فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {منه آيات محكمات} [آل عمران: 7]

( { سُورَةُ آل عِمْرَانَ} )
أَي: هَذَا تَفْسِير سُورَة آل عمرَان.
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر دون غَيره.
وَهُوَ حسن لِأَن ابْتِدَاء الْأَمر بِبسْم الله الرحمان الرَّحِيم يتبارك فِيهِ: وَلما فرغ من بَيَان سُورَة الْبَقَرَة شرع فِي تَفْسِير سُورَة آل عمرَان، وابتدأ بالبسملة لما ذكرنَا، وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل أَمر ذِي بَال الحَدِيث وَهُوَ مَشْهُور.
( بابٌ: تُقاةُ وتقيَّةٌ واحدَة) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: { إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة ويحذركم الله نَفسه وَإِلَى الله الْمصير} ( آل عمرَان: 28) وَالْمعْنَى مُرْتَبِط بِمَا قبله.
وَهُوَ أول الْآيَة: { لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل ذَلِك} يَعْنِي: وَمن يوالي الْكفَّار.
( فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء) يَقع عَلَيْهِ اسْم الْوُلَاة.
( إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة) .
يَعْنِي: إِلَّا أَن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، وانتصاب: تقاة.
على أَنه مفعول تتقوا، وَيجوز أَن يكون، تتقوا، متضمنا معنى: تخافوا، كَمَا ذكرنَا وَيكون: تقاة.
نصبا على التَّعْلِيل، وَمعنى قَول البُخَارِيّ: تقاة وتقية وَاحِدَة، يَعْنِي: كِلَاهُمَا مصدر بِمَعْنى وَاحِد.
قرىء فِي مَوضِع تقاة تقية، وَالْعرب إِذا كَانَ معنى الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدًا، وَاخْتلف اللَّفْظ يخرجُون مصدر أحد اللَّفْظَيْنِ على مصدر اللَّفْظ الآخر، وَكَانَ الأَصْل هُنَا أَن يُقَال: إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم اتقاء، وَهنا أخرج كَذَلِك لِأَن تقاة مصدر: تقيت فلَانا، وَلم يخرج على مصدر: اتَّقَيْت، لِأَن مصدر اتَّقَيْت إتقاء وتقاة وتقية وتقى وتقوى، كلهَا مصَادر تقيته،بِمَعْنى وَاحِد، يُقَال: تقى يَتَّقِي.
مثل رمى يرْمى، وأصل التَّاء الْوَاو لِأَنَّهَا فِي الأَصْل من الْوِقَايَة، وَمن كَثْرَة اسْتِعْمَالهَا بِالتَّاءِ يتَوَهَّم أَن التَّاء من نفس الْحُرُوف.
صِرٌّ بَرْدٌ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: { مثل مَا يُنْفقُونَ فِي هَذِه الحيواة الدُّنْيَا كَمثل ريح فِيهَا صر أَصَابَت حرث قوم ظلمُوا} ( آل عمرَان: 117) الْآيَة وَفسّر الصَّبْر بقوله برد، والصر بِكَسْر الصَّاد وَتَشْديد الرَّاء وَهُوَ الرّيح الْبَارِدَة نَحْو الصرصر.
شفَا حُفْرَةٍ مِثْلُ شَفا الرَّكِيَّةِ وَهُوَ حَرْفُها أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا} ( آل عمرَان: 103) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ.
وكنتم مشفين على أَن تقعوا فِي نَار جَهَنَّم لما كُنْتُم عَلَيْهِ من الْكفْر فأنقذكم مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ قَوْله: ( مثل شفا الرَّكية) بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْكَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف.
وَهِي الْبِئْر، والشفا، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء الْحَرْف وَهُوَ معنى قَوْله: ( وَهُوَ حرفها) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء، وَهَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بِضَم الْجِيم وَالرَّاء.
تُبوِّيءُ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرا أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِذ غَدَوْت من أهلك تبوىء الْمُؤمنِينَ مقاعد لِلْقِتَالِ} ( آل عمرَان: 121) وَفَسرهُ بقوله: تتَّخذ معسكرا.
وَفَسرهُ أَبُو عُبَيْدَة كَذَلِك، والمقاعد جمع مقْعد وَهُوَ مَوْضُوع القعد.
المُسَوِّمُ الَّذِي لهُ سِيما بِعَلامَةٍ أوْ بِصُوفَةٍ أوْ بِمَا كَان أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث} ( آل عمرَان: 141) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْخَيل المسومة المعلمة من السومة وَهِي الْعَلامَة أَو المطهمة أَو المرعية من أسام الدَّابَّة وسومها وَعَن ابْن عَبَّاس: المسومة الراعية المطهمة الحسان، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير وَعبد الله بن أَبْزَى وَالسُّديّ وَالربيع بن أنس وَأبي سِنَان وَغَيرهم،.

