فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها} [البقرة: 189]

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { وٍّ أتُوا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا} ( الْبَقَرَة: 981) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة.



[ قــ :1723 ... غــ :1803 ]
- حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ نَزَلَتْ هذهِ الآيَةُ فِينَا كانَتِ الأنْصَارُ إذَا حَجُّوا فَجَاؤا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أبْوَابِ بُيُوتِهِمْ ولَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا فَجاءَ رَجُلٌ منَ الأنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بابُِهِ فَكَأنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ { ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا} ( الْبَقَرَة: 981) .

( الحَدِيث 3081 طرفه فِي: 2154) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبيد الله السبيعِي الْكُوفِي رَحمَه الله.

قَوْله: ( كَانَت الْأَنْصَار إِذا حجُّوا فجاؤا) ، قَالَ بَعضهم: هَذَا ظَاهر فِي اخْتِصَاص ذَلِك بالأنصار؟ قلت: لَا نسلم دَعْوَى الِاخْتِصَاص فِي ذَلِك، لِأَن هَذَا إِخْبَار عَن الْأَنْصَار أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي ذَلِك عَن غَيرهم، وَقد روى ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم فِي ( صَحِيحَيْهِمَا) من طَرِيق عمار بن زُرَيْق عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان ( عَن جَابر، قَالَ: كَانَت قُرَيْش تدعى الحمس، وَكَانُوا يدْخلُونَ من الْأَبْوَاب فِي الْإِحْرَام، وَكَانَت الْأَنْصَار وَسَائِر الْعَرَب لَا يدْخلُونَ من الْأَبْوَاب، فَبَيْنَمَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بُسْتَان فَخرج من بابُُه، فَخرج مَعَه قُطْبَة بن عَامر الْأنْصَارِيّ، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِن قُطْبَة رجل فَاجر، فَإِنَّهُ خرج مَعَك من الْبابُُ.
فَقَالَ: مَا حملك على ذَلِك؟ قَالَ: رَأَيْتُك فعلته فَفعلت كَمَا فعلت، قَالَ: إِنِّي أحمس.
قَالَ: فَإِن ديني دينك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة)
.
وَفِي ( تَفْسِير) مقَاتل بن سُلَيْمَان: كَانَت الْأَنْصَار فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا أحرم أحدهم بِالْحَجِّ أَو الْعمرَة وَهُوَ من أهل الْمدر، وَهُوَ مُقيم فِي أَهله لم يدْخل منزله من قبل الْبابُُ، وَلَكِن يوضع لَهُ سلم فيصعد عَلَيْهِ وينحدر مِنْهُ، أَو يتسور من الْجِدَار أَو ينقب بعض جدره، فَيدْخل مِنْهُ وَيخرج، فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يتَوَجَّه إِلَى مَكَّة محرما، وَإِن كَانَ من أهل الْوَبر دخل وَخرج من وَرَاء بَيته، وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل يَوْمًا نخلا لبني النجار، وَدخل مَعَه قُطْبَة بن عَامر بن حَدِيدَة الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ من قبل الْجِدَار، وَهُوَ محرم، فَلَمَّا خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْبابُُ وَهُوَ محرم خرج مَعَه قُطْبَة من الْبابُُ، فَقَالَ رجل: هَذَا قُطْبَة! فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا حملك أَن تخرج من الْبابُُ وَأَنت محرم؟ فَقَالَ: يَا نَبِي الله رَأَيْتُك خرجت من الْبابُُ وَأَنت محرم، فَخرجت مَعَك، وديني دينك.
فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خرجت لِأَنِّي من الحمس.
فَقَالَ قُطْبَة: إِن كنت أحمس فَأَنا أحمس، وَقد رضيت بهداك.
فَأنْزل الله تَعَالَى: { وَلَيْسَ الْبر} ( الْبَقَرَة: 981) .
قَوْله: ( فجَاء رجل) ، قيل: إِنَّه هُوَ قُطْبَة بن عَامر الْمَذْكُور.
وَقيل: هُوَ رِفَاعَة بن تَابُوت، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ عبد بن حميد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن قيس بن جرير أَن النَّاس كَانُوا إِذا أَحْرمُوا وَلم يدخلُوا حَائِطا من بابُُه وَلَا دَارا من بابُُهَا، فَدخل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه دَارا، وَكَانَ رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ رِفَاعَة بن تَابُوت، فجَاء فتسور الْحَائِط، ثمَّ دخل على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا خرج من بابُُ الدَّار خرج مَعَه رِفَاعَة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا حملك على ذَلِك؟ قَالَ: رَأَيْتُك خرجت مِنْهُ فَخرجت.
فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي أحمس.
فَقَالَ الرجل: إِن ديننَا وَاحِد، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قلت: هَذَا مُرْسل، وَحَدِيث جَابر مُسْند وَهُوَ أقوى.
فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يحمل على التَّعَدُّد؟ قلت: لَا مَانع من هَذَا، وَلَكِن ثمَّة مَانع آخر لِأَن رِفَاعَة بن تَابُوت مَعْدُود فِي الْمُنَافِقين، وَهُوَ الَّذِي هبت الرّيح الْعَظِيمَة لمَوْته، كَمَا وَقع فِي ( صَحِيح مُسلم) مُبْهما، وَفِي غَيره مُفَسرًا، فَيتَعَيَّن أَن يكون ذَلِك الرجل قُطْبَة بن عَامر، وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا أَن فِي مُرْسل الزُّهْرِيّ عِنْد الطَّبَرِيّ: فَدخل رجل من الْأَنْصَار من بني سَلمَة، وَقُطْبَة من بني سَلمَة، بِخِلَاف رِفَاعَة.
قَوْله: ( من قبل بابُُه) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: ( فَكَأَنَّهُ عير) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة على صِيغَة الْمَجْهُول من التعيير.
وَهُوَ التعييب.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: يُقَال، عيره كَذَا، والعامة تَقول: عيره بِكَذَا، قَوْله: ( فَنزلت) أَي: هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: { وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} ( الْبَقَرَة: 981) .
الْآيَة.
وَحَدِيث الْبابُُ يدل على أَن سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا ذكر فِيهِ.
وروى عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم فِي ( تَفْسِيره) : حَدثنَا زيد بن حبابُ عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة: سَمِعت مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ يَقُول: كَانَ الرجل إِذا اعْتكف لم يدْخل منزله من بابُُ الْبَيْت، فَنزلت الْآيَة.
وَحدثنَا عِصَام بن رواد حَدثنَا آدم عَن ابْن شيبَة عَن عَطاء، قَالَ: كَانَ أهل يثرب إِذا رجعُوا من عِنْدهم دخلُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا، ويريدون أَن ذَلِك أدنى إِلَى الْبر، فَقَالَ الله تَعَالَى: { وَلَيْسَ الْبر} ( الْبَقَرَة: 981) .
الْآيَة.
وَحدثنَا الْحسن بن أَحْمد حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن بشار، حَدثنِي سرُور بن الْمُغيرَة عَن عباد بن مَنْصُور عَن الْحسن، قَالَ: كَانَ أَقوام من أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا أَرَادَ أحدهم سفرا أَو خرج من بَيته يُرِيد سفرا، ثمَّ بدا لَهُ من بعد خُرُوجه أَن يُقيم ويدع سَفَره الَّذِي خرج لَهُ لم يدْخل الْبَيْت من بابُُه، وَلَكِن يتسوره من قبل ظَهره تسورا، فَنزلت الْآيَة.
.

     وَقَالَ  الزّجاج: كَانَ قوم من قُرَيْش وَجَمَاعَة مَعَهم من الْعَرَب إِذا خرج الرجل مِنْهُم فِي حَاجَة فَلم يقضها وَلم يَتَيَسَّر لَهُ رَجَعَ فَلم يدْخل من بابُُ بَيته سنة يفعل ذَلِك طيرة، فأعلمهم الله تَعَالَى أَن هَذَا غير بر.
.

     وَقَالَ  النَّسَفِيّ: كَانَت الحمس، وهم المشددون على أنفسهم من بني خُزَاعَة وَبني كنَانَة فِي الْجَاهِلِيَّة وبدء الأسلام، إِذا أَحْرمُوا أَو اعتكفوا لم يدخلُوا بُيُوتهم من أَبْوَابهَا، فَإِن كَانَت فِي بُيُوتهم من الْخيام رفعوا ذيولها، وَإِن كَانَت من الْمدر نقبوا فِي ظُهُور بُيُوتهم فَدَخَلُوا مِنْهَا، أَو من قبل السَّطْح.
وَقَالُوا: لَا ندخل بُيُوتًا من الْبابُُ حَتَّى ندخل بَيت الله، وَكَانَ مِنْهُم من لَا يستظل تَحت سقف بعد إِحْرَامه، وَلَا يدْخل بَيْتا من بابُُه وَلَا من خَلفه، وَلَكِن يصعد السَّطْح فيأمر بحاجته من السَّطْح، وَهَذِه الْأَشْيَاء وضعوها من عِنْد أنفسهم من غير شرع، فعرفهم الله تَعَالَى أَن هَذَا التَّشْدِيد لَيْسَ ببر، وَلَا قربَة.
وَفِي ( التلويج) .

     وَقَالَ  الْأَكْثَرُونَ من أهل التَّفْسِير: إِنَّهُم الحمس، وهم قوم من قُرَيْش، وَبَنُو عَامر بن صعصعة وَثَقِيف وخزاعة كَانُوا إِذا أَحْرمُوا لَا يأفطون الأقط، وَلَا يَنْتَفِعُونَ الْوَبر، وَلَا يسلون السّمن، وَإِذا خرج أحدهم من الْإِحْرَام لم يدْخل من بابُُ بَيته، فَنزلت الْآيَة.
فَإِن قلت: مَتى نزلت الْآيَة الْمَذْكُورَة؟ قلت: روى أَبُو جَعْفَر فِي ( تَفْسِيره) : حَدثنَا عَمْرو بن هَارُون، حَدثنَا عَمْرو بن حَمَّاد حَدثنَا أَسْبَاط ( عَن السّديّ: كَانَ نَاس من الْعَرَب إِذا حجُّوا لم يدخلُوا بُيُوتهم من أَبْوَابهَا، كَانُوا ينقبون من أدبارها، فَلَمَّا حج سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع، أقبل يمشي وَمَعَهُ رجل من أُولَئِكَ، وَهُوَ مُسلم، فَلَمَّا بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بابُُ الْبَيْت احْتبسَ الرجل خَلفه،.

     وَقَالَ  يَا رَسُول الله! إِنِّي أحمس.
يَقُول: محرم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أَيْضا أحمس، فَادْخُلْ فَدخل الرجل فَنزلت الْآيَة)
وروى ابْن جرير من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْقِصَّة وَقعت أول مَا قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَجَاء فِي مُرْسل الزُّهْرِيّ أَن ذَلِك وَقع فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة.