فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب رفع الصوت في المساجد

( بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي المَسَاجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم رفع الصَّوْت فِي الْمَسَاجِد، وَلَكِن هَذَا أَعم من أَن يكون مَمْنُوعًا، أَو غير مَمْنُوع، فَذكره الْحَدِيثين فِيهِ إِشَارَة إِلَى بَيَان تَفْصِيل فِيهِ مَعَ الْخلاف، فَالْحَدِيث الأول يدل على الْمَنْع، والْحَدِيث الثَّانِي يدل على عَدمه، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ فِيمَا تقدم، وَهُوَ بَاب التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد.

[ قــ :460 ... غــ :470]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدّثنا الجُعَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حدّثني يَزِيدُ بنُ خُصَيْفَةَ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ كنْتُ قائِماً فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجلٌ فَنَظَرْتُ فإِذا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ اذْهبْ فَأتِني بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِما قَالَ مَن أنْتُما أوْ مِنْ أيْنَ أنْتُما قَالَا منْ أهْلِ الطَّائِفِ قَالَ لَوْ كُنْتُما مِنْ أهْلِ البَلَدِ لأوْجَعْتُكُما تَرْفَعَانِ أصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رسولِ اللَّهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أحد احتماليها، وَهُوَ: الْمَنْع.

ذكر رِجَاله.
وهم خَمْسَة.
الأول: عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: يحيى الْقطَّان، كَذَلِك.
الثَّالِث: الجعيد، بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَيُقَال لَهُ: جعيد، أَيْضا بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَيُقَال لَهُ: الْجَعْد، بِدُونِ التصغير، وَهُوَ اسْمه الْأَصْلِيّ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: الْجَعْد بن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس، وَهُوَ ثِقَة روى لَهُ مُسلم حَدِيثا وَاحِدًا عَن السَّائِب.
الرَّابِع: يزِيد، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الزَّاي: أَبُو خصيفَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء: ابْن أخي السَّائِب الْمَذْكُور فِيهِ، وخصيفة جده، وَأَبوهُ عبد ابْن خصيفَة، وَقد نسب إِلَى جده.
الْخَامِس: السَّائِب، بِالسِّين الْمُهْملَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أُخْت النمر الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ، وَقد تقدم فِي بابُُ اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، وروى ثمَّة الجعيد عَن السَّائِب بِدُونِ وَاسِطَة، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة، يزِيد، وروى حَاتِم بن إِسْمَاعِيل هَذَا الحَدِيث عَن الجعيد عَن السَّائِب بِلَا وَاسِطَة، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَصَحَّ سَماع الْجَعْد عَن الساب كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، فَلَا يكون هَذَا الِاخْتِلَاف قادحاً، وروى عبد الرَّزَّاق هَذَا من طَرِيق أُخْرَى عَن نَافِع قَالَ: ( كَانَ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، يَقُول: لَا تكثروا للغط.
فَقَالَ: إِن مَسْجِدنَا هَذَا لَا يرفع فِيهِ الصَّوْت)
.
الحَدِيث، وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاع لِأَن نَافِعًا لم يدْرك هَذَا الزَّمَان.

ذكر لطائف إِسْنَاده.
فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومدني وبصري.
وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله كَمَا ذكرنَا.

ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: ( كنت قَائِما) ، وَقع فِي الْأُصُول بِالْقَافِ، ويروى: ( نَائِما) ، بالنُّون وَيُؤَيّد هَذِه الرِّوَايَة مَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى حدّثنا مُحَمَّد بن عباد حدّثنا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن الجعيد عَن السَّائِب، قَالَ: ( كنت مُضْطَجعا فحصبني إِنْسَان) .
قَوْله: ( فحصبني) ، من: حصبت الرجل أحصبه، بِالْكَسْرِ: رميته بالحصباء.
قَوْله: ( إِذا هُوَ عمر بن الْخطاب) كلمة؛ إِذا، للمفاجأة وَهُوَ: مُبْتَدأ وَعمر: خَبره، ويروى: فَإِذا عمر بن الْخطاب، فعلى هَذَا: عمر، مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره؛ فَإِذا عمر حَاضر، أَو: وَاقِف.
قَوْله: ( فَقَالَ: اذْهَبْ) ، أَي: فَقَالَ عمر للسائب: إذهب.
قَوْله: ( فَاتَنِي بِهَذَيْنِ) ، يَعْنِي: بِهَذَيْنِ الشخصين وَكَانَا ثقفيين، كَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق.
قَوْله: ( لأوجعتكما) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( لأوجعتكما جلدا) .
قَوْله: ( ترفعان) ، خطاب لهذين الْإِثْنَيْنِ، وَهِي جملَة استئنافية، وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، كَأَنَّهُمَا قَالَا: لم توجعن؟ قَالَ: لأنكما ترفعان أصواتكما فِي مَسْجِد رَسُول ا.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع فِي أصواتكما، مَعَ أَن الْمَوْجُود صوتان لَهما؟ قلت: الْمُضَاف الْمثنى معنى، إِذا كَانَ جُزْء مَا أضيف إِلَيْهِ، الْأَفْصَح أَن يذكر بِالْجمعِ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فقد صغت قُلُوبكُمَا} ( التَّحْرِيم: 4) وَيجوز إِفْرَاده نَحْو: أكلت رَأس شَاتين، والتثنية مَعَ أصالتها قَليلَة الِاسْتِعْمَال، وَإِن لم يكن جزءه فالأكثر مَجِيئه بِلَفْظ التَّثْنِيَة، نَحْو: سلَّ الزيدان سيفيهما، وَإِن أَمن اللّبْس جَازَ جلّ الْمُضَاف بِلَفْظ الْجمع، كَمَا فِي قَوْله: ( يعذبان فِي قبورهما) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( برفعكما أصواتكما) ، أَي: بِسَبَب رفعكما أصواتكما.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ.
مَا قَالَه ابْن بطال: قَالَ بَعضهم: أما إِنْكَار عمر فلأنهما رفعا أصواتهما فِيمَا لَا يحتاجان إِلَيْهِ من اللَّغط الَّذِي لَا يجوز فِي الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا سَأَلَهُمَا من أَيْن أَنْتُمَا ليعلم أَنَّهُمَا إِن كَانَا من أهل الْبَلَد وعلما أَن رفع الصَّوْت فِي الْمَسْجِد باللغط فِيهِ غير جَائِز زجرهما وأدبهما، فَلَمَّا أخبراه أَنَّهُمَا من غير الْبَلَد عُذْرهمَا بِالْجَهْلِ.
وَفِيه: مَا يدل على جَوَاز قبُول اعتذار أهل الْجَهْل بالحلم إِذا كَانَ فِي شَيْء يخفى مثله.
وَفِيه: جَوَاز تَأْدِيب الإِمَام من يرفع صَوته فِي الْمَسْجِد باللغط وَنَحْو ذَلِك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا الحَدِيث لَهُ حكم الرّفْع لِأَن عمر لَا يتوعد الرجلَيْن الْمَذْكُورين بِالْجلدِ إلاَّ على مُخَالفَة أَمر توفيقي.
قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون ذَلِك بِاجْتِهَادِهِ ورأيه.





[ قــ :461 ... غــ :471]
- حَدَّثَنَا أحَمدُ قَالَ حدّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ بنُ يَزِيدَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدّثني عَبْدُ اللَّهِ بنُ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ كَعْبَ بنَ مَالِكٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ تَقاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً لَهُ عليهِ فِي عَهْدِ رسولِ اللَّهِ فِي المَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُما حَتَّى سَمِعَهَا رَسولُ اللَّهِ وَهْوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِما رسولُ اللَّهِ حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ ونادَى يَا كَعْبُ بنَ مالِكٍ قَالَ لَبيْكَ يَا رسولَ اللَّهِ فأشَارَ بِيَدِهِ أنْ ضَعِ الشَّطْرَ منْ دَيْنِكَ قَالَ كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ قَالَ رسولُ اللَّهِ قُمْ فاقْضِهِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الِاحْتِمَال الثَّانِي، وَهُوَ: عدم الْمَنْع.

ذكر رِجَاله.
وهم سِتَّة: الأول: أَحْمد، قَالَ الغساني: قَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة فِي موضِعين: حدّثنا أَحْمد قَالَ: حدّثنا ابْن وهب، فَقَالَ ابْن السكن: هُوَ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ.
قلت: وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْفربرِي: حدّثنا أَحْمد بن صَالح.
.

     وَقَالَ  الْحَاكِم فِي ( الْمدْخل) : إِنَّه هُوَ، وَقيل: إِنَّه أَحْمد بن عِيسَى التسترِي، وَلَا يَخْلُو أَن يكون وَاحِدًا مِنْهُمَا.
.

     وَقَالَ  الكلاباذي: قَالَ لي ابْن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي: كل مَا قَالَه البُخَارِيّ فِي ( الْجَامِع) : أَحْمد عَن ابْن وهب، هُوَ: أَحْمد ابْن صَالح الْمصْرِيّ.
الثَّانِي: عبد ابْن وهب الْمصْرِيّ.
الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: عبد ابْن كَعْب بن مَالك.
السَّادِس: أَبوهُ كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ الْمدنِي الشَّاعِر.

وَهَذَا الحَدِيث مَعَ تَحْقِيق مَعْنَاهُ وفوائده قد مضى فِي بابُُ التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد قبل مِقْدَار عشرَة أَبْوَاب.

قَوْله: ( حَتَّى سَمعهَا) ، أَي: حَتَّى سمع النَّبِي، أصواتهما: وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَتَّى سمعهما.
وَا تَعَالَى أعلم.