     وَقَالَ  مَكْحُول: المسومة الْغرَّة والتحجيل.
قَوْله: ( المسوم الَّذِي لَهُ سِيمَا) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالميم المخففة هُوَ الْعَلامَة قَوْله: ( أَو بِمَا كَانَ) أَي: أَو بِأَيّ شَيْء كَانَ من العلامات.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالخَيْلُ المُسَوَّمَةُ المُطَهَّمَةُ الحِسانُ هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد عَن روح عَن شبْل عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
قَالَ الْأَصْمَعِي المطهم التَّام كل شَيْء مِنْهُ على حِدته فَهُوَ رباع الْجمال، يُقَال: رجل مطهم وَفرس مطهم.
رِيِّبُّونَ الجمِيعُ وَالوَاحدُ رِبيٌّ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وكأين من نَبِي قَاتل مَعَه ربيون} ( آل عمرَان: 146) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الربيون الربانيون، وقرىء بالحركات الثَّلَاث الْفَتْح، على الْقيَاس، وَالضَّم وَالْكَسْر من تغييرات النّسَب.
قَوْله: ( الْجَمِيع) ويروى الْجمع أَي جمع الربيون ربى،.

     وَقَالَ  سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَاصِم عَن زر عَن ابْن مَسْعُود، ربيون كثير أَي: أُلُوف.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَالربيع وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي: الربيون الجموع الْكَثِيرَة،.

     وَقَالَ  عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن ربيون كثير أَي: عُلَمَاء كَثِيرُونَ، وَعنهُ أَيْضا: عُلَمَاء صبراء أبرار أتقياء، وَحكى ابْن جرير عَن بعض نحاة الْبَصْرَة أَن الربيين هم الَّذين يعْبدُونَ الرب، عز وَجل قَالَ: وَقد رد بَعضهم عَلَيْهِ فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لقيل، ربيون، بِالْفَتْح انْتهى.
قلت: لَا وَجه للرَّدّ لأَنا قُلْنَا: إِن الكسرة من تغييرات النّسَب.
تحُسُّونَهَمْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلاً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَلَقَد صدقكُم الله وعده إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ} ( آل عمرَان: 156) وَفسّر: تحسونهم بقوله: تستأصلونهم: من الاستئصال وَهُوَ الْقلع من الأَصْل، وَفِي التَّفْسِير: إِذْ تحسونهم أَي: تقتلونهم قتلا ذريعا.
غُزّا وَاحِدُها غَازٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزا لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا} ( آل عمرَان: 156) الْآيَة.
وغزّا، بِضَم الْغَيْن وَتَشْديد الزَّاي جمع غاز كعفى جمع عاف.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: غزا وَاحِدهَا غاز.
تَفْسِير أبي عُبَيْدَة.
قلت: مثل هَذَا لَا يُسمى تَفْسِيرا فِي اصْطِلَاح أهل التَّفْسِير، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه قَالَ جمع غاز.
وأصل غاز غازى فأعل إعلال قَاض.
وَقَرَأَ الْحسن غزا بِالتَّخْفِيفِ.
وَقيل: أَصله غزَاة فَحذف الْهَاء، وَفِيه نظر.
سَنَكْتُبُ سَنَحْفَظُ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء سنكتب مَا قَالُوا} ( آل عمرَان: 181) الْآيَة.
وَفسّر: سنكتب، بقوله سنحفظ.
أَي: سنحفظه وتثبته فِي علمنَا، وَفِي التَّفْسِير: ( سنكتب مَا قَالُوا) فِي صَحَائِف الْحفظَة، وَقَرَأَ حَمْزَة: ( سيكتب) .
بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف على الْبناء للْمَجْهُول، وَتَفْسِير البُخَارِيّ تَفْسِير باللازم لِأَن الْكِتَابَة تَسْتَلْزِم الْحِفْظ.
نُزُلاً ثَوَابا وَيَجُوزُ وَمُنَزّلٌ مِنْ عِنْدِ الله كَقَوْلِكَ أنْزَلْتُهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نزلا من عِنْد الله وَمَا عِنْد الله خير للأبرار} ( آل عمرَان: 198) وَفسّر: نزلا، بقوله: ثَوابًا.
وَفَسرهُ فِي التَّفْسِير.
بقوله: أَي ضِيَافَة من الله، والنزل: بِسُكُون الزَّاي وَضمّهَا مَا يقدم للنازل.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وانتصابه إِمَّا على الْحَال من: جنَّات، لتخصصها بِالْوَصْفِ، وَالْعَامِل اللَّام، وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى مصدر مُؤَكد كَأَنَّهُ قيل: رزقا أَو عَطاء، من عِنْد الله.
قَوْله: ( وَيجوز: ومنزل من عِنْد الله) أَرَادَ بِهِ أَن نزلا الَّذِي هُوَ الْمصدر يكون بِمَعْنى منزلا على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من قَوْلك: أنزلته.
وَيكون الْمَعْنى: لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا منزلَة، يَعْنِي: معطى لَهُم منزلا من عِنْد الله كَمَا يعْطى الضَّيْف النزل وَقت قدومه.
وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: وَحَصُورا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { إِن الله يبشرك بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} ( آل عمرَان: 39) .

     وَقَالَ  سعيد ابْن جُبَير معنى حصورا لَا يَأْتِي النِّسَاء، وَوصل هَذَا الْمُعَلق عبد فَقَالَ: حَدثنَا جَعْفَر بن عبد الله السّلمِيّ عَن أبي بكر الْهُذلِيّ عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَأبي الشعْثَاء أَنهم قَالُوا: السَّيِّد الَّذِي يغلب غَضَبه، والحصور الَّذِي لَا يغشى النِّسَاء، وأصل الْحصْر الْحَبْس وَالْمَنْع يُقَال لمن لَا يَأْتِي النِّسَاء وَهُوَ أَعم من أَن يكون بطبعه كالعنين أَو المجاهدة نَفسه وَهُوَ الممدوح وَهُوَ المُرَاد فِي وصف السَّيِّد يحيى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ غَضَبِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { بلَى أَن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا} ( آل عمرَان: 125) الْآيَة، وَفسّر عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: من فوره، بقوله: من غضبهم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة، قَالَ: فورهم، ذَلِك كَانَ يَوْم أحد غضبوا ليَوْم بدر مِمَّا لقوا.
وَقَال مُجَاهدٌ يُخْرِجُ الحَيَّ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مَيِّتَةً وَيُخْرِجُ مِنْها الحَيُّ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَتخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من تشَاء بِغَيْر حِسَاب} ( آل عمرَان: 27) قَالَ مُجَاهِد: تخرج الْحَيّ، مَعْنَاهُ النُّطْفَة تخرج حَال كَونهَا ميتَة.
وَيخرج من تِلْكَ الْميتَة الْحَيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُحَمَّد بن جرير عَن الْقَاسِم.
حَدثنَا حجاج عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود وَالضَّحَّاك وَالسُّديّ وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير، وَفِي ( تَفْسِير ابْن كثير) يخرج الْحبَّة من الزَّرْع وَالزَّرْع من الْحبَّة والنخلة من النواة والنواة من النَّخْلَة وَالْمُؤمن من الْكَافِر وَالْكَافِر من الْمُؤمن والدجاجة من الْبَيْضَة والبيضة من الدَّجَاجَة.
.

