فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التلاعن في المسجد

( بابُُ التَّلاَعُنِ فِي المَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز التلاعن فِي الْمَسْجِد،.

     وَقَالَ  بَعضهم أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى خلاف الْحَنَفِيَّة: أَن اللّعان لَا يتَعَيَّن فِي الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا يكون حَيْثُ كَانَ الإِمَام أَو حَيْثُ شَاءَ.
قلت: الَّذِي يفهم مِمَّا قَالَه إِنَّمَا وضع هَذِه التَّرْجَمَة لتعين اللّعان فِي الْمَسْجِد وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هَذَا بَيَان مَا قد وَقع من التلاعن فِي الْمَسْجِد، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْمَسْجِد مُتَعَيّنا، وَلِهَذَا قَالَ صَاحب ( التَّوْضِيح) : اسْتحبَّ جمَاعَة أَن يكون التلاعن بعد الْعَصْر فِي أَي مَكَان كَانَ، وَالْمَسْجِد الْجَامِع أَحْرَى.



[ قــ :5023 ... غــ :5309 ]
- حدّثنا يَحْيَى بنُ جَعْفَرٍ أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبرنِي ابنُ شِهابٍ عنِ المُتَلاَعِنَةِ وَعَن السُّنَّةِ فِيها عنْ حَدِيثِ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أخِي بَنِي ساعِدَةَ: أنَّ رجُلاً مِنَ الأنْصارِ جاءَ إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رسُولَ الله} أرَأيْتَ رجُلاً وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رجُلاً أيَقْتُلُهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فأنْزَلَ الله فِي شأنِهِ مَا ذَكَرَ فِي القُرْآنِ مِنْ أمْرِ المُتَلاَعِنَيْن، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَدْ قَضَى الله فِيكَ وَفِي امْرَأتِكَ، قَالَ: فَتَلاَعَنا فِي المَسْجِدِ وَأَنا شاهِدٌ، فَلَمَّا فَرَغا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْها يَا رسولَ الله إنْ أمْسَكْتُها، فَطَلَّقَها ثَلاثاً قَبْلَ أنْ يأْمُرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَ فَرَغا مِنَ التَّلاعُنِ، فَفَارَقَها عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كلِّ مُتَلاَعِنَيْنِ.
قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابنُ شِهابٍ: فكانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُما أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ المتَلاَعِنَيْنِ، وكانَتْ حامِلاً وكانَ ابْنُها يُدْعَى لأُمِّهِ قَالَ: ثمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِها أنِها تَرِثُهُ وَيرِثُ مِنْها مَا فَرَضَ الله لَهُ.

قَالَ ابنُ جرَيْجٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هاذا الحَدِيثِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنْ جاءَتْ بِهِ أحْمَرَ قَصِيراً كأنَّهُ وحَرَةٌ فَلاَ أُرَاها إلاّ قَدْ صَدَقَتْ وكَذَبَ عَلَيْها، وإنْ جاءَتْ بِهِ أسْوَدَ أعْيَنَ ذَا ألْيَتَيْنِ فَلاَ أُرَاهُ إلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْها، فَجَاءَتْ بِهِ علَى المَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ.

ابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد) .
وَيحيى هُوَ ابْن جَعْفَر البُخَارِيّ البيكندي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي، يحيى هَذَا إِمَّا ابْن مُوسَى الختي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَشدَّة التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَإِمَّا يحيى بن جَعْفَر البُخَارِيّ، قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنِي يحيى، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا يحيى، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.

قَوْله: ( أخبرنَا عبد الرَّزَّاق) ، وَفِي بعض النّسخ حَدثنَا.
قَوْله: ( أخي بني سَاعِدَة) الْغَرَض مِنْهُ أَنه ساعدي فَهُوَ فِي الْأَنْصَار فِي الْخَزْرَج ينْسب إِلَى سَاعِدَة بن كَعْب بن الْخَزْرَج،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: سَاعِدَة اسْم من أَسمَاء الْأسد.
والْحَدِيث قدر مر فِي التَّفْسِير.
قَوْله: ( أَرَأَيْت؟) أَي: أَخْبرنِي.
قَوْله: ( أم كَيفَ يفعل؟) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد) يُقَال: فِيهِ دلَالَة على أَنه يَنْبَغِي لكل حَاكم من حكام الْمُسلمين كل من أَرَادَ استحلافه على عَظِيم من الْأَمر كالقسامة على الدَّم وعَلى المَال ذِي الْقدر والخطر الْعَظِيم وَنَحْو ذَلِك فِي الْمَسَاجِد الْعِظَام، وَإِن كَانَا بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ منبرها، وَإِن كَانَا بِمَكَّة فَبين الرُّكْن وَالْمقَام، وَإِن كَانَا بِبَيْت الْمُقَدّس فَفِي مَسْجِدهَا فِي مَوضِع الصَّخْرَة، وَإِن كَانَا ببلدة غَيرهَا فَفِي جَامعهَا وَحَيْثُ يعظم مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَمرهمَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللّعانِ فِي مَسْجده لعلمه أَنَّهُمَا يعظمانه فَأَرَادَ التَّعْظِيم عَلَيْهِمَا ليرْجع الْمُبْطل مِنْهُمَا إِلَى الْحق وينحجز عَن الْأَيْمَان الكاذبة، وَكَذَلِكَ كَانَ لعانهما بعد العصرلعظم الْيَمين الكاذبة فِي ذَلِك الْوَقْت.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: يُلَاعن فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون حَائِضًا فعلى بابُُ الْمَسْجِد.
قَوْله: ( قَالَ ابْن جريج قَالَ ابْن شهَاب) مَوْصُول إِلَيْهِ بالسند الْمُتَقَدّم.
قَوْله: ( وَكَانَت حَامِلا) أَي: كَانَت الْمَرْأَة حَامِلا حِين وَقع اللّعان بَينهمَا، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي سُورَة النُّور فِي بابُُ: {وَالْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين} ( النُّور: 7) وَفِيه: وَكَانَت حَامِلا فَأنْكر حمالها، وَفِيه دَلِيل على جَوَاز الْمُلَاعنَة بِالْحملِ وَإِلَيْهِ ذهب ابْن أبي ليلى وَمَالك وَأَبُو عبيد وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة فَإِنَّهُم قَالُوا: من نفى حمل امْرَأَته لَاعن بَينهمَا القَاضِي وَألْحق الْوَلَد بِأُمِّهِ.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة ابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة وَزفر بن الْهُذيْل: لَا يُلَاعن بِالْحملِ، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بِأَن اللّعان فِيهِ كَانَ بِالْقَذْفِ لَا بِالْحملِ، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: ( فِي مِيرَاثهَا) أَي: فِي مِيرَاث الْمُلَاعنَة.
وَأجْمع الْعلمَاء على جَرَيَان التَّوَارُث بَين الْوَلَد وَبَين أَصْحَاب الْفُرُوض من جِهَة أمه وهم إخْوَته وأخواته من أمه وجداته من أمه ثمَّ إِذا دفع إِلَى أمه فَرضهَا وَإِلَى أَصْحَاب الْفُرُوض وَبَقِي شَيْء فَهُوَ لمولى أمه إِن كَانَ عَلَيْهَا وَلَاء.
وَإِلَّا يكون لبيت المَال عِنْد من لَا يرى بِالرَّدِّ وَلَا بتوريث ذَوي الْأَرْحَام.
قَوْله: ( مَا فرض الله لَهَا) ، وَهُوَ الثُّلُث إِن لم يكن لَهُ ولد وَلَا ولد ابْن وَلَا اثْنَان من الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات، فَإِن كَانَ شَيْء من ذَلِك فلهَا السُّدس، فَإِن فضل شَيْء من أَصْحَاب الْفُرُوض فَهُوَ لبيت المَال عِنْد الزُّهْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأبي ثَوْر.
.

     وَقَالَ  الحكم وَحَمَّاد: تَرثه وَرَثَة أمه،.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: عصبته عصبَة أمه، رُوِيَ هَذَا عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَعَطَاء أَحْمد بن حَنْبَل.
قَالَ أَحْمد: فَإِن انْفَرَدت الْأُم أخذت جَمِيع مَاله بالعصوبة،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: إِذا انْفَرَدت أخذت الْجَمِيع الثُّلُث بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي بِالرَّدِّ على قَاعِدَته.

قَوْله: ( قَالَ ابْن جريج عَن ابْن شهَاب) ، هُوَ أَيْضا مَوْصُول بالسند الْمُتَقَدّم.
قَوْله: ( إِن جَاءَت بِهِ) أَي: إِن جَاءَت الْمُلَاعنَة بِالْوَلَدِ الْمَنْفِيّ ( أَحْمَر قَصِيرا) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أُحَيْمِر بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي: أشقر،.

     وَقَالَ  ثَعْلَب: المُرَاد بالأحمر الْأَبْيَض لِأَن الْحمرَة إِنَّمَا تبدو فِي الْبيَاض قَوْله: ( وحرة) ، بِفَتْح الْوَاو والحاء الْمُهْملَة وبالراء وَهِي: دويبة تترامى على الطَّعَام وَاللَّحم وتفسده هِيَ من نوع الوزغ، وَقيل: دويبة حَمْرَاء تلزق بِالْأَرْضِ.
قَوْله: ( أعين) بِلَفْظ أفعل الصّفة، أَي وَاسع الْعين.
قَوْله: ( ذَا أليتين) أَي: أليتين عظيمتين.
قَوْله: ( فَجَاءَت بِهِ على الْمَكْرُوه من ذَلِك) ، وَهُوَ الْأسود إِنَّمَا كره لِأَنَّهُ مُسْتَلْزم لتحقيق الزِّنَا وتصديق الزَّوْج.