فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود

(بابُُ مَنْ رأى أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من رأى أَن الله عز وَجل لم يُوجب السُّجُود، وَكَأن من رأى ذَلِك يحمل الْأَمر فِي قَوْله: (أسجدوا) .
وَقَوله: (واسجد) على النّدب، أَو على أَن المُرَاد بِهِ سُجُود الصَّلَاة أَو فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة على الْوُجُوب، وَفِي سَجْدَة التِّلَاوَة على النّدب؟ قلت: الْأَمر إِذا جرد عَن الْقَرَائِن يدل على الْوُجُوب لتجرده عَن الْقَرِينَة الصارفة عَن الْوُجُوب، وَحمله على سُجُود الصَّلَاة يحْتَاج إِلَى دَلِيل، واستعماله فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة على الْوُجُوب وَفِي سَجْدَة التِّلَاوَة على النّدب اسْتِعْمَال لمفهومين مُخْتَلفين فِي حَالَة وَاحِدَة، وَهُوَ مُمْتَنع.

وقِيلَ لِعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ ولَمْ يَجْلسْ لَهَا قالَ أرَأيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا كأنَّهُ لاَ يُوجِبُهُ عَلَيْهِ

هَذَا وَمَا بعده من أثر سُلَيْمَان، وَمن كَلَام الزُّهْرِيّ وَفعل السَّائِب بن يزِيد دَاخِلَة فِي التَّرْجَمَة، وَلِهَذَا عطفه بِالْوَاو، وَأثر عمرَان الَّذِي علقه وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِمَعْنَاهُ قَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن الْجريرِي عَن أبي الْعَلَاء عَن مطرف قَالَ: وَسَأَلته عَن الرجل يتمادى فِي السَّجْدَة أسمعها أَو لم يسْمعهَا؟ قَالَ: وسمعها فَمَاذَا؟ ثمَّ قَالَ مطرف: سَأَلت عمرَان بن حُصَيْن عَن الرجل لَا يدْرِي أسمع السَّجْدَة أم لَا؟ قَالَ: وسمعها فَمَاذَا؟
قَوْله: (وَلم يجلس لَهَا) أَي: لقِرَاءَة السَّجْدَة قَالَ أَي عمرَان أَرَأَيْت أَي أَخْبرنِي قَوْله (الْوَقْعَة لَهَا) أَي للسجدة وَجَوَاب لَو مَحْذُوف يَعْنِي لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء قَوْله كَأَنَّهُ لَا يُوجِبهُ عَلَيْهِ من كَلَام البُخَارِيّ، أَي: كَأَن عمرَان لَا يُوجب السُّجُود على الَّذِي قعد لَهَا للاستماع، فَإِذا لم يُوجب على المستمع فعدمه على السَّامع بِالطَّرِيقِ الأولى.
قلت: يُعَارض هَذَا أثر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: السَّجْدَة على من سَمعهَا.
رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، وَكلمَة: على للْإِيجَاب مُطلق عَن قيد الْقَصْد، فَتجب على كل سامع سَوَاء كَانَ قَاصِدا للسماع أَو لم يكن.

وَقَالَ سَلْمَانُ مَا لِهاذا غَدَوْنَا
سلمَان هَذَا هُوَ الْفَارِسِي، هُوَ قِطْعَة من أَثَره علقه البُخَارِيّ وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن ابْن فُضَيْل عَن عَطاء بن السَّائِب عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: دخل سلمَان الْفَارِسِي الْمَسْجِد وَفِيه قوم يقرأون فقرأوا سَجْدَة فسجدوا، فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا أَبَا عبد الله لَو أَتَيْنَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: مَا لهَذَا غدونا) .
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا.
وَأخرجه عبد الرَّزَّاق من طَرِيق أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قَالَ: (مر سلمَان على قوم قعُود فقرأوا السَّجْدَة فسجدوا، فَقيل لَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لهَذَا غدونا) .
قَوْله: (مَا لهَذَا غدونا) أَي: مَا غدونا لأجل السماع، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بَيَان إِنَّا لم نسجد لأَنا مَا كُنَّا قَاصِدين السماع.

