فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر، حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن

( بابُُ مَا يُكْرَهُ أنْ يَكُونَ الغالِبَ عَلَى الإنْسَانِ الشِّعْرُ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ الله والعِلْمِ والقُرْآنِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان كَرَاهَة كَون الْغَالِب على الْإِنْسَان الشّعْر حَتَّى يصده أَي: يمنعهُ عَن ذكر الله ومذاكرة الْعلم وَقِرَاءَة الْقُرْآن،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْغَالِب بِالرَّفْع وَالنّصب.
قلت: أما الرّفْع فعلى أَن يكون إسم: كَانَ وَخَبره قَوْله: الشّعْر، وَأما النصب فعلى الْعَكْس، وَهُوَ أَن يكون الشّعْر هُوَ اسْمه وَالْغَالِب خَبره.



[ قــ :5825 ... غــ :6154 ]
- حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى أخبرنَا حَنْظَلَةُ عَنْ سالِمٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لأنْ يَمْتَلِىءَ جَوْفُ أحدِكُمْ قَيْحاً خَيْرٌ مِنْ أنْ يَمْتَلِىءَ شِعْراً.


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ لِأَن امتلاء الْجوف بالشعر كِنَايَة عَن كَثْرَة الِاشْتِغَال بِهِ حَتَّى يكون وقته مُسْتَغْرقا بِهِ فَلَا يتفرغ لذكر الله، عز وَجل، وَلَا لقِرَاءَة الْقُرْآن وَتَحْصِيل الْعلم، وَهَذَا هُوَ المذموم.
وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن ذكر الله تَعَالَى وَقِرَاءَة الْقُرْآن والاشتغال بِالْعلمِ إِذا كَانَت غالبة عَلَيْهِ فَلَا يدْخل تَحت هَذَا الذَّم.

وَعبيد الله بن مُوسَى هُوَ أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وحَنْظَلَة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الظَّاء الْمُعْجَمَة وباللام ابْن أبي سُفْيَان الجُمَحِي الْقرشِي من أهل مَكَّة وَاسم أبي سُفْيَان الْأسود، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر يروي عَن أَبِيه.

والْحَدِيث أخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يُونُس قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب قَالَ: سَمِعت حَنْظَلَة قَالَ: سَمِعت سَالم بن عبد الله يَقُول: سَمِعت عبد الله بن عمر يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مثله، وَهَذَا السَّنَد أقوى من سَنَد البُخَارِيّ على مَا لَا يخفى، وَيُونُس هُوَ ابْن عبد الْأَعْلَى الصَّدَفِي الْمصْرِيّ شيخ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه.

