فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب

( بابُُ مَا جاءَ فِي أنَّ الخَمْرَ مَا خامَرَ العَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي أَن الْخمر هُوَ مَا خامر الْعقل من شرب الشَّرَاب.



[ قــ :5290 ... غــ :5588 ]
- حدّثناأحْمَدُ بنُ أبي رَجاءٍ حَدثنَا يَحْياى عنْ أبي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَن الشَّعْبِيِّ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلى مِنْبَرِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ نَزَلَ تحْرِيمُ الخَمْرِ، وهْيَ مِنْ خَمْسَةِ أشْياءَ: العِنَبِ والتمْر والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والعسَلِ.
والخَمْرُ مَا خامَرَ العَقْلَ، وثَلاَثٌ وَدِدْتُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يُفارِقْنا حَتَّى يَعْهَدَ إلَيْنا.
عَهْداً: الجَدُّ والكَلاَلَةُ وأبْوَابُ مِنْ أبْوابِ الرِّبا؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍ وأفَشَيءٌ يُصْنَعُ بالسِّنْدِ منَ الرُّزِّ؟ قَالَ: ذَاكَ لمْ يَكُنْ عَلى عهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ قَالَ: عَلى عهْدِ عُمَرَ.

وَقَالَ حجَّاجٌ عنْ حمَّادٍ عنْ أبي حَيَّانَ مكانَ العِنَبِ: الزَّبِيبَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَالْخمر مَا خامر الْعقل) وَأحمد بن أبي رَجَاء بِالْجِيم اسْمه عبد الله بن أَيُّوب أَبُو الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَأَبُو حَيَّان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون واسْمه يحيى بن سعيد التَّيْمِيّ، وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل.

والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ إِلَى قَوْله: ( وَالْخمر مَا خامر الْعقل) وَأخرجه أَيْضا فِي الِاعْتِصَام.
وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة غير ابْن ماجة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: ( قد نزل تَحْرِيم الْخمر) أَرَادَ بِهِ عمر رَضِي الله عَنهُ نزُول الْآيَة الْمَذْكُورَة فِي أول كتاب الْأَشْرِبَة وَهِي آيَة الْمَائِدَة.
{ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} ( الْمَائِدَة: 90) الْآيَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَرَادَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى.
عَنهُ، التَّنْبِيه على أَن المُرَاد بِالْخمرِ فِي هَذِه الْآيَة لَيْسَ خَاصّا بالمتخذ من الْعِنَب، بل يتَنَاوَل الْمُتَّخذ من غَيرهَا.
قلت: نعم يتَنَاوَل غير الْمُتَّخذ من الْعِنَب من حَيْثُ التَّشْبِيه لَا من حَيْثُ الْحَقِيقَة.
قَوْله: ( وَهِي من خَمْسَة أَشْيَاء) جملَة حَالية لَا تَقْتَضِي الْحصْر وَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاق الخمرية على نَبِيذ الذّرة والأرز وَغَيرهمَا،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: إِنَّمَا عد عمر رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَنْوَاع الْخَمْسَة لاشتهار أسمائها فِي زَمَانه وَلم يكن بوجد بِالْمَدِينَةِ الْوُجُود الْعَام فَإِن الْحِنْطَة كَانَت عزيزة وَالْعَسَل مثلهَا أَو أعز، فعد عمر رَضِي الله عَنهُ مَا عرف مِنْهَا، وَجعل مَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا يتَّخذ من الْأرز وَغَيره خمر بمثابتها إِن كَانَ مِمَّا يخَامر الْعقل ويسكر كإسكارها.
قَوْله: ( وَالْخمر مَا خامر الْعقل) أَي: غطاه وخالطه، وَلم يتْركهُ على حَاله، وَهُوَ من مجَاز التَّشْبِيه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فِيهِ دَلِيل على إِحْدَاث الِاسْم بِالْقِيَاسِ وَأَخذه من طَرِيق الِاشْتِقَاق.
قلت: هَذَا الْبابُُ فِيهِ خلاف.
وَقيل: هَذَا تَعْرِيف بِحَسب اللُّغَة لَا بِحَسب الْعرف فَإِنَّهُ بِحَسبِهِ مَا يخَامر الْعقل من عصير الْعِنَب خَاصَّة.
قلت: لَا نسلم أَن هَذَا التَّعْرِيف بِحَسب اللُّغَة، بل هُوَ تَعْرِيف بِحَسب الْعرف، وَهَذَا الْقَائِل عكس الْأَمر فِيهِ لِأَن الأَصْل فِي خمر الْعِنَب رِعَايَة الْمَعْنى اللّغَوِيّ، وَفِي الْعرف لَا يسْتَعْمل فِي غَيره إلاَّ بطرِيق الْمجَاز.
قَوْله: ( وَثَلَاث) قَالَ بَعضهم: هِيَ صفة مَوْصُوف أَي: أُمُور أَو أَحْكَام.
قلت: الموجه أَن يُقَال: أَي ثَلَاث قضايا أَو ثَلَاث مسَائِل.
قَوْله: ( وددت) أَي: تمنيت، وَإِنَّمَا تمنى ذَلِك لِأَنَّهُ أبعد من مَحْذُور الِاجْتِهَاد فِيهِ وَهُوَ الْخَطَأ فِيهِ على تَقْدِير وُقُوعه، وَلَو كَانَ مأجوراً عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يفوتهُ بذلك الْأجر الثَّانِي، وَالْعَمَل بِالنَّصِّ إِصَابَة مَحْضَة.
قَوْله: ( لم يفارقنا حَتَّى يعْهَد إِلَيْنَا عهدا) أَي: حَتَّى يبين لنا، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عهدا ننتهي إِلَيْهِ قَوْله: ( الْجد) أَي: الأول من الثَّلَاث الْجد أَي: مَسْأَلَة الْجد فِي أَنه يحجب الْأَخ أَو ينحجب بِهِ أَو يقاسمه وَفِي قدر مَا يَرِثهُ لِأَن الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا فَروِيَ عَن عُبَيْدَة أَنه قَالَ: حفظت عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْجد سبعين قَضِيَّة كلهَا يُخَالف بَعْضهَا بَعْضًا، وَعَن عمر أَنه جمع الصَّحَابَة ليجتمعوا فِي الْجد على قَول، فَسَقَطت حَيَّة من السّقف فَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَبى الله إلاَّ أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْجد،.

     وَقَالَ  عَليّ رَضِي الله عَنهُ: من أَرَادَ أَن يفتح جراثيم جَهَنَّم فليقض فِي الْجد، يُرِيد أُصُولهَا، والجراثيم جمع جرثومة وَهِي الأَصْل.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر وَابْن الزبير وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأَبُو مُوسَى رَضِي الله عَنْهُم: هُوَ يحجب الْأُخوة.
وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة،.

     وَقَالَ  زيد: هُوَ كَأحد الْأُخوة مَا لم تنقصه الْمُقَاسَمَة، فَإِذا أنقصته أعطي الثُّلُث وقسموا للأخوة مَا بَقِي، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: هُوَ أَخ مَعَهم مَا لم تنقصه الْمُقَاسَمَة من الثُّلُث.
قَوْله: ( والكلالة) أَي: وَالثَّانِي من الثَّلَاث مَسْأَلَة الْكَلَالَة، بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام: وَهُوَ من لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد قَالَه أَبُو بكر وَعمر وَعلي وَزيد وَابْن مَسْعُود والمدنيون والبصريون والكوفيون، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ من لَا ولد لَهُ وَإِن كَانَ لَهُ وَالِد،.

     وَقَالَ  شَيخنَا أَمِين الدّين فِي ( شَرحه للسراجية) : الْكَلَالَة تطلق على ثَلَاثَة: على من لم يخلف ولدا وَلَا والداً، وعَلى من لَيْسَ يُولد وَلَا وَالِد من الْمُخلفين، وعَلى الْقَرَابَة من جِهَة الْوَلَد وَالْوَالِد، قَالَ: وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر بِمَعْنى الكلال وَهُوَ ذهَاب الْقُوَّة من الإعياء فاستعيرت لِلْقَرَابَةِ من غير جِهَة الْوَلَد وَالْوَالِد لِأَنَّهَا بِالْإِضَافَة إِلَى قرابتهما ضَعِيفَة، وَإِذا جعل صفة للموروث أَو الْوَارِث فبمعنى ذِي كَلَالَة، كَمَا يُقَال: فلَان من قَرَابَتي أَي: من ذِي قَرَابَتي.
قَوْله: ( وأبواب من أَبْوَاب الرِّبَا) الثَّالِث من الثَّلَاث، وأبواب الرِّبَا كَثِيرَة غير محصورة حَتَّى قَالَ بَعضهم: لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة، وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ: وأبواب، يدل على أَنه كَانَ عِنْده نَص فِي بعض أبوابه دون بعض وَلِهَذَا تمنى معرفَة الْبَعْض.
قَوْله: ( يَا أَبَا عمر) وَأَصله يَا أَبَا عمر وحذفت الْألف للتَّخْفِيف وَهُوَ كنية الشّعبِيّ، وَالْقَائِل بِهَذَا أَبُو حَيَّان التَّيْمِيّ.
قَوْله: ( وَشَيْء) مُبْتَدأ تخصص بِالصّفةِ وَهُوَ قَوْله: ( يصنع) وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: وَشَيْء يصنع بالسند من الْأرز مَا حكمه؟ والسند بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون، وبالدال الْمُهْملَة وَهِي بِلَاد بِالْقربِ من الْهِنْد.
قَوْله: ( من الرز) ويروى: من الْأرز.
قَالَ الْجَوْهَرِي: الْأرز حب وَفِيه سِتّ لُغَات: أرز وأرز تتبع الضمة الضمة، وأرز وأرز مثل رسل ورسل، ورز ورنز، وَهِي لعبد الْقَيْس.
قلت: وَفِيه لُغَة سابعة: أرز بِفَتْح الْهمزَة مَعَ تَخْفيف الزَّاي، كعضد.
قَوْله: ( ذَاك) أَي: الَّذِي يصنع من الرز لم يكن مَوْجُودا فِي الْمَدِينَة أَو مَعْرُوفا على زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( أَو قَالَ) شكّ من الرَّاوِي.

قَوْله: ( وَقَالَ حجاج عَن حَمَّاد) أَي: حجاج بن منهال، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي حَيَّان الْمَذْكُور فِي الحَدِيث مَكَان الْعِنَب الزَّبِيب، يَعْنِي: روى هَذَا الحَدِيث عَن أبي حَيَّان بِهَذَا السَّنَد والمتن فَذكر الزَّبِيب عوض الْعِنَب وَذكر البُخَارِيّ هَذَا عَن الْحجَّاج مذاكرة، وَوَصله عَليّ بن عبد الْعَزِيز فِي ( مُسْنده) عَن حجاج بن منهال كَذَلِك.





[ قــ :591 ... غــ :5589 ]
- حدّثناحَفْصُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ عبْدِ الله بنِ أبي السَّفَرِ عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ عُمَر.
قَالَ: الخَمْرُ تُصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الزبِيبِ والتمْرِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والعَسَلِ.

هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن حَفْص بن عمر بن الْحَارِث أَبُو عمر الحوضي النمري الْأَزْدِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن عبد الله بن أبي السّفر ضد الْحَضَر واسْمه سعيد مُحَمَّد الْهَمدَانِي الْكُوفِي يروي عَن عَامر الشّعبِيّ عَن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا وَمر الْكَلَام فِي: بابُُ الْخمر من الْعِنَب، فِي حَدِيث عمر مثل هَذَا، لَكِن هُنَاكَ الْعِنَب أحد الْخَمْسَة، وَهنا الزَّبِيب، وَقد قُلْنَا غير مرّة: إِن التَّنْصِيص على عدد معِين لَا يُنَافِي مَا عداهُ، وَإِن إِطْلَاق الْخمر على غير مَاء الْعِنَب المشتد لَيْسَ بطرِيق الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا هُوَ من: بابُُ التَّشْبِيه،.