وَقَالَ عُثْمانُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا

هَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَن عُثْمَان مر بقاص فَقَرَأَ سَجْدَة ليسجد مَعَه عُثْمَان، فَقَالَ عُثْمَان: إِنَّمَا السُّجُود على من اسْتمع، ثمَّ مضى وَلم يسْجد.
وروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن ابْن الْمسيب عَن عُثْمَان، قَالَ: إِنَّمَا السَّجْدَة على من جلس لَهَا.

قَوْله: (على من استمعها) يَعْنِي: لَا على السَّامع.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَالْفرق بَينهمَا أَن المستمع من كَانَ قَاصِدا للسماع مصغيا إِلَيْهِ، وَالسَّامِع من اتّفق سَمَاعه من غير قصد إِلَيْهِ.
قلت: هَذِه الْآثَار الثَّلَاثَة لَا تدل على نفي وجوب السَّجْدَة على التَّالِي، والترجمة تدل على الْعُمُوم، فَلَا مُطَابقَة بَينهمَا من هَذَا الْوَجْه، وَرِوَايَة ابْن أبي شيبَة تدل على وجوب السَّجْدَة عِنْد عُثْمَان على الْجَالِس لَهَا، سَوَاء قصد السماع أَو لم يَقْصِدهُ.

وقَال الزُّهْرِيُّ لاَ تَسْجُدُ إلاَّ أنْ تَكُونَ طاهِرا فإذَا سَجَدْتَ وَأنْتَ فِي حَضَرٍ فاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ فإنْ كُنْتَ رَاكِبا فَلاَ عَلَيْكَ حَيْثُ كانَ وَجْهُكَ

الزُّهْرِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وصل هَذَا عبد الله بن وهب عَن يُونُس عَنهُ بِتَمَامِهِ.
قَوْله: (لَا تسْجد إِلَّا أَن تكون طَاهِرا) يدل على أَن الطَّهَارَة شَرط لأَدَاء سَجْدَة التِّلَاوَة، وَفِيه خلاف ابْن عمر وَالشعْبِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ.
قَالَ بَعضهم: قيل: قَوْله: (لَا تسْجد إِلَّا أَن تكون طَاهِرا) ، لَيْسَ بدال على عدم الْوُجُوب، لِأَن الْمُدَّعِي يَقُول: علق على شَرط وَهُوَ وجود الطَّهَارَة، فَحَيْثُ وجد الشَّرْط لزم.
قلت: هَذَا كَلَام واهٍ، كَيفَ يَنْقُلهُ من لَهُ وَجه إدرك؟ لِأَن أحدا هَل قَالَ: يلْزم من وجوب الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط، وَالشّرط خَارج عَن الْمَاهِيّة وَالْوُجُوب، وَعدم الْوُجُوب يتَعَلَّق بالماهية لَا بِالشّرطِ، وغايته أَنه إِذا ثَبت وُجُوبه يشْتَرط لَهُ الطَّهَارَة للْأَدَاء، وَالْجَوَاب: إِن مَوضِع التَّرْجَمَة من هَذَا الْأَثر قَوْله: (فَإِن كنت رَاكِبًا فَلَا عَلَيْك حَيْثُ كَانَ وَجهك) ، لِأَن هَذَا دَلِيل النَّفْل، إِذْ الْفَرْض لَا يُؤدى على الدَّابَّة فِي الْأَمْن.
قلت: كَيفَ يُطَابق هَذَا الْجَواب لقَوْل هَذَا الْقَائِل الْمَذْكُور وَبَينهمَا بعد عَظِيم؟ يظْهر بِالتَّأَمُّلِ على أَن الْحَنَفِيّ لَا يَقُول بفرضيته، حَتَّى يُقَال: الْفَرْض لَا يُؤدى على الدَّابَّة قَوْله: (وَإِن كنت رَاكِبًا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: فِي السّفر بِقَرِينَة كَونه قسيما لقَوْله: (فِي حضر) ، وَالرُّكُوب كِنَايَة عَن السّفر، لِأَن السّفر مُسْتَلْزم لَهُ.
قلت: لَا نسلم تَقْيِيد الرَّاكِب بِالسَّفرِ، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون رَاكِبًا فِي الْحَضَر أَو السّفر.
وَقَوله: وَالرُّكُوب كِنَايَة، فِيهِ عدُول عَن الْحَقِيقَة من غير ضَرُورَة، وَقَوله: لِأَن السّفر مُسْتَلْزم لَهُ، أَي: للرُّكُوب، غير صَحِيح، لِأَنَّهُ يكون بِالْمَشْيِ أَيْضا.
قَوْله: (لَا عَلَيْك) أَي: لَا بَأْس عَلَيْك أَن لَا تسْتَقْبل الْقبْلَة عِنْد السُّجُود.

