فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد

( بابُُ مَنْ جَلَسَ فِي المَسْجِد يَنْتَظَرُ الصَّلاةَ وفَضْلِ المسَاجِدِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من جلس فِي الْمَسْجِد حَال كَونه ينْتَظر الصَّلَاة ليصليها بِالْجَمَاعَة وَفِي بَيَان فضل الْمَسَاجِد.



[ قــ :639 ... غــ :659 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أَن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المَلاَئِكَةُ تُصعلِّي على أحَدِكُمْ مَا دامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لاَ يَزَالُ أحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ لاَ يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلَى أهْلِهِ إلاَّ الصَّلاةُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

هَذَا الحَدِيث إِلَى قَوْله.
.
: ( لَا يزَال أحدكُم) ، ذكره البُخَارِيّ فِي: بابُُ الْحَدث فِي الْمَسْجِد، أخرجه عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، نَحوه، غير أَن هُنَاكَ: ( إِن الْمَلَائِكَة تصلي) وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَقَوله: ( لَا يزَال أحدكُم) إِلَى آخِره، أفرده مَالك فِي ( موطئِهِ) عَمَّا قبله، وَأكْثر الروَاة ضموه إِلَى الأول وجعلوه حَدِيثا وَاحِدًا.
وَذكر البُخَارِيّ: فِي: بابُُ فضل الْجَمَاعَة، حَدِيث أبي هُرَيْرَة مطولا، وَفِيه: ( لَا يزَال أحدكُم فِي صَلَاة مَا انْتظر الصَّلَاة) .

قَوْله: ( تصلي على أحدكُم) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن الصَّلَاة من الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار.
فَإِن قلت: مَا النُّكْتَة فِي لفظ الصَّلَاة دون لفظ الاسْتِغْفَار؟ قلت: لتقع الْمُنَاسبَة بَين الْعَمَل وَالْجَزَاء.
قَوْله: ( مَا دَامَ) كلمة: مَا، للمدة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: مَا دَامَ فِي مَوْضِعه الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ منتظرا للصَّلَاة، كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة من وَجه آخر.
قَوْله: ( اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ) ، بَيَان لقَوْله: ( تصلي) ، وَفِيه مُقَدّر، وَهُوَ إِمَّا لفظ: تَقول الْمَلَائِكَة: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، وَإِمَّا: قائلين: اللَّهُمَّ ... ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ كِلَاهُمَا بِالنّصب على الْحَال.
قَوْله: ( فِي صَلَاة) أَي: فِي ثَوَاب صَلَاة، لَا فِي حكم الصَّلَاة، أَلاَ ترى أَنه يحل لَهُ الْكَلَام وَغَيره مِمَّا يمْنَع الصَّلَاة؟ قَوْله: ( مَا دَامَت) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( مَا كَانَت) ، قَوْله: ( لَا يمنعهُ) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول.
قَوْله: ( أَن يَنْقَلِب) ، فَإِن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية تَقْدِيره: لَا يمنعهُ الانقلاب، أَي: الرواح إِلَى أَهله إِلَّا الصَّلَاة، وَكلمَة: إلاَّ، بِمَعْنى: غير، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه صرف نِيَّته عَن ذَلِك صَارف آخر انْقَطع عَنهُ الثَّوَاب الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ إِذا شَارك نِيَّة الِانْتِظَار أَمر آخر، وَيدخل فِي ذَلِك من أشبههم فِي الْمَعْنى مِمَّن حبس نَفسه على أَفعَال الْبر كلهَا.





