فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها

( بَاب الْكفَالَة فِي الْقَرْض والديون بالأبدان وَغَيرهَا)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْكفَالَة فِي الْقَرْض والديون أَي دُيُون الْمُعَامَلَات وَهُوَ من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص قَوْله " بالأبدان " يتَعَلَّق بِالْكَفَالَةِ قَوْله " وَغَيرهمَا " أَي وَغير الْأَبدَان وَهِي الْكفَالَة بالأموال وَفِي بعض النّسخ بَاب الْكفَالَة فِي القروض والديون وَوجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْحِوَالَة من حَيْثُ أَن الْحِوَالَة وَالْكَفَالَة الَّتِي هِيَ الضَّمَان متقاربان لِأَن كلا مِنْهُمَا نقل دين من ذمَّة إِلَى ذمَّة وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.

     وَقَالَ  الْمُهلب الْكفَالَة بالقرض الَّذِي هُوَ السّلف بالأموال كلهَا جَائِزَة وَحَدِيث الْخَشَبَة الملقاة فِي الْبَحْر أصل فِي الْكفَالَة بالديون من قرض كَانَت أَو بيع ( وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه أَن عمر رَضِي الله عَنهُ بَعثه مُصدقا فَوَقع رجلا على جَارِيَة امْرَأَته فَأخذ حَمْزَة من الرجل كَفِيلا حَتَّى قدم على عمر وَكَانَ عمر قد جلده مائَة جلدَة فَصَدَّقَهُمْ وعذره بالجهالة) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَأَخذه حَمْزَة من الرجل كَفِيلا) ، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد الله بن ذكْوَان وَقد تكَرر ذكره، وَمُحَمّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ حجازي ذكره ابْن حبَان فِي ( الثِّقَات) ، وروى لَهُ النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَأَبُو دَاوُد والطحاويي وَأَبُو حَمْزَة بن عَمْرو بن عُوَيْمِر بن الْحَارِث الْأَعْرَج الْأَسْلَمِيّ، يكنى أَبَا صَالح، وَقيل: أَبَا مُحَمَّد مَاتَ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَله صُحْبَة وَرِوَايَة.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم، قَالَ: أخبرنَا ابْن أبي الزِّنَاد، قَالَ: حَدثنِي أبي عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَعثه مُصدقا على سعد ابْن هذيم، فَأتى حَمْزَة بِمَال ليصدقه، فَإِذا رجل يَقُول لامْرَأَته: أُدي صَدَقَة مَال مَوْلَاك، وَإِذا الْمَرْأَة تَقول لَهُ: بل أَنْت فأدِّ صَدَقَة مَال أَبِيك، فَسَأَلَهُ حَمْزَة عَن أمرهَا وقولهما: فَأخْبر أَن ذَلِك الرجل زوج تِلْكَ الْمَرْأَة، وَأَنه وَقع على جَارِيَة لَهَا، فَولدت ولدا فأعتقته امْرَأَته، قَالُوا: فَهَذَا المَال لِابْنِهِ من جاريتها، فَقَالَ لَهُ حَمْزَة لأرجمنك بِالْحِجَارَةِ، فَقيل لَهُ: أصلحك الله، إِن أمره قد رفع إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فجلده عمر مائَة وَلم ير عَلَيْهِ الرَّجْم، فَأخذ حَمْزَة بِالرجلِ كَفِيلا حَتَّى يقدم على عمر فيسأله عَمَّا ذكر من جلد عمر إِيَّاه وَلم ير عَلَيْهِ رجما، فَصَدَّقَهُمْ عمر بذلك، من قَوْلهم،.

     وَقَالَ : إِنَّمَا دَرأ عَنهُ الرَّجْم عذره بالجهالة.
انْتهى.