وكانَ السَّائِبُ بنُ يَزِيدَ لاَ يَسْجُدُ لِسُجُودِ القَاصِّ

السَّائِب بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أُخْت نمر الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ، وَيُقَال الْأَزْدِيّ، وَيُقَال: الْهُذلِيّ أَبُو يزِيد الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَقد مر ذكره فِي: بابُُ اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، والقاص، بِالْقَافِ وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة: الَّذِي يقص النَّاس الْأَخْبَار والمواعظ.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَعَلَّ سَببه أَنه لَيْسَ قَاصِدا لقِرَاءَة الْقُرْآن قلت: لَعَلَّ سَببه أَن لَا يكون قَصده السماع، أَو كَانَ سَمعه وَلم يكن يستمع لَهُ، أَو كَانَ لم يجلس لَهُ فَلَا يسْجد.



[ قــ :1041 ... غــ :1077 ]
- حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي أبُو بَكْرِ بنُ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرحْمانِ التَّيْمِيِّ عنْ رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ الهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ قَالَ أبُو بَكْرٍ وكانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ منْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إذَا جاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وسجَدَ النَّاسُ حَتَّى إذَا كانَتِ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إذَا جاءَ السَّجْدَةَ قَالَ يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا نَمُرُّ بالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أصَابَ ومَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ ولَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة غير تَامَّة لِأَن فِيهِ: (نزل فَسجدَ) ، فَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يرى السَّجْدَة مُطلقًا سَوَاء كَانَ على سَبِيل الْوُجُوب أَو السّنيَّة.
وَقَوله أَيْضا: (وَسجد النَّاس) ، يدل على ذَلِك، إِذْ لَو كَانَ الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك لمنعهم.
فَإِن قلت: قَوْله: (وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) ، يدل على نفي الْوُجُوب.
قلت: لَا نسلم، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لَيْسَ على الْفَوْر فَلَا يَأْثَم بِتَأْخِيرِهِ، فَلَا يلْزم من ذَلِك عدم الْوُجُوب.
فَإِن قلت: قَوْله: (وَلم يسْجد عمر) يدل على خلاف مَا قلت قلت: لَا نسلم لاحْتِمَال إِنَّه لم يسْجد فِي ذَلِك الْوَقْت لعَارض، مثل انْتِقَاض الْوضُوء، أَو يكون ذَلِك مِنْهُ إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ على الْفَوْر.
فَإِن قلت: مَا ذكرت من الِاحْتِمَالَات يَنْفِي مَا قلت.
قلت: لَا نسلم، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَن عمر مَا يُؤَكد مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا أَبُو بكرَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو دَاوُد وروح، قَالَا: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: (أنبأني سعد بن إِبْرَاهِيم قَالَ: سَمِعت ابْن أُخْت لنا، يُقَال لَهُ عبد الله بن ثَعْلَبَة، قَالَ: صلى بِنَا عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الصُّبْح فِيمَا أعلم، ثمَّ قَالَ سعد: صلى بِنَا الصُّبْح فَقَرَأَ بِالْحَجِّ وَسجد فِيهَا سَجْدَتَيْنِ) .
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن غنْدر وَعَن شُعْبَة إِلَى آخِره نَحوه، وَمِمَّا يُؤَكد مَا قُلْنَا.
قَوْله: (فَمن سجد فقد أصَاب السّنة) ، وَالسّنة إِذا أطلقت يُرَاد بهَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالسَّجْدَةِ فِي مَوَاضِع السُّجُود فِي الْقُرْآن، فَدلَّ هَذَا كُله أَنه سنة مُؤَكدَة، وَلَا فرق بَينهَا وَبَين الْوَاجِب، فَسقط بِهَذَا قَول من قَالَ: وَأقوى الْأَدِلَّة على نفي الْوُجُوب حَدِيث عمر الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبابُُ.
فَافْهَم.