[ قــ :640 ... غــ :660 ]
- حدَّثنا مْحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني خبَيْبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ عنْ حفْصِ بنِ عاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةِ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ الإمامُ العادِلُ وشابُّ نَشأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ ورَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أخَافُ الله ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ورَجُلٌ ذَكَرَ الله خالِيا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَرجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد) ، أَي: مُتَعَلق، وَلَو لم يكن للمساجد فضل لم يكن لمن قلبه مُعَلّق فِيهَا هَذَا الْفضل الْعَظِيم، وَهَذَا للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (وَفضل الْمَسَاجِد) ، وَيدل على هَذَا الْجُزْء أَيْضا قَوْله: (وشاب نَشأ فِي عبَادَة ربه) ، لِأَن من هَذِه صفته يكون لَهُ مُلَازمَة للمساجد بقالبه، وَأما عَن قلبه فَلَا يَخْلُو، وَإِن عرض لقالبه عَارض، وَهَذَا أَيْضا يدل على فضل الْمَسَاجِد.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة.
الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان.
الثَّالِث: عبيد الله، بتصغير العَبْد، ابْن عمر الْعمريّ.
الرَّابِع: خبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، ابْن عبد الرَّحْمَن بن خبيب بن يسَاف، أَبُو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَهُوَ خَال عبيد الله بن عمر الْمَذْكُور، الْخَامِس: حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَهُوَ جد عبيد الله الْمَذْكُور لِأَبِيهِ.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن خَاله وجده.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بصريين وهما: مُحَمَّد بن بشار وَيحيى، والبقية مدنيون.
وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مَشْهُورا ببندار، وَيحيى مَشْهُور بالقطان.
وَفِيه: عَن حَفْص ابْن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة من حَدِيث يحيى بن يحيى وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث معن، قَالَا: حَدثنَا مَالك عَن خبيب عَن حَفْص ابْن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة أَو أبي سعيد قَالَ التِّرْمِذِيّ كَذَا روى غير وَاحِد عَن مَالك وَشك فِيهِ.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر كل من رَوَاهُ عَن مَالك قَالَ فِيهِ أَو أبي سعيد، إلاَّ أَبَا قُرَّة ومصعبا، فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَن مَالك عَن خبيب عَن حَفْص بن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد جَمِيعًا، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو معَاذ الْبَلْخِي عَن مَالك وَرَوَاهُ الْوَقار زَكَرِيَّا بن يحيى عَن ثَلَاثَة من أَصْحَاب مَالك عَن أبي سعيد وَحده وَلم يُتَابع.
قلت: الثَّلَاثَة هم: عبد الله بن وهب، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، ويوسف بن عَمْرو بن يزِيد.
وَفِي (غرائب) مَالك) للدارقطني: رَوَاهُ أَبُو معَاذ عَن أبي سعيد أَو عَن أبي هُرَيْرَة أَو عَنْهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُمَا قَالَا ... فَذكره.
قلت: وَفِيه رد لما ذكره ابْن عبد الْبر.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن مُسَدّد، وَفِي الرقَاق عَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي الْمُحَاربين عَن مُحَمَّد بن سَلام.
وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن سوار بن عبد الله الْعَنْبَري وَمُحَمّد بن الْمثنى وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي الرقَاق عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَبْعَة) أَي: سَبْعَة أشخاص، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا ليدْخل فِيهِ النِّسَاء، فالأصوليون ذكرُوا أَن إحكام الشَّرْع عَامَّة لجَمِيع الْمُكَلّفين، وَحكمه على الْوَاحِد حكم على الْجَمَاعَة إلاَّ مَا دلّ الدَّلِيل على خُصُوص الْبَعْض فَإِن قلت: مَا وَجه التَّخْصِيص بِذكر هَذِه السَّبْعَة؟ قلت: التَّنْصِيص بِالْعدَدِ فِي شَيْء لَا يَنْفِي الحكم عَمَّا عداهُ، وَقد روى مُسلم من حَدِيث أبي الْيُسْر مَرْفُوعا: (من أنظر مُعسرا أَو وضع لَهُ، أظلهُ الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله) .
وَهَاتَانِ الخصلتان غير الْخِصَال السَّبْعَة الْمَذْكُورَة، فَدلَّ على مَا قُلْنَا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَأما التَّخْصِيص بِذكر هَذِه السَّبْعَة فَيحْتَمل أَن يُقَال فِيهِ: ذَلِك لِأَن الطَّاعَة إِمَّا تكون بَين العَبْد وَبَين الله أَو بَينه وَبَين الْخلق، وَالْأول: إِمَّا أَن يكون بِاللِّسَانِ أَو بِالْقَلْبِ أَو بِجَمِيعِ الْبدن، وَالثَّانِي: إِمَّا أَن يكون عَاما وَهُوَ الْعدْل، أَو خَاصّا وَهُوَ إِمَّا من جِهَة النَّفس وَهُوَ التحاب أَو من جِهَة الْبدن، أَو من جِهَة المَال.
انْتهى.
قلت: أَرَادَ كَونه بِاللِّسَانِ هُوَ الذّكر، وَأَرَادَ كَونه بِالْقَلْبِ هُوَ الْمُعَلق بِالْمَسْجِدِ، وَأَرَادَ بِجِهَة جَمِيع الْبدن الناشيء بِالْعبَادَة، وبجهة المَال: الصَّدَقَة، وَمن جِهَة الْبدن فِي الصُّورَة الْخَاصَّة هِيَ: الْعِفَّة.
قَوْله: (يظلهم الله) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر للمبتدأ أَعنِي قَوْله: (سَبْعَة) .
.

     وَقَالَ  عِيَاض: إِضَافَة الظل إِلَى الله إِضَافَة ملك، وكل ظله فَهُوَ ملكه قلت: إِضَافَة الظل إِلَيْهِ إِضَافَة تشريف ليحصل امتياز هَذَا عَن غَيره، كَمَا يُقَال للكعبة: بَيت الله، مَعَ أَن الْمَسَاجِد كلهَا ملكه.
وَأما الظل الْحَقِيقِيّ فَالله تَعَالَى منزه عَنهُ، لِأَنَّهُ من خَواص الْأَجْسَام، وَيُقَال: المُرَاد ظلّ الْعَرْش، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (سَبْعَة يظلهم الله فِي ظلّ عَرْشه) فَذكر الحَدِيث، ثمَّ كَونهم فِي ظلّ عَرْشه يسْتَلْزم مَا ذكره بَعضهم من أَن معنى: (يظلهم الله) ، يسترهم فِي ستره وَرَحمته.
تَقول الْعَرَب: أَنا فِي ظلّ فلَان، أَي: فِي ستره وكنفه، وتسمي الْعَرَب اللَّيْل: ظلاً، لبرده، وَيُقَال المُرَاد من الظل: ظلّ طُوبَى أَو ظلّ الْجنَّة، وَيرد هَذَا قَوْله: (يَوْم لَا ظلّ إلاَّ ظله) ، لِأَن المُرَاد من الْيَوْم الْمَذْكُور يَوْم الْقِيَامَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عبد الله بن الْمُبَارك صرح بِهِ فِي رِوَايَته عَن عبد الله بن عمر على مَا يَجِيء فِي كتاب الْحُدُود، وظل طُوبَى أَو ظلّ الْجنَّة إِنَّمَا يكون بعد استقرارهم فِي الْجنَّة، وَهَذَا عَام فِي حق كل من يدخلهَا، والْحَدِيث يدل على امتياز هَؤُلَاءِ السَّبْعَة من بَين الْخلق، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ يَوْم الْقِيَامَة يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين، وَدنت مِنْهُم الشَّمْس، ويشتد عَلَيْهِم حرهَا ويأخذهم الْغَرق وَلَا ظلّ هُنَاكَ لشَيْء إِلَّا ظلّ الْعَرْش.

قَوْله: (الْأَمَام الْعَادِل) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أحد السَّبْعَة: الْأَمَام الْعَادِل.
وَالْكَلَام فِيهِ من وُجُوه: الأول: إِن قَوْله: (الْعَادِل) اسْم فَاعل من الْعدْل،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) رَوَوْهُ ... عَادل، وَقد رَوَاهُ بَعضهم؛ عدل، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد أهل اللُّغَة.
يُقَال: رجل عدل.
وَرِجَال عدل، وَامْرَأَة عدل.
وَيجوز أَمَام عَادل على اسْم الْفَاعِل، يُقَال: عدل فَهُوَ عَادل، كَمَا يُقَال: ضرب فَهُوَ ضَارب.
.

     وَقَالَ  ابْن الاثير: الْعدْل فِي الأَصْل مصدر سمي بِهِ فَوضع مَوضِع الْعَادِل، وَهُوَ أبلغ مِنْهُ لِأَنَّهُ جعل الْمُسَمّى نَفسه عدلا.
الثَّانِي: مَعْنَاهُ: الْوَاضِع كل شَيْء فِي مَوْضِعه.
وَقيل: الْمُتَوَسّط بَين طرفِي الإفراط والتفريط، سَوَاء كَانَ فِي العقائد أَو فِي الْأَعْمَال أَو فِي الْأَخْلَاق.
وَقيل: الْجَامِع بَين أُمَّهَات كمالات الْإِنْسَان الثَّلَاث، وَهِي: الْحِكْمَة والشجاعة والعفة الَّتِي هِيَ أوساط القوى الثَّلَاث، أَعنِي: الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة والغضبية والشهوانية.
وَقيل: الْمُطِيع لأحكام الله تَعَالَى.
وَقيل المراعي لحقوق الرّعية وَهُوَ عَام فِي كل من أليه نظر فِي شَيْء من أُمُور الْمُسلمين من الْوُلَاة والحكام.
الثَّالِث: قدم الإِمَام الْعَادِل فِي ذكر السَّبْعَة لِكَثْرَة مَصَالِحه وَعُمُوم نَفعه، فالإمام الْعَادِل يصلح الله بِهِ أمورا عَظِيمَة، وَيُقَال: لَيْسَ أحد أقرب منزلَة من الله تَعَالَى بعد الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، من إِمَام عَادل.
.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
مَا حَكَمَ قوم بِغَيْر حق إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم إِمَامًا جائرا.

قَوْله: (وشاب) أَي: وَالثَّانِي: من السَّبْعَة شَاب نَشأ فِي عبَادَة ربه، يُقَال: نَشأ الصَّبِي ينشأ نَشأ فَهُوَ ناشيء إِذا كبر وشب.
يُقَال: نَشأ وَأَنْشَأَ إِذا خرج وابتدا، وَأَنْشَأَ يفعل كَذَا أَي: ابتدا يفعل، وَفِي رِوَايَة الإِمَام أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (شَاب نَشأ بِعبَادة الله) ، وَهِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا، وَزَاد حَمَّاد بن زيد من عبيد الله بن عمر: (حَتَّى توفّي على ذَلِك) ، أخرجه الجوزقي.
وَفِي حَدِيث سلمَان: (أفنى شبابُه ونشاطه فِي عبَادَة الله) .
فَإِن قلت: لِمَ خص الثَّانِي من السَّبْعَة بالشبابُ، وَلم يقل: رجل نَشأ؟ قلت: لِأَن الْعِبَادَة فِي الشَّبابُُ أَشد وأشق لِكَثْرَة الدَّوَاعِي وَغَلَبَة الشَّهَوَات، وَقُوَّة البواعث على اتِّبَاع الْهوى.

قَوْله: (وَرجل قلبه) أَي: الثَّالِث: رجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد، بِفَتْح اللَّام.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَي: بالمساجد، وحروف الْجَرّ بَعْضهَا يقوم مقَام بعض، وَمَعْنَاهُ: شَدِيد الْحبّ لَهَا والملازمة للْجَمَاعَة فِيهَا.
قلت: رِوَايَة أَحْمد: (مُعَلّق بالمساجد) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (مُتَعَلق) ، بِزِيَادَة التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعد الْمِيم، وَمَعْنَاهُ: شدَّة تعلق قلبه بالمساجد، وَإِن كَانَ خَارِجا عَنهُ، وَتعلق قلبه بالمساجد كِنَايَة عَن انْتِظَاره أَوْقَات الصَّلَوَات فَلَا يُصَلِّي صَلَاة وَيخرج مِنْهُ إلاَّ وَهُوَ منتظر وَقت صَلَاة أُخْرَى حَتَّى يُصَلِّي فِيهِ، وَهَذَا يسْتَلْزم صلَاته أَيْضا بِالْجَمَاعَة.