قَوْله: ( مُصدقا) بتَشْديد الدَّال الْمَكْسُورَة على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من التَّصْدِيق، أَي: أَخذ الصَّدَقَة عَاملا عَلَيْهَا، فَصَدَّقَهُمْ، بِالتَّخْفِيفِ أَي: صدق الرجل للْقَوْم واعترف بِمَا وَقع مِنْهُ، لكنه اعتذر بِأَنَّهُ لم يكن عَالما بِحرْمَة وطىء جَارِيَة امْرَأَته أَو بِأَنَّهَا جاريتها، لِأَنَّهَا التبست واشتبهت بِجَارِيَة نَفسه أَو بِزَوْجَتِهِ، أَو صدق عمر الكفلاء فِيمَا كَانُوا يَدعُونَهُ أَنه قد جلده مرّة لذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون الصدْق بِمَعْنى الْإِكْرَام كَقَوْلِه تَعَالَى: { فِي مقْعد صدق} ( الْقَمَر: 55) .
أَي: كريم، فَمَعْنَاه: فَأكْرم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الكفلاء وَعذر الرجل بِجَهَالَة الْحُرْمَة أَو الِاشْتِبَاه.
قَوْله: ( فَأخذ حَمْزَة من الرجل كَفِيلا) ، لَيْسَ المُرَاد من الْكفَالَة هَهُنَا الْكفَالَة الْفِقْهِيَّة، بل المُرَاد التعهد والضبط عَن حَال الرجل.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: كَانَ ذَلِك على سَبِيل التَّرْهِيب على الْمَكْفُول بِبدنِهِ والاستيثاق، لَا أَن ذَلِك لَازم للْكَفِيل إِذا زَالَ الْمَكْفُول بِهِ، واستفيد من هَذِه الْقِصَّة مَشْرُوعِيَّة الْكفَالَة بالأبدان، فَإِن حَمْزَة بن عَمْرو صَحَابِيّ، وَقد فعله وَلم يُنكر عَلَيْهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعَ كَثْرَة الصَّحَابَة حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا جلد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للرجل مائَة تعزيرا وَكَانَ ذَلِك بِحَضْرَة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: فِيهِ شَاهد لمَذْهَب مَالك فِي مُجَاوزَة الإِمَام فِي التَّعْزِير قدر الْحَد، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فعل صَحَابِيّ عَارضه مَرْفُوع صَحِيح فَلَا حجَّة فِيهِ.
قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء، فمذهب مَالك وَأبي ثَوْر وَأبي يُوسُف فِي قَول الطَّحَاوِيّ: إِن التَّعْزِير لَيْسَ لَهُ مِقْدَار مَحْدُود، وَيجوز للْإِمَام أَن يبلغ بِهِ مَا رَآهُ وَأَن يتَجَاوَز بِهِ الْحُدُود.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: التَّعْزِير مائَة جلدَة فَأَقل.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: أَكثر التَّعْزِير مائَة جلدَة إلاَّ جلدَة.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: أَكْثَره تِسْعَة وَتسْعُونَ سَوْطًا فَأَقل، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى، وَأبي يُوسُف فِي رِوَايَة.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: أَكْثَره ثَلَاثُونَ سَوْطًا.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: أَكْثَره عشرُون سَوْطًا.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: لَا يتَجَاوَز بالتعزير تِسْعَة، وَهُوَ بعض قَول الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: أَكْثَره عشرَة أسواذ فَأَقل لَا يتَجَاوَز بِهِ أَكثر من ذَلِك، وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الظَّاهِر، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَهُوَ قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا يجلد فَوق عشر جلدات إلاَّ فِي حد من حُدُود الله) ، بِأَنَّهُ فِي حق من يرتدع بالردع، ويؤثر فِيهِ أدنى الزّجر كأشراف النَّاس وأشراف أَشْرَافهم، وَأما السفلة وأسقاط النَّاس فَلَا يُؤثر فيهم عشر جلدات وَلَا عشرُون، فيعزرهم الإِمَام بِحَسب مَا يرَاهُ، وَقد ذكر الطَّحَاوِيّ حَدِيث حَمْزَة بن عَمْرو الْمَذْكُور فِي: بَاب الرجل يَزْنِي بِجَارِيَة امْرَأَته، فروى فِي أول الْبَاب حَدِيث سَلمَة بن المحبق: أَن رجلا زنى بِجَارِيَة امْرَأَته، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن كَانَ استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا، وَإِن كَانَت طاوعة فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا) .
ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الحكم فِيمَن زنى بِجَارِيَة امْرَأَته.
قلت: أَرَادَ بالقوم: الشّعبِيّ وعامر بن مطر وَقبيصَة وَالْحسن، ثمَّ قَالَ الطحاويي: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: بل نرى عَلَيْهِ الرَّجْم إِن كَانَ مُحصنا، وَالْجَلد: إِن كَانَ غير مُحصن.
قلت: أَرَادَ بالآخرين هَؤُلَاءِ جَمَاهِير الْفُقَهَاء من التَّابِعين، وَمن بعدهمْ مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم، ثمَّ أجابوا عَن حَدِيث سَلمَة بن المحبق أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَلَفظ أبي دَاوُد: أَن رجلا يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن حنين وَقع على جَارِيَة امْرَأَته، فَرفع إِلَى النُّعْمَان بن بشير، وَهُوَ أَمِير على الْكُوفَة، فَقَالَ: لأقضين فِيك بقضية رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن كَانَت أحلَّتها لَك جلدتك مائَة، وَإِن لم تكن أحلَّتها لَك رَجَمْتُك بِالْحِجَارَةِ، فوجدوها أحلَّتها لَهُ، فجلده مائَة.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَثَبت بِهَذَا مَا رَوَاهُ سَلمَة بن المحبق، قَالُوا: قد عمل عبد الله بن مَسْعُود بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا فِي حَدِيث سَلمَة فَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن هَذَا بقوله: وَخَالفهُ فِي ذَلِك حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، وسَاق حَدِيثه على مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا،.

     وَقَالَ  أَيْضا: وَقد أنكر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عبد الله بن مَسْعُود فِي هَذَا قَضَاءَهُ بِمَا قد نسخ، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْحسن، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم عَن خَالِد الْحذاء عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: ذكر لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شَأْن الرجل الَّذِي أَتَى ابْن مَسْعُود وَامْرَأَته، وَقد وَقع على جَارِيَة امْرَأَته، فَلم ير عَلَيْهِ حدا، فَقَالَ عَليّ: لَو أَتَانِي صَاحب ابْن أم عبد لرضخت رَأسه بِالْحِجَارَةِ، لم يدرِ ابْن أم عبد مَا حدث بعده، فَأخْبر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن ابْن مَسْعُود تعلق فِي ذَلِك بِأَمْر قد كَانَ ثمَّ نسخ بعده، فَلم يعلم ابْن مَسْعُود بذلك، وَقد خَالف عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ عَن عبد الله ابْن مَسْعُود فِي الحكم الْمَذْكُور، وَذهب إِلَى قَول من خَالف عبد الله، وَالْحَال أَن عَلْقَمَة أعلم أَصْحَاب عبد الله بِعَبْد الله وأجلهم، فَلَو لم يثبت نسخ مَا كَانَ ذهب إِلَيْهِ عبد الله لما خَالف قَوْله، مَعَ جلالة قدر عبد الله عِنْده.
وَقَالَ جرِيرٌ والأشْعَثُ لِعَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ فِي المُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ وكَفِّلْهُمْ فتابُوا وكَفَلَهُمْ عَشائِرُهُمْ مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وكفلهم) وَلَا خلاف فِي جَوَاز الْكفَالَة بِالنَّفسِ، جرير هُوَ ابْن عبد الله البَجلِيّ، والأشعث بن قيس الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق مُخْتَصر من قصَّة أخرجَا الْبَيْهَقِيّ بِطُولِهَا من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن حَارِثَة بن مضرب، قَالَ: صليت الْغَدَاة مَعَ عبد الله بن مَسْعُود، فَلَمَّا سلم قَامَ رجل فَأخْبرهُ أَنه انْتهى إِلَى مَسْجِد بني حنيفَة، فَسمع مُؤذن عبد الله بن نواحة يشْهد أَن مُسَيْلمَة رَسُول الله، فَقَالَ عبد الله: عَليّ بِابْن النواحة وَأَصْحَابه، فجيء بهم، فَأمر قُرَيْظَة بن كَعْب فَضرب عنق ابْن النواحة، ثمَّ اسْتَشَارَ النَّاس فِي أُولَئِكَ النَّفر، فَأَشَارَ إِلَيْهِ عدي بن حَاتِم بِقَتْلِهِم، فَقَامَ جرير والأشعث فَقَالَا: بل استتبهم وكفلهم عَشَائِرهمْ، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم أَن عدَّة الْمَذْكُورين كَانُوا مائَة وَسبعين رجلا، وَمعنى التكفيل هُنَا مَا ذَكرْنَاهُ فِي حديطث حَمْزَة بن عَمْرو: الضَّبْط والتعهد حَتَّى لَا يرجِعوا إِلَى الارتداد، لَا أَنه كَفَالَة لَازِمَة.
وَقَالَ حَمَّادٌ إذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمات فَلا شَيْءَ علَيْهِ.

     وَقَالَ  الحَكَمُ يَضْمَن حَمَّاد هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان، واسْمه مُسلم الْأَشْعَرِيّ أَبُو إِسْمَاعِيل الْكُوفِي الْفَقِيه، وَهُوَ أحد مَشَايِخ الإِمَام أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأكْثر الرِّوَايَة عَنهُ، وَثَّقَهُ يحيى بن معِين وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة.
وَالْحكم، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن عتيبة، ومذهبه أَن الْكَفِيل بِالنَّفسِ يضمن الْحق الَّذِي على الْمَطْلُوب، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ إِذا تكفل بِنَفسِهِ، وَعَلِيهِ مَال فَإِنَّهُ لم يأتِ بِهِ غرم المَال، وَيرجع بِهِ على الْمَطْلُوب، فَإِن اشْترط ضَمَان نَفسه أَو وَجهه.

     وَقَالَ : لَا أضمن المَال فَلَا شَيْء عَلَيْهِ من المَال.


[ قــ :2197 ... غــ :2291]
( قَالَ أَبُو عبد الله.

     وَقَالَ  اللَّيْث حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف دِينَار فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أشهدهم فَقَالَ كفى بِاللَّه شَهِيدا قَالَ فأتني بالكفيل قَالَ كفى بِاللَّه كَفِيلا قَالَ صدقت فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مسلمى فَخرج فِي الْبَحْر فَقضى حَاجته ثمَّ التمس مركبا يركبهَا يقدم عَلَيْهِ للأجل الَّذِي أَجله فَلم يجد مركبا فَأخذ خَشَبَة فنقرها فَأدْخل فِيهَا ألف دِينَار وصحيفة مِنْهُ إِلَى صَاحبه ثمَّ زجج موضعهَا ثمَّ أَتَى بهَا إِلَى الْبَحْر فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي كنت تسلفت فلَانا ألف دِينَار فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقلت كفى بِاللَّه كَفِيلا فَرضِي بك وسألني شَهِيدا فَقلت كفى بِاللَّه شَهِيدا فَرضِي بك وَأَنِّي جهدت أَن أجد مركبا أبْعث إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلم أقدر وَإِنِّي أستودعكها فَرمى بهَا فِي الْبَحْر حَتَّى ولجت فِيهِ ثمَّ انْصَرف وَهُوَ فِي ذَلِك يلْتَمس مركبا يخرج إِلَى بَلَده فَخرج الرجل الَّذِي كَانَ أسلفه ينظر لَعَلَّ مركبا قد جَاءَ بِمَالِه فَإِذا بالخشبة الَّتِي فِيهَا المَال فَأَخذهَا لأَهله حطبا فَلَمَّا نشرها وجد المَال والصحيفة ثمَّ قدم الَّذِي كَانَ أسلفه فَأتى بِالْألف دِينَار فَقَالَ وَالله مَا زلت جاهدا فِي طلب مركب لآتيك بِمَالك فَمَا وجدت مركبا قبل الَّذِي أتيت فِيهِ قَالَ هَل كنت بعثت إِلَيّ بِشَيْء قَالَ أخْبرك أَنِّي لم أجد مركبا قبل الَّذِي جِئْت فِيهِ قَالَ فَإِن الله قد أدّى عَنْك الَّذِي بعثت فِي الْخَشَبَة فَانْصَرف بِالْألف الدِّينَار راشدا)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فَسَأَلَنِي كَفِيلا وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وعلقه عَن اللَّيْث بن سعد عَن جَعْفَر بن ربيعَة ابْن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة الْقرشِي الْمصْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة وَمضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي بَاب مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر وعلقه فِيهِ أَيْضا عَن اللَّيْث عَن جَعْفَر بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج وَلكنه مُخْتَصر وَكَذَلِكَ ذكره مُعَلّقا عَن اللَّيْث نَحوه مُخْتَصرا فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب التِّجَارَة فِي الْبَحْر وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرجه أَيْضا فِي الاستقراض واللقطة والشروط والاستئذان وَمر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصى وَنَذْكُر هُنَا أَيْضا أَشْيَاء لزِيَادَة التَّوْضِيح وَالْبَيَان.

     وَقَالَ  بَعضهم أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل لم أَقف على اسْمه لَكِن رَأَيْت فِي مُسْند الصَّحَابَة الَّذين نزلُوا مصر لمُحَمد بن الرّبيع الجيزي لَهُ بِإِسْنَاد لَهُ فِيهِ مَجْهُول عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ يرفعهُ أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّجَاشِيّ فَقَالَ لَهُ أَسْلفنِي ألف دِينَار إِلَى أجل فَقَالَ من الْحميل بك قَالَ الله فَأعْطَاهُ الْألف وَضرب بهَا الْأَجَل أَي سَافر بهَا فِي تِجَارَة فَلَمَّا بلغ الْأَجَل أَرَادَ الْخُرُوج إِلَيْهِ فحبسته الرّيح فَعمل تابوتا فَذكر الحَدِيث نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ هَذَا الْقَائِل واستفدنا مِنْهُ أَن الَّذِي أقْرض هُوَ النَّجَاشِيّ فَيجوز أَن يكون نسبته إِلَى بني إِسْرَائِيل بطرِيق الِاتِّبَاع لَهُم لَا أَنه من نسلهم انْتهى قلت انْتهى هَذَا الْكَلَام فِي الْبعد إِلَى حد السُّقُوط لِأَن السَّائِل والمسؤل مِنْهُ كِلَاهُمَا من بني إِسْرَائِيل على مَا يُصَرح بِهِ ظَاهر الْكَلَام وَبَين الْحَبَشَة وَبني إِسْرَائِيل بعد عَظِيم فِي النِّسْبَة وَفِي الأَرْض وَيبعد أَن يكون ذَلِك الانتساب إِلَى بني إِسْرَائِيل بطرِيق الِاتِّبَاع وَهَذَا يأباه من لَهُ نظر تَامّ فِي تصرفه فِي وُجُوه مَعَاني الْكَلَام على أَن الحَدِيث الْمَذْكُور ضَعِيف لَا يعْمل بِهِ فَافْهَم قَوْله " مركبا " أَي سفينة قَوْله " يقدم " بِفَتْح الدَّال وَهُوَ جملَة حَالية قَوْله " وصحيفة " أَي مَكْتُوبًا قَوْله " زحج " بالزاي وَالْجِيم قَالَ الْخطابِيّ أَي سوى مَوضِع النقر وَأَصْلحهُ وَهُوَ من تزجيج الحواجب وَهُوَ حذف زَوَائِد الشّعْر.

     وَقَالَ  عِيَاض وَمَعْنَاهُ سمرها بمسامير كالزج أَو حشي شقوق لصاقها بِشَيْء ورقعه بالزج قَوْله " تسلفت فلَانا " قَالَ بَعضهم كَذَا وَقع هُنَا وَالْمَعْرُوف تعديته بِحرف الْجَرّ كَمَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ استلفت من فلَان ( قلت) تنظيره باستلفت غير موجه لِأَن تسلفت من بَاب التفعل واستسلفت من بَاب الاستفعال وَتفعل يَأْتِي للمتعدي بِلَا حرف الْجَرّ كتوسد التُّرَاب واستسلفت مَعْنَاهُ طلبت مِنْهُ السّلف وَلَا بُد من حرف الْجَرّ قَوْله " فَرضِي بذلك " هَذِه رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره " فَرضِي بِهِ " وَرِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " فَرضِي بك " قَوْله " جهدت " بِفَتْح الْجِيم وَالْهَاء قَوْله " حَتَّى ولجت " فِيهِ بتَخْفِيف اللَّام أَي حَتَّى دخلت فِي الْبَحْر من الولوج وَهُوَ الدُّخُول قَوْله " وَهُوَ فِي ذَلِك " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله " يلْتَمس " أَي يطْلب قَوْله " ينظر " جملَة حَالية قَوْله " فَإِذا بالخشبة " كلمة إِذا للمفاجأة قَوْله " حطبا " نصب على أَنه مفعول لفعل مَحْذُوف تَقْدِيره فَأَخذهَا لأجل أَهله يَجْعَلهَا حطبا للإيقاد قَوْله " فَلَمَّا نشرها " أَي قطعهَا بِالْمِنْشَارِ وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ " فَلَمَّا كسرهَا " وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة " وَغدا رب المَال يسْأَل عَن صَاحبه كَمَا كَانَ يسْأَل فيجد الْخَشَبَة فيحملها إِلَى أَهله فَقَالَ أوقدوا هَذِه فكسروها فانتثرت الدَّنَانِير مِنْهَا والصحيفة فقرأها وَعرف قَوْله " فَانْصَرف بِالْألف الدِّينَار " وَهَذَا على مَذْهَب الْكُوفِيّين وَرَاشِد أنصب على الْحَال من فَاعل انْصَرف ( ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز التحدث عَمَّا كَانَ فِي زمن بني إِسْرَائِيل وَقد جَاءَ " تحدثُوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج عَلَيْكُم " وَفِيه جَوَاز التِّجَارَة فِي الْبَحْر وَجَوَاز ركُوبه وَفِيه جَوَاز أجل الْقَرْض احْتج بِهِ من يرى بذلك وَمن مَنعه يَقُول الْقَرْض إِعَارَة والتأجيل فِيهَا غير لَازم لِأَنَّهَا تبرع وَأما الَّذِي فِي الحَدِيث فَكَانَ على سَبِيل الْمُسَامحَة لَا على طَرِيق الْإِلْزَام وَفِيه طلب الشُّهُود فِي الدّين وَطلب الْكَفِيل بِهِ وَفِيه فضل التَّوَكُّل على الله وَأَن من صَحَّ توكله تكفل الله بنصره وعونه قَالَ عز وَجل { وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} وَفِيه أَن جَمِيع مَا يُوجد فِي الْبَحْر فَهُوَ لواجده مَا لم يُعلمهُ ملكا لأحد.