ذكر رجال الْأَثر الْمَذْكُور وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ يعرف بالصغير.
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة بِالْيمن.
الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج أَبُو الْوَلِيد الْمَكِّيّ.
الرَّابِع: أَبُو بكر بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام: واسْمه عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، وَاسم أبي مليكَة: زُهَيْر بن عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْأَحول كَانَ قَاضِيا لِابْنِ الزبير ومؤذنا لَهُ، مر فِي: بابُُ خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله.
الْخَامِس: عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن عبيد الله التَّيْمِيّ الْقرشِي.
السَّادِس: ربيعَة بن عبد الله بن الهدير، بِضَم الْهَاء وَفتح الدَّال: أَبُو عُثْمَان التَّيْمِيّ الْقرشِي الْمدنِي.
السَّابِع: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: تَوْثِيق أحد الروَاة شيخ شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ.
وَفِيه: أَن أَبَا بكر بن أبي مليكَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، ولأبيه صُحْبَة وَرِوَايَة، وَكَذَلِكَ ربيعَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  ابْن سعد: ولد ربيعَة فِي عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وهم: أَبُو بكر وَعُثْمَان وَرَبِيعَة.
وَفِيه: أَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن من أَفْرَاد البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَمَّا حضر ربيعَة من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) يتَعَلَّق بقوله: (أَخْبرنِي) .
فَإِن قلت: (عَن عُثْمَان) يتَعَلَّق بِهِ، فَإِذا تعلق بِهِ: عَمَّا حضر، يكون حرفا جر يتعلقان بِفعل وَاحِد، وَهُوَ لَا يجوز.
قلت: يتَعَلَّق الأول بِمَحْذُوف تَقْدِيره: أَخْبرنِي أَبُو بكر رَاوِيا عَن عُثْمَان عَن حضورة مجْلِس عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَكلمَة: مَا، فِي عَمَّا مَصْدَرِيَّة، و: ربيعَة، بِالرَّفْع فَاعل: حضر.
قَوْله: (قَرَأَ) أَي: أَنه قَرَأَ يَوْم الْجُمُعَة.
قَوْله: (بهَا) أَي: بِسُورَة النَّحْل.
قَوْله: (إِنَّمَا نمر) ، رِوَايَة الْكشميهني، وَرِوَايَة غَيره (إِنَّا نمر) بِدُونِ الْمِيم.
قَوْله: (السُّجُود) أَي: بِآيَة السُّجُود.
قَوْله: (فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) .
قَالُوا: هَذَا دَلِيل صَرِيح فِي عدم الْوُجُوب،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَهَذَا كَانَ بِمحضر من الصَّحَابَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَكَانَ إِجْمَاعًا سكوتيا على ذَلِك.
قلت: هَذِه إِشَارَة إِلَى أَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي تَأْخِيره من ذَلِك الْوَقْت.

ذكر من أخرجه: هُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج من طَرِيقين.
وَأخرجه سعيد بن مَنْصُور أَيْضا وَإِسْمَاعِيل من طَرِيق ابْن جريج أَخْبرنِي أَبُو بكر بن أبي مليكَة أَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيْمِيّ أخبرهُ عَن ربيعَة بن عبد الله أَنه حضر عمر، فَذكره.
وَقَوله: عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان، مقلوب وَالصَّحِيح: عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن.

وزادع نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إنَّ الله لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إلاَّ أنْ نَشَاءَ
قَالَ الْكرْمَانِي: (وَزَاد نَافِع) ، أَي: قَالَ ابْن جريج: وَزَاد، وَهَذَا مَوْقُوف لَا مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  الْحميدِي: هَذَا مُعَلّق، وَكَذَا علم عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمزي عَلامَة التَّعْلِيق.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: (زَاد نَافِع) مقول ابْن جريج، وَالْخَبَر مُتَّصِل بِالْإِسْنَادِ الأول، وَقد بَين ذَلِك عبد الرَّزَّاق فَقَالَ فِي مُصَنفه: عَن ابْن جريج أَخْبرنِي ابْن أبي مليكَة، فَذكره.
.

     وَقَالَ  فِي آخِره: قَالَ ابْن جريج: وَزَادَنِي نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: لم يفْرض علينا السُّجُود، إلاّ أَن نشَاء، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا من طَرِيق حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج، فَذكر الْإِسْنَاد الأول.
قَالَ:.

     وَقَالَ  حجاج: قَالَ ابْن جريج: وَزَاد نَافِع، فَذكره، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَفِي هَذَا رد على الْحميدِي فِي زَعمه أَن هَذَا مُعَلّق، وَلذَا علم عَلَيْهِ الْمزي عَلامَة التَّعْلِيق، وَهُوَ وهم قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي يرد عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي وهم، لِأَن الَّذِي زَعمه لَا تَقْتَضِيه رِوَايَة عبد الرَّزَّاق لِأَنَّهَا تشعر بِخِلَاف مَا قَالَه، لِأَن ابْن جريج يَقُول: زادني نَافِع عَن ابْن عمر، مَعْنَاهُ: أَنه زادني على روايتي عَن أبي بكر عَن عُثْمَان عَن ربيعَة عَن عمر بن الْخطاب رِوَايَة نَافِع عَن عبد الله بن عمر: أَن الله تَعَالَى لم يفْرض علينا السُّجُود إلاّ أَن نشَاء، والمزيد هُوَ قَول ابْن عمر، وَهُوَ قَوْله: إِن الله، عز وجلَّ.
.
إِلَى آخِره.
وَهَذَا يُنَادي بِصَوْت عَال: إِنَّه مَوْقُوف، مثل مَا قَالَ الْكرْمَانِي، ومعلق مثل مَا قَالَ الحافظان الكبيران: الْحميدِي والمزي، فبمثل هَذَا التَّصَرُّف يتعسف بِالرَّدِّ عَلَيْهِمَا، وَأبْعد من ذَلِك وأحق بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مَا قَالَه عقيب هَذَا، قَوْله فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: أَنه قَالَ، الضَّمِير يعود على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جزم بذلك التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) حَيْثُ نسب ذَلِك إِلَى عمر فِي هَذِه الْقَضِيَّة.
قلت: لم يجْزم التِّرْمِذِيّ بذلك أصلا، وَلَا ذكر مَا زَاده نَافِع لِابْنِ جريج، وَإِنَّمَا لفظ التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) فِي: بابُُ من لم يسْجد فِيهِ، أَي: فِي النَّجْم، بعد رِوَايَته حَدِيث زيد بن ثَابت،.

     وَقَالَ  بعض أهل الْعلم: إِنَّمَا السَّجْدَة على من أَرَادَ أَن يسْجد فِيهَا وَالْتمس فَضلهَا، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوع، ثمَّ قَالَ: وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَرَأَ سَجْدَة على الْمِنْبَر فَنزل فَسجدَ ثمَّ قَرَأَهَا فِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة فتهيأ النَّاس للسُّجُود فَقَالَ: إِنَّهَا لم تكْتب علينا إلاّ أَن نشَاء، فَلم يسْجد وَلم يسجدوا، انْتهى.
فَهَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، فَلْينْظر من لَهُ بَصِيرَة وذوق من دقائق تركيب الْكَلَام، هَل تعرض التِّرْمِذِيّ فِي ذَلِك إِلَى زِيَادَة نَافِع عَن ابْن عمر؟ أَو ذكر أَن الضَّمِير فِي قَوْله: قَالَ، يعود على عمر؟ وَلَو قَالَ: مثل مَا روى نَافِع عَن ابْن عمر ذكر التِّرْمِذِيّ عَن عمر مثله لَكَانَ لَهُ وَجه ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاسْتدلَّ بقوله: لم يفْرض علينا، على عدم وجوب سَجْدَة التِّلَاوَة.
وَأجَاب بعض الْحَنَفِيَّة على قاعدتهم فِي التَّفْرِقَة بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب بِأَن نفي الْفَرْض لَا يسْتَلْزم نفي الْوُجُوب، وَتعقب بِأَنَّهُ اصْطِلَاح لَهُم حَادث، وَمَا كَانَ الصَّحَابَة يفرقون بَينهمَا، ويغني عَن هَذَا قَول عمر: وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ.

قلت: أما الْجَواب عَن قَوْله: لم تفرض علينا، فَنحْن أَيْضا نقُول: لم يفْرض علينا، وَلكنه وَاجِب، وَنفي الْفَرْض لَا يسْتَلْزم نفي الْوَاجِب، وَأما قَوْله: وَتعقب.
.
إِلَى آخِره، فَلَا نسلم أَنه اصْطِلَاح حَادث، وَأهل اللُّغَة فرقوا بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب، ومنكر هَذَا معاند ومكابر، وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا تُؤْخَذ من الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة.
وَأما قَوْله: وَمَا كَانَ الصَّحَابَة يفرقون بَينهمَا، دَعْوَى بِلَا برهَان، وَالصَّحَابَة هم كَانُوا أهل اللُّغَة وَالتَّصَرُّف فِي الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة، وَهَذَا القَوْل فِيهِ نِسْبَة الصَّحَابَة إِلَى عدم الْمعرفَة بلغات لسانهم.
وَأما قَوْله: ويغني عَن هَذَا قَول عمر وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، فقد أجبنا فِيمَا مضى عَن هَذَا بِأَنَّهُ: لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي تَأْخِيره عَن وَقت السماع.
فَإِن قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن بكير: حَدثنَا مَالك عَن (هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَرَأَ السَّجْدَة وَهُوَ على الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة فَنزل فَسجدَ وسجدوا مَعَه، ثمَّ قَرَأَ يَوْم الْجُمُعَة الْأُخْرَى فتهيأوا للسُّجُود، فَقَالَ عمر: على رسلكُمْ، إِن الله لم يَكْتُبهَا علينا إلاّ أَن نشَاء، وَقرأَهَا وَلم يسْجد ومنعهم) .
قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : ترك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعَ من حضر السُّجُود وَمنعه لَهُم دَلِيل على عدم الْوُجُوب، وَلَا إِنْكَار وَلَا مُخَالف، وَلَا يجوز أَن يكون عِنْد بَعضهم أَنه وَاجِب ويسكت عَن الْإِنْكَار على غَيره فِي قَوْله: (وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) قلت: عُرْوَة لم يدْرك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ خَليفَة بن خياط: وَفِي آخر خلَافَة عمر بن الْخطاب، يُقَال فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين، ولد عُرْوَة بن الزبير، وَعَن مُصعب بن الزبير: ولد عُرْوَة لست سِنِين خلت من خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَيكون مُنْقَطِعًا، وَهُوَ غير حجَّة.
وَأما ترك عمر السُّجُود فقد ذكرنَا أَنه لِمَعْنى من الْمعَانِي الَّتِي ذَكرنَاهَا فِيمَا مضى عَن الطَّحَاوِيّ.
وَأما مَنعه لَهُم عَن السُّجُود على تَقْدِير تَسْلِيم صِحَّته، فَيحْتَمل أَنه كَانَ يرى أَن التَّالِي إِذا لم يسْجد لَا يسْجد السَّامع أَيْضا، فَيكون معنى الْمَنْع: إِذا مَا سجدت فَلَا تسجدوا أَنْتُم أَيْضا.
وَرُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ: إِن ذَلِك مِمَّا لم يتبع عَلَيْهِ عمر، وَلَا عمل بِهِ أحد بعده،.

     وَقَالَ  الْقَائِل الْمَذْكُور أَيْضا: وَاسْتدلَّ بقوله: (إِلَّا أَن نشَاء) ، على أَن الْمَرْء مُخَيّر فِي السُّجُود، فَيكون لَيْسَ بِوَاجِب، وَأجَاب من أوجبه: بِأَن الْمَعْنى إلاّ أَن نشَاء قرَاءَتهَا فَيجب، وَلَا يخفى بعده، وَيَردهُ تَصْرِيح عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بقوله: (وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) فَإِن انْتِفَاء الْإِثْم عَمَّن ترك الْفِعْل مُخْتَارًا يدل على عدم وُجُوبه.
قلت: لَا شكّ أَن مفعول: نشَاء، مَحْذُوف، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك: السَّجْدَة، يَعْنِي: إلاّ أَن نشَاء السَّجْدَة، وَيحْتَمل أَن تكون: الْقِرَاءَة، يَعْنِي: إِلَّا أَن نشَاء قِرَاءَة السَّجْدَة، فَلَا يتَرَجَّح أحد الِاحْتِمَالَيْنِ إلاّ بمرجح، وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبابُُ تَنْفِي التَّخْيِير، فيترجح الْمَعْنى الآخر، وَالْجَوَاب عَن قَوْله: وَيَردهُ تَصْرِيح عمر.
.
إِلَى آخِره، قد ذَكرْنَاهُ.
.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاسْتدلَّ بِهِ على من شرع فِي السُّجُود وَجب عَلَيْهِ إِتْمَامه، وَأجِيب بِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَالْمعْنَى: لَكِن ذَلِك موكول إِلَى مَشِيئَة الْمَرْء بِدَلِيل إِطْلَاقه، وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ.