبِلَاد، فاستمروا على يهوديتهم مُؤمنين بِنَبِيِّهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام فآمنوا بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي ( شرح ابْن التِّين) أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي كَعْب الْأَحْبَار وَعبد اللَّه ابْن سَلام.
قلت: عبد اللَّه بن سَلام صَوَاب، وَقَوله: كَعْب الْأَحْبَار خطأ، لِأَن كَعْبًا لَيست لَهُ صُحْبَة وَلم يسلم إلاَّ فِي زمن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: الْكِتَابِيّ الَّذِي يُضَاعف أجره هُوَ الَّذِي كَانَ على الْحق فِي فعله عقدا وفعلاً إِلَى أَن آمن بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيؤجر على اتِّبَاع الْحق الأول وَالثَّانِي، وَفِيه نظر، لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب إِلَى هِرقل: ( أسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ) ، وهرقل كَانَ مِمَّن دخل فِي النَّصْرَانِيَّة بعد التبديل.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبد الْملك الْبونِي وَغَيره: إِن الحَدِيث لَا يتَنَاوَل الْيَهُود أَلْبَتَّة، وَفِيه نظر أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: إِنَّه يحْتَمل أَن يتَنَاوَل سَائِر الْأُمَم فِيمَا فَعَلُوهُ من خير، كَمَا فِي حَدِيث حَكِيم بن حزَام: ( أسلمت على مَا أسلفت من خير) .
وَفِيه نظر، لِأَن الحَدِيث مُقَيّد بِأَهْل الْكتاب فَلَا يتَنَاوَل غَيرهم.

وَأَيْضًا فَقَوله: ( آمن بِنَبِيِّهِ) إِشْعَار بعلية الْأجر، أَي أَن سَبَب الأجرين من الْإِيمَان بالنبيين، وَالْكفَّار لَيْسُوا كَذَلِك،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ بِمن آمن مِنْهُم فِي عهد الْبعْثَة أم شَامِل لمن آمن مِنْهُم فِي زَمَاننَا أَيْضا؟ قلت: مُخْتَصّ بهم لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَيْسَ بِنَبِيِّهِمْ بعد الْبعْثَة، بل نَبِيّهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعْدهَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا لَا يتم بِمن لم تبلغهم الدعْوَة، وَمَا قَالَه شَيخنَا أظهر، أَرَادَ بِهِ مَا قَالَه من قَوْله: إِن هَذِه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث مستمرة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
قلت: لَيْسَ بِظَاهِر مَا قَالَه هُوَ،، وَلَا مَا قَالَه شَيْخه، أما عدم ظُهُور مَا قَالَه فَهُوَ أَن ببعثة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْقَطَعت دَعْوَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَارْتَفَعت شَرِيعَته، فَدخل جَمِيع الْكفَّار، أهل الْكتاب وَغَيرهم، تَحت دَعْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَوَاء بلغتهم الدعْوَة أَو لَا.
وَلِهَذَا يُقَال: هم أهل الدعْوَة، غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَن من لم تبلغه الدعْوَة لَا تطلق عَلَيْهِم بِالْفِعْلِ، وَأما بِالْقُوَّةِ فليسوا بِخَارِجِينَ عَنْهَا.
وَأما عدم ظُهُور مَا قَالَه شَيْخه فَهُوَ أَنه دَعْوَى بِلَا دَلِيل، لِأَن ظَاهر الحَدِيث يردهُ لِأَنَّهُ قيد فِي حق أهل الْكتاب بقوله: ( آمن بِنَبِيِّهِ) ، وَقد قُلْنَا: إِنَّه حَال، وَالْحَال قيد، فَكَانَ الشَّرْط فِي كَون الأجرين للرجل الَّذِي هُوَ من أهل الْكتاب أَن يكون قد آمن بِنَبِيِّهِ الَّذِي كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِ، ثمَّ آمن بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والكتابي بعد الْبعْثَة لَيْسَ لَهُ نَبِي غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قُلْنَا من انْقِطَاع دَعْوَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبعثة، فَإِذا آمن اسْتحق أجرا وَاحِدًا فِي مُقَابلَة إيمَانه بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوث إِلَيْهِ، وَهُوَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأما الحكم فِي الْأَخيرينِ، وهما: العَبْد وَصَاحب الْأمة فَهُوَ مُسْتَمر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
ثمَّ هَذَا الْقَائِل: وَأما مَا قوى بِهِ الْكرْمَانِي دَعْوَاهُ بِكَوْن السِّيَاق مُخْتَلفا حَيْثُ قيل فِي مؤمني أهل الْكتاب: ( رجل) بالتنكير، وَفِي العَبْد بالتعريف، وَحَيْثُ زيدت فِيهِ: إِذا، الدَّالَّة على معنى الِاسْتِقْبَال، فأشعر ذَلِك بِأَن الأجرين لمؤمني أهل الْكتاب لَا يَقع فِي الِاسْتِقْبَال، بِخِلَاف العَبْد، انْتهى.
وَهُوَ غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ مَشى فِيهِ مَعَ ظَاهر اللَّفْظ، وَلَيْسَ مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الروَاة، بل هُوَ عِنْد المُصَنّف وَغَيره مُخْتَلف، فقد عبر فِي تَرْجَمَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بإذا، فِي الثَّلَاثَة.
وَعبر فِي النِّكَاح بقوله: ( أَيّمَا رجل) .
فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة، وَهِي صَرِيحَة فِي التَّعْمِيم، وَأما الِاخْتِلَاف بالتعريف والتنكير فَلَا أثر لَهُ هَهُنَا، لِأَن الْمُعَرّف بلام الْجِنْس مؤدٍ مؤدى النكرَة.
قلت: لَيْسَ قصد الْكرْمَانِي مَا ذكره الْقَائِل، وَإِنَّمَا قَصده بَيَان النُّكْتَة فِي ذكر أَفْرَاد الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث بمخالفة الثَّانِي الأول وَالثَّالِث، حَيْثُ ذكر الأول بقوله: ( رجل من أهل الْكتاب) ، وَالثَّالِث كَذَلِك بقول: ( رجل كَانَت عِنْده أمة) ، وَذكر الثَّانِي بقوله: ( وَالْعَبْد الْمَمْلُوك) فِي التَّعْرِيف، فَخَالف الأول وَالثَّالِث فِي التَّعْرِيف والتنكير، وَأَيْضًا ذكر الثَّانِي بِكَلِمَة: إِذا، حَيْثُ قَالَ: ( إِذا أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه) ، وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يذكر الْكل على نسق وَاحِد بِأَن يُقَال: وَعبد مَمْلُوك أدّى حق الله، أَو رجل مَمْلُوك أدّى حق الله، ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لَا مُخَالفَة عِنْد التَّحْقِيق، يَعْنِي الْمُخَالفَة بِحَسب الظَّاهِر، وَلَكِن فِي نفس الْأَمر لَا مُخَالفَة.
ثمَّ بَين ذَلِك بقوله: إِذْ الْمُعَرّف بلام الْجِنْس مؤد مؤدى النكرَة، وَكَذَا لَا مُخَالفَة فِي دُخُول: إِذا، لِأَن: إِذا، للظرف.
و: آمن، حَال، وَالْحَال فِي حكم الظّرْف، إِذْ معنى جَاءَ زيد رَاكِبًا جَاءَ فِي وَقت الرّكُوب وَفِي حَاله.
وتعليل هَذَا الْقَائِل قَوْله: وَهُوَ غير مُسْتَقِيم، بقوله: لِأَنَّهُ مَشى مَعَ ظَاهر اللَّفْظ، غير مُسْتَقِيم.
لِأَن بَيَان النكات بِحَسب مَا وَقع فِي ظواهر الْأَلْفَاظ، وَالِاخْتِلَاف من الروَاة فِي لفظ الحَدِيث لَا يضر دَعْوَى الْكرْمَانِي من قَوْله: إِن الأجرين لمؤمني أهل الْكتاب لَا يَقع فِي الِاسْتِقْبَال، أما وُقُوع: إِذا، فِي الثَّلَاثَة، وَإِن كَانَت: إِذا، للاستقبال فَهُوَ أَن حُصُول الأجرين مَشْرُوط بِالْإِيمَان بِنَبِيِّهِ ثمَّ بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قُلْنَا: إِن بالبعثة تَنْقَطِع دَعْوَة غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يبْق إلاَّ الْإِيمَان بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يحصل، إلاَّ أجر وَاحِد لانْتِفَاء شَرط الأجرين.
وَأما وُقُوع: أَيّمَا، وَإِن كَانَت تدل على التَّعْمِيم صَرِيحًا، فَهُوَ فِي تَعْمِيم جنس أهل الْكتاب، وَلَا يلْزم من تَعْمِيم ذَلِك تَعْمِيم الأجرين فِي حق أهل الْكتاب، ثمَّ إعلم أَن قَوْله: ( رجل من أهل الْكتاب) ، يدْخل فِيهِ أَيْضا الْمَرْأَة الْكِتَابِيَّة، لما علم من أَنه حَيْثُ يذكر الرِّجَال يدْخل فيهم النِّسَاء بالتبعية.
قَوْله: ( وَالْعَبْد الْمَمْلُوك) إِنَّمَا وصف بالمملوك لِأَن جَمِيع الأناسي عباد الله تَعَالَى، فَأَرَادَ تَمْيِيزه بِكَوْنِهِ مَمْلُوكا للنَّاس.
قَوْله: ( إِذا أدّى حق الله) أَي: مثل الصَّلَاة وَالصَّوْم ( وَحقّ موَالِيه) ، مثل خدمته.
وَالْمولى مُشْتَرك بَين المعتَق والمعتِق وَابْن الْعم والناصر وَالْجَار والحليف، وكل من ولي أَمر أحدٍ، وَالْمرَاد هُنَا الْأَخير، أَي السَّيِّد، إِذْ هُوَ الْمُتَوَلِي لأمر العَبْد، والقرينة الْمعينَة لَهُ لفظ العَبْد فَإِن قلت: لِمَ لَا يحمل على جَمِيع الْمعَانِي كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، إِذْ عِنْده: يجب الْحمل على جَمِيع مَعَانِيه الْغَيْر المتضادة، قلت: ذَاك عِنْد عدم الْقَرِينَة، أما عِنْد الْقَرِينَة فَيجب حمله على مَا عينته الْقَرِينَة اتِّفَاقًا.
فَإِن قلت: فَهَل هُوَ مجَاز فِي الْمَعْنى الْمعِين إِذْ الِاحْتِيَاج إِلَى الْقَرِينَة هُوَ من عَلَامَات الْمجَاز أم لَا؟ قلت: هُوَ حَقِيقَة فِيهِ، وَلَيْسَ كل مُحْتَاج إِلَيْهِ مجَازًا.
نعم، الْمُحْتَاج إِلَى الْقَرِينَة الصارفة عَن إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ مجَاز، ومحصله أَن قرينَة التَّجَوُّز قرينَة الدّلَالَة، وَهِي غير قرينَة الإشتراك الَّتِي هِيَ قرينَة التَّعْيِين، وَالْأولَى هِيَ من عَلَامَات الْمجَاز لَا الثَّانِيَة.
فَإِن قلت: لِمَ عدل عَن لفظ: الْمولي، إِلَى لفظ: الموَالِي؟ قلت: لما كَانَ المُرَاد من العَبْد جنس العبيد جمع حَتَّى يكون عِنْد التَّوْزِيع لكل عبد مولى، لِأَن مُقَابلَة الْجمع بِالْجمعِ أَو مَا يقوم مقَامه مفيدة للتوزيع، أَو أَرَادَ أَن اسْتِحْقَاق الأجرين إِنَّمَا هُوَ عِنْد أَدَاء حق جَمِيع موَالِيه لَو كَانَ مُشْتَركا بَين طَائِفَة مَمْلُوكا لَهُم.
فَإِن قلت: فأجر المماليك ضعف أجر السادات.
قلت: لَا مَحْذُور فِي الْتِزَام ذَلِك، أَو يكون لَهُم أجره ضعفه من هَذِه الْجِهَة، وَقد يكون للسَّيِّد جِهَات أخر يسْتَحق بهَا أَضْعَاف أجر العَبْد، أَو المُرَاد تَرْجِيح العَبْد الْمُؤَدِّي للحقين على العَبْد الْمُؤَدِّي لأَحَدهمَا.
فَإِن قلت: فعلى هَذَا يلْزم، أَن يكون الصَّحَابِيّ الَّذِي كَانَ كتابياً أجره زَائِد على أجر أكَابِر الصَّحَابَة، وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع.
قلت: الْإِجْمَاع خصصهم وأخرجهم من ذَلِك الحكم، ويلتزم ذَلِك فِي كل صَحَابِيّ لَا يدل دَلِيل على زِيَادَة أجره على من كَانَ كتابياً.
وَالله علم.