     وَقَالَ  بَعضهم:.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْهِدَايَة) من الْحَنَفِيَّة: الْخمر عندنَا مَا اعتصر من مَاء الْعِنَب إِذا اشْتَدَّ وَهُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة وَأهل الْعلم.
قَالَ: وَقيل: هُوَ اسْم لكل مُسكر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل مُسكر خمر، وَقَوله: ( الْخمر من هَاتين الشجرتين) وَلِأَنَّهُ من مخامرة الْعقل وَذَلِكَ مَوْجُود فِي كل مُسكر، وَلنَا: إطباق أهل اللُّغَة على تَخْصِيص الْخمر بالعنب، وَلِهَذَا اشْتهر اسْتِعْمَالهَا فِيهِ، وَلِأَن تَحْرِيم الْخمر قَطْعِيّ وَتَحْرِيم مَا عدا الْمُتَّخذ من الْعِنَب ظَنِّي، قَالَ: وَإِنَّمَا سمي الْخمر خمرًا لتخمره لَا لمخامرة الْعقل.
قَالَ: وَلَا يُنَافِي ذَلِك كَون الِاسْم خَاصّا بِهِ، كَمَا فِي النَّجْم فَإِنَّهُ مُشْتَقّ من الظُّهُور ثمَّ هُوَ خَاص بِالثُّرَيَّا.
انْتهى.
ثمَّ قَالَ: هَذَا الْقَائِل: وَالْجَوَاب عَن الْحجَّة الأولى وَأطَال الْكَلَام بِهِ كَمَا نذكرهُ ونرد عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: وَعَن الثَّانِيَة وَعَن الثَّالِثَة كَذَلِك نذكرهما ونرد عَلَيْهِ.
قلت: أما أَولا فَذكر صَاحب ( الْهِدَايَة) عشرَة أوجه فِي ثُبُوت مَا ادَّعَاهُ من إِطْلَاق اسْم الْخمر على عصير الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة.
وَأهل الْعلم وَبَين وَجه كل وَجه من الْعشْرَة، وَهَذَا الْقَائِل الْمُعْتَرض اعْترض على ثَلَاثَة أوجه مِنْهَا وَسكت عَن الْبَاقِي لعدم الْإِدْرَاك الْكَامِل والفهم النَّاقِص.
بَيَان الْوَجْه الأول: من ذَلِك هُوَ قَوْله: وَالْجَوَاب عَن الْحجَّة الأولى ثُبُوت النَّقْل عَن بعض أهل اللُّغَة بِأَن غير الْمُتَّخذ من الْعِنَب يُسمى خمرًا،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: زعم قوم أَن الْعَرَب لَا تعرف الْخمر إلاَّ من الْعِنَب، فَيُقَال لَهُم: إِن الصَّحَابَة الَّذين سموا غير الْمُتَّخذ من الْعِنَب خمرًا عرب فصحاء، فَلَو لم يكن هَذَا الِاسْم صَحِيحا لما أَطْلقُوهُ.
انْتهى قلت: سُبْحَانَ الله! كَيفَ يكون هَذَا الْكَلَام جَوَابا عَن الْحجَّة الأولى وَبَيَان بُطْلَانه من وُجُوه.

الأول: قَوْله ثُبُوت النَّقْل عَن بعض أهل اللُّغَة إِلَى آخِره، دَعْوَى مُجَرّدَة، فَمن هُوَ ذَلِك الْبَعْض من أهل اللُّغَة؟ بل الْمَنْقُول من أهل اللُّغَة أَن الْخمر من الْعِنَب والمتخذ من غَيره لَا يُسمى خمرًا إلاَّ مجَازًا، وَقد نفى أَبُو الْأسود الدؤَلِي الَّذِي هُوَ من أَعْيَان أهل اللُّغَة اسْم الْخمر عَن الطلاء، بقوله.

( دع الْخمر يشْربهَا الغواة فإنني ... رَأَيْت أخاها مغنياً لمكانها)

وَجعل الطلاء أَخا للخمر، وأخو الشَّيْء غَيره والطلاء كل مَا خثر من الْأَشْرِبَة وَهُوَ المثلث، وَيُقَال: الْمنصف، وكل ذَلِك بالطبخ من أَي عصير كَانَ.
الثَّانِي: اسْتدلَّ بقول الْخطابِيّ، وَهُوَ لَيْسَ من أهل اللُّغَة، وَإِنَّمَا هُوَ ناقل.
وَالثَّالِث: هُوَ أَن قَوْله: إِن الصَّحَابَة الَّذين سموا إِلَى آخِره، لَا يُنكره أحد وَلَا يُنكر أحد أَيْضا كَونهم فصحاء وأعيان أهل اللُّغَة، وَلَكِن مَا أطْلقُوا على الْعصير من غير الْعِنَب خمرًا بطرِيق الْوَضع اللّغَوِيّ بل بطرِيق التَّسْمِيَة وَالتَّسْمِيَة غير الْوَضع بِلَا خلاف، وَوجه تسميتهم من بابُُ التَّشْبِيه وَالْمجَاز، وَمن جملَة مَا قَالَ فِي الْجَواب عَن الْحجَّة الأولى:.

     وَقَالَ  أهل الْمَدِينَة وَسَائِر الْحِجَازِيِّينَ وَأهل الحَدِيث كلهم: كل مُسكر خمر، فَنَقُول نَحن: لَا ننازع فِي هَذَا لِأَن مَعْنَاهُ: كل شراب أسكر فَحكمه حكم الْخمر فِي الْحُرْمَة وَبَقِيَّة الْأَحْكَام، فَلَا يدل هَذَا على إِطْلَاق الْخمر على الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب خمرًا على الْحَقِيقَة، بل بطرِيق التَّشْبِيه والتشبيه لَا عُمُوم لَهُ،.

     وَقَالَ  أَيْضا: وَمن الْحجَّة لَهُم أَن الْقُرْآن لما نزل بِتَحْرِيم الْخمر فهم الصَّحَابَة، وهم أهل اللِّسَان، أَن كل شَيْء يُسمى خمرًا يدْخل فِي النَّهْي، فأراقوا الْمُتَّخذ من التَّمْر وَالرّطب وَلم يخصوا ذَلِك بالمتخذ من الْعِنَب انْتهى.
قُلْنَا: إِنَّمَا أراقوا الْمُتَّخذ من التَّمْر وَالرّطب لِأَنَّهُ كَانَ مُسكرا حينئذٍ، فأطلقوا عَلَيْهِ الْخمر من جِهَة إسكاره.
وَالدَّلِيل على أَنه كَانَ مُسكرا حِين بَلغهُمْ الْخَبَر بِتَحْرِيم الْخمر مَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِم بِلَفْظ: حِين مَالَتْ رؤوسهم، فَدخل دَاخل فَقَالَ: إِن الْخمر حرمت.
قَالَ: فَمَا خرج منا خَارج وَلَا دخل دَاخل حَتَّى كسرنا القلال وأهرقنا الشَّرَاب ... الحَدِيث، فَلَو كَانَ غير مُسكر لما فعلوا ذَلِك.
وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أنس قَالَ: كَانَ أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَسُهيْل بن بَيْضَاء وَأبي بن كَعْب عِنْد أبي طَلْحَة وَأَنا أسقيهم من شراب حَتَّى كَاد يَأْخُذ فيهم ... الحَدِيث وَفِي آخِره: وَإِنَّهَا الْبُسْر وَالتَّمْر، وَإِنَّهَا لخمرنا يومئذٍ، وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَفِيه أَيْضا: حَتَّى كَاد الشَّرَاب أَن يَأْخُذ فيهم، وَفِي رِوَايَة للطحاوي: حَتَّى أسرعت فيهم، فَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن مشروبهم يومئذٍ كَانَ مُسكرا، وَلما بَلغهُمْ الْخَبَر بِتَحْرِيم الْخمر بطلوا الشَّرَاب وأراقوا مَا بَقِي مِنْهُ.

وَبَيَان الْوَجْه الثَّانِي من ذَلِك هُوَ قَوْله: وَعَن الثَّانِيَة يَعْنِي: الْجَواب عَن الْحجَّة الثَّانِيَة مَا تقدم من أَن اخْتِلَاف المشتركين فِي الحكم فِي الغلظ لَا يلْزم مِنْهُ افتراقهما فِي التَّسْمِيَة كَالزِّنَا مثلا، فَإِنَّهُ يصدق على من وطىء أَجْنَبِيَّة، وعَلى من وطىء امْرَأَة جَاره.
وَالثَّانِي أغْلظ من الأول، وعَلى من وطىء محرما لَهُ وَهُوَ أغْلظ، وَاسم الزِّنَا مَعَ ذَلِك شَامِل للثَّلَاثَة.
اهـ.
قُلْنَا: سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا الْجَواب بِشَيْء وَنحن قَائِلُونَ بِهِ، وَذَلِكَ أَن الِاشْتِرَاك فِي الحكم فِي الغلظ لَا يسْتَلْزم افتراقهما فِي التَّسْمِيَة عِنْد وجود السكر فِي الْعصير الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب، فَمن قَالَ: إِن الْعصير الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب قيل السكر مُشْتَرك مَعَ عصير الْعِنَب المشتد فِي الحكم وَكَيف يكون ذَلِك والعصير الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب قبل السكر لَا يُسمى حَرَامًا فضلا عَن أَن يُسمى خمرًا، بِخِلَاف الْعصير من الْعِنَب المشتد فَإِنَّهُ حرَام أسكر أَو لم يسكر؟ فأنِّي يَشْتَرِكَانِ فِي الحكم، وَالزِّنَا حرَام فِي كل حَالَة مُطلقًا من غير تَفْصِيل.

وَبَيَان الْوَجْه الثَّالِث من ذَلِك هُوَ قَوْله وَعَن الثَّالِثَة: أَي الْجَواب عَن الْحجَّة الثَّالِثَة ثُبُوت النَّقْل عَن أعلم النَّاس بِلِسَان الْعَرَب بِمَا نَفَاهُ هُوَ، كَيفَ؟ وَهُوَ يستجيز أَن يَقُول: لَا لمخامرة الْعقل مَعَ قَول عمر رَضِي الله عَنهُ بِمحضر الصَّحَابَة: الْخمر مَا خامر الْعقل، وَكَانَ مُسْتَنده مَا ادَّعَاهُ من اتِّفَاق أهل اللُّغَة فَيحمل قَول عمر على الْمجَاز.
اهـ.
قُلْنَا: قَول صَاحب ( الْهِدَايَة) فَإِنَّمَا سمى خمرًا لتخمره لَا لمخامرته الْعقل غير معَارض لكَلَام عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِن مُرَاده من حَيْثُ الِاشْتِقَاق لِأَن الْخمر ثلاثي فَكيف يشتق من المخامرة الَّذِي هُوَ مزِيد الثلاثي؟ وإنكاره من هَذِه الْجِهَة على أَنه قَالَ بعد ذَلِك: على أَن مَا ذكرْتُمْ لَا يُنَافِي كَون اسْم الْخمر خَاصّا فِي النيء من مَاء الْعِنَب إِذا أسكر، فَإِن النَّجْم مُشْتَقّ من الظُّهُور وَهُوَ اسْم خَاص للنجم الْمَعْرُوف وَهُوَ الثريا، وَلَيْسَ هُوَ باسم لكل مَا ظهر، وَهَذَا كثير النَّظَائِر نَحْو: القارورة فَإِنَّهَا مُشْتَقَّة من الْقَرار وَلَيْسَت اسْما لكل مَا يُقرر فِيهِ شَيْء وَلم أر أحدا من شرَّاح ( الْهِدَايَة) حرر هَذَا الْموضع كَمَا يَنْبَغِي، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة وَللَّه الْحَمد.

وَمُلَخَّص الْكَلَام بِمَا فِيهِ الرَّد على كل من رد على أَصْحَابنَا فِيمَا قَالُوهُ من إِطْلَاق الْخمر حَقِيقَة على النيء من مَاء الْعِنَب المشتد وعَلى غَيره مجَازًا وتشبيهاً، مِنْهُم: أَبُو عمر والقرطبي والخطابي وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: حرمت الْخمْرَة بِعَينهَا والمسكر من كل شراب، وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن شهَاب عَن ابْن أبي ليلى عَن عِيسَى: أَن أَبَاهُ بَعثه إِلَى أنس رَضِي الله عَنهُ فِي حَاجَة فأبصر عِنْده طلاء شَدِيدا، والطلاء مِمَّا يسكر كَثِيره.
فَلم يكن عِنْد أنس ذَلِك خمرًا وَإِن كَثِيره يسكر فَثَبت بذلك أَن الْخمر لم يكن عِنْد أنس من كل شراب يسكر، وَلكنهَا من خَاص من الْأَشْرِبَة، وَهَذَا يدل على أَن أنسا كَانَ يشرب الطلاء، وَمَعَ هَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ: ذهب أَكثر الشَّافِعِيَّة إِلَى أَن الْخمر حَقِيقَة فِيمَا يتَّخذ من الْعِنَب مجَاز فِي غَيره،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَخَالفهُ ابْن الرّفْعَة فَنقل عَن الْمُزنِيّ وَابْن أبي هُرَيْرَة وَأكْثر الْأَصْحَاب أَن الْجَمِيع يُسمى خمرًا حَقِيقَة.
قلت: هَذَا الْقَائِل لم يدر الْفرق بَين الرَّافِعِيّ وَابْن الرّفْعَة، وَالله سُبْحَانَهُ وَأعلم.