قَوْله: ( لِأَن يمتلىء) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد وَأَن مَصْدَرِيَّة وَهُوَ فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وَخَبره هُوَ قَوْله: ( خير لَهُ) .
قَوْله: ( قَيْحا) نصب على التَّمْيِيز وَهُوَ الصديد الَّذِي يسيل من الدمل وَالْجرْح، وَيُقَال: هُوَ الْمدَّة الَّتِي لَا يخالطها الدَّم، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن عَمْرو بن حُرَيْث عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء مشعراً) .
وَأخرجه الْبَزَّار ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ غير وَاحِد عَن إِسْمَاعِيل عَن عَمْرو بن حُرَيْث عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مَوْقُوفا، وَلَا نعلم أحدا أسْندهُ إلاَّ خَلاد عَن سُفْيَان، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا مَوْقُوفا، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث مُحَمَّد بن سعد عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا حَتَّى يرِيه، خير لَهُ من أَن يمتلىء مشعراً) .
وَأخرجه مُسلم أَيْضا، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة على مَا نذكرهُ عَن قريب، وروى أَيْضا من حَدِيث عَوْف بن مَالك، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: ( لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم من عانته إِلَى لهاته قَيْحا يتخضخض، خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) ، وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ قَالَ: وَفِي الْبابُُ عَن أبي سعيد وَأبي الدَّرْدَاء.
قلت: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه مُسلم قَالَ: بَيْنَمَا نَحن نسير مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالعرج إِذْ عرض علينا شَاعِر ينشد، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( احْذَرُوا الشَّيْطَان أَو أَمْسكُوا الشَّيْطَان لِأَن يمتلىء جَوف رجل قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء مشعراً) .
وَحَدِيث أبي الدَّرْدَاء أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث خَالِد بن معدان عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) .
وَلما أخرج الطَّحَاوِيّ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة قَالَ: فكره قوم رِوَايَة الشّعْر وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآثَار.
قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ مسروقاً وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَالم بن عبد الله وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب فَإِنَّهُم قَالُوا: يكره رِوَايَة الشّعْر وإنشاده، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَا بَأْس بِرِوَايَة الشّعْر الَّذِي لَا قذع فِيهِ.
قلت: أَرَادَ بالآخرين: الشّعبِيّ وعامر بن سعد وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم والقوري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبا حنيفَة ومالكاً وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبا يُوسُف ومحمداً وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبا ثَوْر وَأَبا عبيد، فأنهم قَالُوا: لَا بَأْس بِرِوَايَة الشّعْر الَّذِي لَيْسَ فِيهِ هجاء وَلَا نكت عرض أحد من الْمُسلمين وَلَا فحش، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب والبراء بن عَازِب وَأنس بن مَالك وَعبد الله بن عَبَّاس وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله بن الزبير وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَعمْرَان بن الْحصين وَالْأسود بن سريع وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
قَوْله: ( لَا قذع فِيهِ) ، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبعين مُهْملَة وَهُوَ الْفُحْش والخنى، ثمَّ أجَاب الطَّحَاوِيّ عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِمَا ملخصه، قيل لعَائِشَة: إِن أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: ( لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء مشعراً) ، فَقَالَت عَائِشَة: يرْجم الله أَبَا هُرَيْرَة، حفظ أول الحَدِيث وَلم يحفظ آخِره: ( إِن الْمُشْركين كَانُوا يَهْجُونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا من مهاجاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
وَقَوله: ( جَوف أحدكُم) ظَاهره الْجوف مُطلقًا بِمَا فِيهِ من الْقلب وَغَيره وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْقلب خَاصَّة، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر لِأَن الْقلب إِذا وصل إِلَيْهِ شَيْء مِنْهُ وَإِن كَانَ يَسِيرا فَإِنَّهُ يَمُوت لَا محَالة بِخِلَاف غير الْقلب.
وَقَوله: ( شعرًا) ظَاهره الْعُمُوم لكنه مَخْصُوص بِمَا لم يكن مدحاً لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا يشْتَمل على الذّكر والزهد وَسَائِر المواعظ مِمَّا لَا إفراط فِيهِ.





[ قــ :586 ... غــ :6155 ]
- حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حدّثنا الأعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صالِحٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لأنْ يَمْتَلِىءَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحاً حَتَّى يَرِيَه خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِىءَ شِعْراً.


مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق للتَّرْجَمَة.
وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات عَن أبي هُرَيْرَة.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الطِّبّ.
وَابْن مَاجَه فِي الْأَدَب جَمِيعًا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.

قَوْله: ( حَتَّى يرِيه) ، زَاد هَذِه اللَّفْظَة أَبُو ذَر فِي رِوَايَته عَن الْكشميهني، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَنسبه بَعضهم إِلَى الْأصيلِيّ أَيْضا، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عَاصِم عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِدُونِ هَذِه اللَّفْظَة، ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد: حَتَّى يرِيه، ولسائر رُوَاة الصَّحِيح: قَيْحا يرِيه، بِإِسْقَاط حق.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَأَبُو عوَانَة وَابْن حبَان من طرق عَن الْأَعْمَش فِي أَكْثَرهَا حَتَّى يرِيه،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: وَقع فِي حَدِيث سعد عِنْد مُسلم حَتَّى يرِيه، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد البُخَارِيّ بِإِسْقَاط حَتَّى، فعلى ثُبُوتهَا يقْرَأ: يرِيه، بِالنّصب وعَلى حذفهَا بِالرَّفْع ويريه بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الرَّاء من الوري وَهُوَ الدَّاء يُقَال: ورى يري فَهُوَ موري إِذا أصَاب جَوْفه الدَّاء،.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: الوري مثل الرَّمْي دَاء بداخل الْجوف، يُقَال: رجل موري بِغَيْر همز،.

     وَقَالَ  الْفراء: هُوَ الوري بِفَتْح الرَّاء،.

     وَقَالَ  ثَعْلَب: هُوَ بِالسُّكُونِ مصدر، وبالفتح إسم.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: ورى الْقَيْح جَوْفه يرِيه ورياً: أكله.
.

     وَقَالَ  قوم: حَتَّى يُصِيب رئته، وَأنْكرهُ غَيرهم لِأَن الرئة مَهْمُوزَة وَإِذا بنيت فعلا قلت: رأه يرآه،.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: إِن الرئة أَصْلهَا من ورى وَهِي محذوفة، مِنْهُ تَقول: وريت الرجل فَهُوَ موري إِذا أصبت رئته، وَالْمَشْهُور فِي الرئة الْهَمْز.
<"