قَوْله: ( يَطَؤُهَا) هُوَ مَهْمُوز،، فَكَانَ الْقيَاس: يوطؤها، مثل: يوجل، لِأَن الْوَاو إِنَّمَا تحذف إِذا وَقعت بَين الْيَاء والكسرة، وَهَهُنَا وَقعت بَين الْيَاء والفتحة مثل: يسمع.
قَالَ الْجَوْهَرِي وَغَيره: إِنَّمَا سَقَطت الْوَاو مِنْهَا لِأَن فعل يفعل مِمَّا اعتل فاؤه لَا يكون إلاَّ لَازِما، فَلَمَّا جَاءَا بَين إخواتهما متعديين خُولِفَ بهما نظائرهما.
فَإِن قلت: إِذا لم يَطَأهَا لَكِن أدبها، هَل لَهُ أَجْرَانِ؟ قلت: نعم إِذْ المُرَاد من قَوْله: ( يَطَؤُهَا) يحل وَطْؤُهَا سَوَاء صَارَت مَوْطُوءَة أَو لَا.
قَوْله: ( فأدبها) من التَّأْدِيب، وَالْأَدب هُوَ حسن الْأَحْوَال والأخلاق، وَقيل: التخلق بالأخلاق الحميدة.
قَوْله: ( فَأحْسن تأديبها) أَي: أدبها من غير عنف وَضرب بل بالرفق واللطف.
فَإِن قلت: أَلَيْسَ التَّأْدِيب دَاخِلا تَحت التَّعْلِيم؟ قلت: لَا، إِذْ التَّأْدِيب يتَعَلَّق بالمروآت، والتعليم بالشرعيات، أَعنِي: أَن الأول عرفي، وَالثَّانِي شَرْعِي؛ أَو: الأول دُنْيَوِيّ، وَالثَّانِي ديني.
قَوْله: ( ثمَّ اعتقها فَتَزَوجهَا) وَفِي بعض طرقه: ( أعْتقهَا ثمَّ أصدقهَا) ، وَهُوَ مُبين لما سكت عَنهُ فِي بَقِيَّة الْأَحَادِيث من ذكر الصَدَاق، فعلى الْمُسْتَدلّ أَن ينظر فِي طَرِيق هَذِه الزِّيَادَة، وَمن هُوَ الْمُنْفَرد بهَا؟ وَهل هُوَ مِمَّن يقبل تفرده؟ وَهل هَذِه الزِّيَادَة مُخَالفَة لرِوَايَة الْأَكْثَرين أم لَا؟ قَوْله: ( ثمَّ قَالَ عَامر) أَي: قَالَ صَالح: ثمَّ قَالَ عَامر الشّعبِيّ: أعطيناكها، أَي: أعطينا الْمَسْأَلَة أَو الْمُقَابلَة إياك بِغَيْر شَيْء أَي: بِغَيْر أَخذ مَال مِنْك على جِهَة الْأُجْرَة عَلَيْهِ، وإلاَّ فَلَا شَيْء أعظم من الْأجر الأخروي الَّذِي هُوَ ثَوَاب التَّبْلِيغ والتعليم.
فَإِن قلت: الْخطاب فِي ( أعطيناكها) لمن؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الْخطاب لصالح، وَلَيْسَ كَذَلِك.
فَإِنَّهُ غره الظَّاهِر، وَلَكِن الْخطاب لرجل من أهل خُرَاسَان سَأَلَ الشّعبِيّ عَمَّن يعْتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا، على مَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ فِي بابُُ: { وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم} ( مَرْيَم: 16) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل، انبأنا عبد اللَّه، قَالَ: انبأنا صَالح بن حَيّ أَن رجلا من أهل خُرَاسَان قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: أَخْبرنِي.
فَقَالَ الشّعبِيّ: اخبرني أَبُو بردة عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِذا أدب الرجل أمته فَأحْسن تأديبها، وَعلمهَا فَأحْسن تعليمها، ثمَّ أعْتقهَا فَتَزَوجهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ.
وَإِذا آمن بِعِيسَى ثمَّ آمن بِي فَلهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْد، إِذا اتَّقى ربه وأطاع موَالِيه فَلهُ أَجْرَانِ)
.

قَوْله: ( قد كَانَ يركب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي بعض النّسخ: فقد كَانَ يركب، أَي: يرحل ( فِيمَا دونهَا) ، أَي: فِيمَا دون هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى الْمَدِينَة، أَي مَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَاللَّام فِيهَا للْعهد، وَقد كَانَ ذَلِك فِي زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين، ثمَّ تَفَرَّقت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، إِلَى الْبِلَاد بعد فتح الْأَمْصَار، فَاكْتفى أهل كل بلد بعلمائه إلاَّ من طلب التَّوَسُّع فِي الْعلم ورحل، وَلِهَذَا قَالَ الشّعبِيّ، وَهُوَ من كبار التَّابِعين بقوله: وَقد كَانَ يركب.
فَإِن قلت: هَل كَانَ سُؤال الْخُرَاسَانِي من الشّعبِيّ عَمَّن يعْتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا مُجَرّد تعلم هَذِه الْمَسْأَلَة، أم لِمَعْنى آخر؟ قلت: بل لِمَعْنى آخر، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: ( أَن رجلا من أهل خُرَاسَان سَأَلَ الشّعبِيّ، فَقَالَ: يَا عَامر! إِن من قبلنَا من أهل خُرَاسَان يَقُولُونَ فِي الرجل إِذا أعتق أمته ثمَّ تزَوجهَا فَهُوَ كالراكب بدنته) .
وَفِي طَرِيق: ( كالراكب هَدْيه) ، كَأَنَّهُمْ توهموا فِي الْعتْق والتزوج الرُّجُوع بِالنِّكَاحِ فِيمَا خرج عَنهُ بِالْعِتْقِ، فَأَجَابَهُ الشّعبِيّ بِمَا يدل على أَنه محسن إِلَيْهَا إحساناً بعد إِحْسَان، وَأَنه لَيْسَ من الرُّجُوع فِي شَيْء، فَذكر لَهُم الحَدِيث.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بَيَان أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من النَّاس لَهُم أَجْرَانِ.
قَالَ الْكرْمَانِي: مَا الْعلَّة فِي التَّخْصِيص بهؤلاء الثَّلَاثَة، وَالْحَال أَن غَيره كَذَلِك أَيْضا مثل من صلى وَصَامَ، فَإِن للصَّلَاة أجرا، وللصوم أجرا آخر، وَكَذَا مثل الْوَلَد إِذا أدّى حق الله وَحقّ وَالِديهِ؟ قلت: الْفرق بَين هَذِه الثَّلَاثَة وَغَيرهَا أَن الْفَاعِل فِي كل مِنْهَا جَامع بَين أَمريْن بَينهمَا مُخَالفَة عَظِيمَة، كَأَن الْفَاعِل لَهما فَاعل للضدين عَامل بالمتنافيين، بِخِلَاف غَيره عَامل.
قلت: هَذَا الْجَواب لَيْسَ بِشَيْء، بل الْجَواب الصَّحِيح أَن التَّنْصِيص باسم الشَّيْء لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور.
فَإِن قلت: التَّنْصِيص بِعَدَد مَحْصُور يدل على نفي الحكم عَن غَيره، وَإِلَيْهِ مَال صَاحب ( الْهِدَايَة) ، لِأَن إِثْبَات الحكم فِي غَيره إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( خمس من الفواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم) .
فَإِن ذَلِك يدل على نفي الحكم عَمَّا عدا الْمَذْكُور.
قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن التَّنْصِيص باسم الشَّيْء لَا يدل على النَّفْي فِيمَا عداهُ وَإِن كَانَ فِي الْعدَد المحصور، وَالْحكم فِي غير الْمَذْكُور إِنَّمَا يثبت بِدلَالَة النَّص، فَلَا يُوجب إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص، فَافْهَم.
الثَّانِي: قَالَ الْمُهلب: فِيهِ دَلِيل على من أحسن فِي مَعْنيين من أَي فعل كَانَ من أَفعَال الْبر فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ، وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء.
الثَّالِث: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي قَول الشّعبِيّ جَوَاز قَول الْعَالم مثله تحريضاً للسامع.
الرَّابِع: فِيهِ بَيَان مَا كَانَ السّلف عَلَيْهِ من الرحلة إِلَى الْبلدَانِ الْبَعِيدَة فِي حَدِيث وَاحِد، أَو مَسْأَلَة وَاحِدَة.
الْخَامِس: قَالَ ابْن بطال: وَفِيه إِثْبَات فضل الْمَدِينَة، وَأَنَّهَا مَعْدن الْعلم، وإليها كَانَ يرحل فِي طلب الْعلم، وتقصد فِي اقتباسه.
وَبَعض الْمَالِكِيَّة خصصواً الْعلم بِالْمَدِينَةِ بقول الشّعبِيّ، وَهُوَ تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، فَلَا يقبل.