قَوْله: (ورجلان تحابا) أَي: الرَّابِع: رجلَانِ تحابا، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَصله تحاببا، فَلَمَّا اجْتمع الحرفان المتماثلان أسكن الأول مِنْهُمَا وأدرج فِي الثَّانِي وَهُوَ حد الْإِدْغَام، وَهُوَ من بابُُ: التفاعل،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فَإِن قلت: التفاعل هُوَ الْإِظْهَار إِذْ أصل الْفِعْل حَاصِل لَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ وَلَا يُرِيد حُصُوله نَحْو تجاهلت؟ قلت: قد يَجِيء لغير ذَلِك نَحْو: باعدته فتباعد.
انْتهى.
قلت: التَّحْقِيق فِي هَذَا أَن: تفَاعل، لمشاركة أَمريْن أَو أَكثر فِي أَصله يَعْنِي فِي مصدر فعله الثلاثي صَرِيحًا، نَحْو: تضارب زيد وَعَمْرو، فَلذَلِك نقص مَفْعُولا عَن فَاعل، وَحَاصِله أَن وضع فَاعل لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل مُتَعَلقا بِغَيْرِهِ، مَعَ أَن الْغَيْر فعل مثل ذَلِك وَوضع: تفَاعل، لنسبته إِلَى المشتركين فِي شَيْء من غير قصد إِلَى تعلق لَهُ، فَلذَلِك جَاءَ الأول زَائِدا على الثَّانِي بمفعول أبدا، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَ الْمقَام يَقْتَضِي أَن يُقَال: ورجلان تحاببا، من بابُُ: المفاعلة، لَا من بابُُ: التفاعل، ليدل على أَن الْغَيْر فعل مثل مَا فعل هُوَ، وَالْجَوَاب: عَنهُ أَن تفَاعل، قد يَجِيء للمطاوعة وَهِي كَونهَا دَالَّة على معنى حصل عَن تعلق فعل آخر مُتَعَدٍّ كَقَوْلِك: باعدته فتباعد، فقولك: تبَاعد، عبارَة عَن معنى حصل عَن تعلق فعل مُتَعَدٍّ، وَهَهُنَا كَذَلِك، فَإِن تحابا عبارَة عَن معنى حصل عَن تعلق حابب، وَالْجَوَاب الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي غير مُسْتَقِيم، لِأَن معنى ذَلِك هُوَ الدّلَالَة على أَن الْفَاعِل أظهر أَن الْمَعْنى الَّذِي اشتق مِنْهُ: تفَاعل، حصل لَهُ، مَعَ أَنه لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة كَذَلِك.
فَمَعْنَى: تجاهل زيد أَنه أظهر الْجَهْل من نَفسه، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة، وَلَيْسَ الْمَعْنى هَهُنَا أَنه أظهر الْمحبَّة من نَفسه، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة.
فَافْهَم، فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق.
فَإِن قلت: قَالَ: رجلَانِ، فَيكون الْمَذْكُور ثَمَانِيَة لَا سَبْعَة؟ قلت: مَعْنَاهُ: وَرجل يحب غَيره فِي الله، والمحبة أَمر نسبي فَلَا بُد لَهَا من المنتسبين، فَلذَلِك قَالَ: رجلَانِ.
قَوْله: (فِي الله) أَي: لأجل الله لَا لغَرَض دنياوي، وَكلمَة: فِي، قد تَجِيء للسَّبَبِيَّة، كَمَا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل) ، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة، وَوَقع فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (ورجلان قَالَ كل مِنْهُمَا للْآخر: إِنِّي أحبك فِي الله، فصدرا على ذَلِك) .
قَوْله: (اجْتمعَا على ذَلِك) أَي: على الْحبّ فِي الله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (اجْتمعَا عَلَيْهِ) أَي: على الْحبّ الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي عَلَيْهِ، يَعْنِي: كَانَ سَبَب اجْتِمَاعهمَا حب الله والاستمرار عَلَيْهِ حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَا يحْتَاج إِلَى قَوْله: حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، بل الْمَعْنى: أَنَّهُمَا داما على الْمحبَّة الدِّينِيَّة وَلم يقطعاها بِعَارِض دُنْيَوِيّ، سَوَاء اجْتمعَا حَقِيقَة أَو لَا، حَتَّى فرق بَينهمَا الْمَوْت.

قَوْله: (وَرجل طلبته) أَي: وَالْخَامِس: رجل طلبته امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (دَعَتْهُ امْرَأَة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلمُسلم وللبخاري أَيْضا فِي الْحُدُود: عَن ابْن الْمُبَارك، وَزَاد ابْن الْمُبَارك: (إِلَى نَفسهَا) ، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) ، من طَرِيق أبي صَالح: عَن أبي هُرَيْرَة: (فعرضت نَفسهَا عَلَيْهِ) ، وَظَاهر الْكَلَام أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَة، وَبِه جزم الْقُرْطُبِيّ.
وَقيل: يحْتَمل أَن تكون طلبته إِلَى التَّزْوِيج بهَا فخاف أَن يشْتَغل عَن الْعِبَادَة بالافتتان بهَا، أَو خَافَ أَن لَا يقوم بِحَقِّهَا لشغله بِالْعبَادَة عَن التكسب بِمَا يَلِيق بهَا، وَالْأول أظهر لوُجُود قَرَائِن عَلَيْهِ.
قَوْله: (ذَات منصب) المنصب، بِكَسْر الصَّاد: الْحسب وَالنّسب الشريف.
قَالَ الْجَوْهَرِي: المنصب الأَصْل، وَكَذَلِكَ النّصاب، وَإِنَّمَا خصصها بِالذكر لِكَثْرَة الرَّغْبَة فِيهَا وعسر حُصُولهَا، وَهِي طالبة لذَلِك وَقد أغنت عَن مراودته.
قَوْله: (فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف الله) ، زَاد فِي رِوَايَة كَرِيمَة: (رب الْعَالمين) ،.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: يحْتَمل أَن يَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ زجرا لَهَا عَن الْفَاحِشَة، وَيحْتَمل أَن يَقُول بِقَلْبِه لزجر نَفسه.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا يصدر ذَلِك عَن شدَّة الْخَوْف من الله وَالصَّبْر عَنْهَا لخوف الله من أكمل الْمَرَاتِب وَأعظم الطَّاعَات.

قَوْله: (وَرجل تصدق) أَي: وَالسَّادِس: رجل تصدق أخْفى، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَهُوَ جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير: قد، ومفعول: أخْفى، مَحْذُوف أَي: أخْفى الصَّدَقَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد: (تصدق فأخفى) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: عَن مُسَدّد عَن يحيى (تصدق بِصَدقَة فأخفاها) ، وَمثله لمَالِك فِي (الْمُوَطَّأ) .
وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (تصدق إخفاء) ، بِكَسْر الْهمزَة ممدودا على أَنه مصدر مَنْصُوب، على أَنه حَال بِمَعْنى مخفيا.
قَوْله: (حَتَّى لَا تعلم) ، بِضَم الْمِيم وَفتحهَا، نَحْو: مرض حَتَّى لَا يرجونه، وسرت حَتَّى تغيب الشَّمْس.
قَوْله: (شِمَاله) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله: (لَا تعلم) .
قَوْله: (مَا تنْفق يَمِينه) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول، وَإِنَّمَا ذكر الْيَمين وَالشمَال للْمُبَالَغَة فِي الْإخْفَاء والإسرار بِالصَّدَقَةِ، وَضرب الْمثل بهما لقرب الْيَمين من الشمَال ولملازمتهما، وَمَعْنَاهُ: لَو قدرت الشمَال رجلا متيقظا لما علم صَدَقَة الْيَمين لمبالغته فِي الْإخْفَاء.
وَقيل: المُرَاد مَنْ على شِمَاله من النَّاس.

ثمَّ إعلم أَن أَكثر الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فِي البُخَارِيّ وَغَيره: (حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) ، وَوَقع فِي (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَهُوَ: حَتَّى لَا تعلم يَمِينه مَا تنْفق شِمَاله.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ الَّتِي وصلت إِلَيْنَا من (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَالصَّوَاب الأول قلت: لِأَن السُّنَّة الْمَعْهُودَة إِعْطَاء الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، وَقد ترْجم عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: بابُُ الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَيْسَ الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم وَلَا مِنْهُ، بل هُوَ من شَيْخه أَو شيخ شَيْخه: يحيى الْقطَّان، وَقد طول الْكَلَام فِيهِ، وَلَا يُنكر الْوَهم من مُسلم وَلَا مِمَّن هُوَ دونه أَو فَوْقه، وَيُمكن أَن يكون هَذَا الْقلب من الْكَاتِب واستمرت الروَاة عَلَيْهِ.

قَوْله: (وَرجل) أَي: وَالسَّابِع: رجل ذكر الله خَالِيا، أَي: من الْخلق، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون أبعد من الرِّيَاء، وَقيل: خَالِيا من الِالْتِفَات إِلَى غَيره تَعَالَى، وَلَو كَانَ فِي الْمَلأ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ (ذكر الله بَين يَدَيْهِ) ، وَيُؤَيّد الأول رِوَايَة ابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد بن زيد: (ذكر الله فِي خلاء) ، أَي: فِي مَوضِع خَال،.

     وَقَالَ  بَعضهم: (ذكر الله) أَي: بِقَلْبِه من التَّذَكُّر أَو بِلِسَانِهِ من الذّكر قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الذّكر بِالْقَلْبِ من: الذّكر، بِضَم الذَّال، وباللسان من: الذّكر، بِكَسْر الذَّال، وَأَيْضًا لفظ: ذكر بِلَا قيد، وَلَا يكون مشتقا من التَّذَكُّر، فَمن لَهُ يَد فِي علم التصريف يفهم هَذَا.
قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) ، وَإِنَّمَا أسْند الْفَيْض إِلَى الْعين مَعَ أَن الْعين لَا تفيض، لِأَن الفائض هُوَ الدمع، مُبَالغَة كَأَنَّهَا هِيَ الفائض، وَذَلِكَ كَقَوْلِه: { وَترى أَعينهم تفيض من الدمع} (الْمَائِدَة: 83) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: وفيض الْعين بِحَسب حَال الذاكر وبحسب مَا ينْكَشف لَهُ، فَفِي حَال أَوْصَاف الْجلَال يكون الْبكاء من خشيَة الله، وَفِي حَال أَوْصَاف الْجمال يكون الْبكاء من الشوق إِلَيْهِ، وَيشْهد للْأولِ مَا رَوَاهُ الجوزقي من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (فَفَاضَتْ عَيناهُ من خشيَة الله) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فَضِيلَة الإِمَام الْعَادِل، وَقد روى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عمر رَفعه: (إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا) ،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: مَا أَخْفَر قوم الْعَهْد إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم الْعَذَاب، وَمَا نقص قوم الميكال إلاَّ منعُوا الْقطر، وَلَا كثر الرب فِي قوم إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم الوباء، وَمَا حكم قوم بِغَيْر حق إلاَّ سلط عَلَيْهِم إِمَام جَائِر) .
فالإمام الْعَادِل يصلح الله بِهِ.
وَفِيه: فَضِيلَة الشَّاب الَّذِي نَشأ فِي عبَادَة ربه، وَفِي الحَدِيث: (تعجب رَبك من شَاب لَيست لَهُ ضبوة) .
وَفِيه: فضل من سلم من الذُّنُوب واشتغل بِطَاعَة ربه طول عمره، وَقد يحْتَج بِهِ من قَالَ: إِن الْملك أفضل من الْبشر لأَنهم: { يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون} (الْأَنْبِيَاء: 0) .
وَقيل لِابْنِ عَبَّاس: رجل كثير الصَّلَاة كثير الْقيام يقارف بعض الْأَشْيَاء، وَرجل يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة ويصوم مَعَ السَّلامَة.
قَالَ: لَا أعدل بالسلامة شَيْئا، قَالَ تَعَالَى: { وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إلاَّ اللمم} (النَّجْم: 3) .
وَفِيه: فَضِيلَة من يلازم الْمَسْجِد للصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة، لِأَن الْمَسْجِد بَيت الله وَبَيت كل تَقِيّ، وحقيق على المزور إكرام الزائر، فَكيف بأكرام الكرماء؟ وَفِيه: فَضِيلَة التحاب فِي الله تَعَالَى، فَإِن الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله من الْإِيمَان، وَعند مَالك من الْفَرَائِض، وروى ابْن مَسْعُود والبراء بن عَازِب مَرْفُوعا: إِن ذَلِك من أوثق عرى الْإِيمَان، وروى ثَابت عَن أنس رَفعه: (مَا تحاب رجلَانِ فِي الله إلاَّ كَانَ أفضلهما أشدهما حبا لصَاحبه) ، وروى أَبُو رزين، قَالَ: (قَالَ لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا رزين إِذا خلوت حرك لسَانك بِذكر الله، وَحب فِي الله وَأبْغض فِي الله، فَإِن الْمُسلم إِذا زار فِي الله شيعه سَبْعُونَ ألف ملك يَقُولُونَ: أللهم وَصله فِيك فَصله وَمن فضل المتحابين فِي الله أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا دَعَا لِأَخِيهِ بِظهْر الْغَيْب أَمن الْملك على دُعَائِهِ) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا.
وَفِيه: فَضِيلَة من يخَاف الله قَالَ الله تَعَالَى: { وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} (النازعات: 40، 41) .
.

     وَقَالَ : { وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 46) .
وروى أَبُو معمر عَن سَلمَة بن نبيط عَن عبيد بن أبي الْجَعْد عَن كَعْب الْأَحْبَار، قَالَ: إِن فِي الْجنَّة، لدارا، درة فَوق درة، ولؤلؤة فَوق لؤلؤة، فِيهَا سَبْعُونَ ألف قصر، فِي كل قصر سَبْعُونَ ألف دَار، فِي كل دَار سَبْعُونَ ألف بَيت، لَا ينزلها إلاَّ نَبِي أَو صديق أَو شَهِيد أَو مُحكم فِي نَفسه أَو إِمَام عَادل.
قَالَ سَلمَة: فَسَأَلت عبيدا عَن: الْمُحكم فِي نَفسه: قَالَ: هُوَ الرجل يطْلب الْحَرَام من النِّسَاء أَو من المَال فيتعرض لَهُ، فَإِذا ظفر بِهِ تَركه مَخَافَة الله تَعَالَى، فَذَلِك الْمُحكم فِي نَفسه.
وَفِيه: فَضِيلَة المخفي صدقته ومصداق هَذَا الحَدِيث فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} (الْبَقَرَة: 71) .
.

     وَقَالَ ت الْعلمَاء: هَذَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع، فالسر فِيهَا أفضل لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْإِخْلَاص، وَأبْعد من الرِّيَاء.
وَأما الوجبة فإعلانها أفضل ليقتدي بِهِ فِي ذَلِك.
وَيظْهر دعائم الْإِسْلَام، وَهَكَذَا حكم الصَّوْم فإعلان فرائضها أفضل.
وَاخْتلف فِي السّنَن: كالوتر وركعتي الْفجْر، هَل إعلانهما أفضل أم كتمانهما؟ حَكَاهُ ابْن التِّين،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: وَقد سمعنَا من بعض الْمَشَايِخ: إِن ذَلِك الْإخْفَاء أَن يتَصَدَّق على الضَّعِيف فِي صُورَة الْمُشْتَرى مِنْهُ، فيدفه لَهُ مثلا درهما فِي شَيْء يُسَاوِي نصف دِرْهَم، فالصورة مبايعة والحقيقة صَدَقَة، وَهُوَ اعْتِبَار حسن قيل: إِن أَرَادَ أَن المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث هَذِه الصُّورَة خَاصَّة، فَفِيهِ نظر.
وَإِن أَرَادَ أَن هَذَا أَيْضا من صُورَة الصَّدَقَة المخفية فَمُسلم، وَفِي (مُسْند أَحْمد) رَحمَه الله، من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِإِسْنَاد حسن مَرْفُوعا: (إِن الْمَلَائِكَة قَالَت: يَا رب! هَل من خلقك شَيْء أَشد من الْجبَال؟ قَالَ: نعم، الْحَدِيد.
قَالَت: فَهَل أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم، النَّار، قَالَت: فَهَل أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم، المَاء.
قَالَت: فَهَل أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم، الرّيح.
قَالَت: فَهَل أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم، ابْن آدم، يتَصَدَّق بِيَمِينِهِ فيخفيها عَن شِمَاله) .
وَفِيه: فَضِيلَة ذكر الله فِي الخلوات مَعَ فيضان الدمع من عَيْنَيْهِ، وروى أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (لَا يلج النَّار أحد بَكَى من خشيَة الله حَتَّى يعود اللَّبن فِي الضَّرع) .
وروى أَبُو عمرَان: (عَن أبي الْخلد، قَالَ: قَرَأت فِي مَسْأَلَة دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ربه تَعَالَى: إلهي مَا جَزَاء من بَكَى من خشيتك حَتَّى تسيل دُمُوعه على وَجهه؟ قَالَ: أسلم وَجهه من لفح النَّار) .
وروى الْحَاكِم من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: (من ذكر الله فَفَاضَتْ عَيناهُ من خشيَة الله حَتَّى يُصِيب الأَرْض من دُمُوعه لم يعذب يَوْم الْقِيَامَة) .





[ قــ :641 ... غــ :661 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سُئِلَ أنَسٌ هِلِ اتَّخَذَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاتَما فَقَالَ نَعَمْ أخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ العِشَاءِ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى فقالَ صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا قَالَ فَكَأنِّي أنْظُرُ إلَى وَبِيصِ خاتَمِهِ.


مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (من جلس فِي الْمَسْجِد ينْتَظر الصَّلَاة) ، وَفِي الحَدِيث هُوَ قَوْله: (وَلم تزالوا فِي صَلَاة مُنْذُ انتظرتموها) .

وَرِجَاله: قُتَيْبَة بن سعيد، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَحميد هُوَ الطَّوِيل.
وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي: بابُُ وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، عَن عبد الرَّحِيم الْمحَاربي عَن زَائِدَة عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس قَالَ: (أخر النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ صلى، ثمَّ قَالَ: قد صلوا النَّاس وناموا، أما إِنَّكُم فِي صَلَاة مَا انتظرتموها) .
وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

قَوْله: (إِلَى شطر اللَّيْل) أَي: نصفه، على مَا صرح بِهِ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
قَوْله: (وبيص خَاتمه) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالصاد الْمُهْملَة، وَهُوَ: بريق الْخَاتم ولمعانه.