     وَقَالَ  الْحسن: يخرج الْمُؤمن الْحَيّ من الْكَافِر الْمَيِّت.
قَوْله: ( النُّطْفَة) مُبْتَدأ وَتخرج، جملَة فِي مَحل الرّفْع خَبره، وميتة نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي تخرج.
الإبْكَارُ أوَّلُ الفَجْرِ وَالعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ أُرَاهُ إلَى أنْ تَغْرُبَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: { وَاذْكُر رَبك كثيرا وَسبح بالْعَشي والأبكار} ( آل عمرَان: 41) .
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: العشى من حِين تَزُول الشَّمْس إِلَى أَن تغيب والأبكار من طُلُوع الْفجْر إِلَى وَقت الضُّحَى وقرىء والأبكار بِفَتْح الْهمزَة جمع بكر كشجر وأشجار.


(بابٌُ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} .
.

     وَقَالَ  مُجَاهِدٌ الحَلالُ وَالحَرَامُ: وَأُخَرُ مُتشابِهاتٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِفِينَ وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ وَيَجْعل الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلونَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ

هَذَا الْكَلَام كُله كَلَام مُجَاهِد رَوَاهُ عبد بن حميد عَن روح عَن شبْل عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ: رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن الْمُبَارك عَن زيد بن الْمُبَارك عَن مُحَمَّد بن ثَوْر عَن ابْن جريج عَنهُ قَوْله: (مِنْهُ) .
أَي: من الْكتاب، يَعْنِي: الْقُرْآن قَالَ: {هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات} (آل عمرَان: 7) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: محكمات أحكمت عبارتها بِأَن حفظت من الِاحْتِمَال والاشتباه.
هن أم الْكتاب أَي: أصل الْكتاب.
متشابهات مُشْتَبهَات محتملات.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أما اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ فَالْحكم هُوَ الْمُشْتَرك بَين النَّص وَالظَّاهِر الْمُتَشَابه هُوَ الْمُشْتَرك بَين الْمُجْمل والمؤول.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ الْمُحكم هُوَ الَّذِي يعرف بِظَاهِر بَيَانه تَأْوِيله وبواضح أدلته بَاطِن مَعْنَاهُ، والمتشابه مَا اشْتبهَ مِنْهَا فَلم يتلق مَعْنَاهُ من لَفظه وَلم يدْرك حكمه من تِلَاوَته، وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: مَا إِذا رد إِلَى الْمُحكم وَاعْتبر بِهِ علم مَعْنَاهُ.
وَالْآخر: مَا لَا سَبِيل إِلَى الْوُقُوف على حَقِيقَته وَهُوَ الَّذِي يتبعهُ أهل الزبغ فيبطلون تَأْوِيله وَلَا يبلغون فيرتابون فِيهِ فيفتنون بِهِ، وَذَلِكَ كالإيمان بِالْقدرِ وَنَحْوه، وَيُقَال: الْمُحكم مَا اتضحت دلَالَته، والمتشابه مَا يحْتَاج إِلَى نظر وَتَخْرِيج، وَقيل: الْمُحكم مَا لم ينْسَخ، والمتشابه مَا نسخ، وَقيل: الْمُحكم آيَات الْحَلَال وَالْحرَام، والمتشابه آيَات الصِّفَات وَالْقدر، وَقيل: الْمُحكم آيَات الْأَحْكَام، والمتشابه الْحُرُوف الْمُقطعَة.
قَوْله: (وَأخر) جمع أُخْرَى، وَاخْتلف فِي عدم صرفهَا.
فَقيل: لِأَنَّهَا نعت، كَمَا لَا تصرف كتع وَجمع لِأَنَّهُنَّ نعوت، وَقيل: لم تصرف لزِيَادَة الْيَاء فِي واحدتها وَأَن جمعهَا مبْنى على وَاحِدهَا فِي ترك الصّرْف: كحمراء وبيضاء فِي النكرَة والمعرفة لزِيَادَة الْمدَّة والهمزة فيهمَا.
قَوْله: (يصدق) تَفْسِير للمتشابه.
قَوْله: كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} (الْبَقَرَة: 26) إِشَارَة إِلَى أَن الْمَفْهُوم مِنْهُ أَن الْفَاسِقين أَي الضَّالّين إِنَّمَا ضلالتهم من جِهَة اتباعهم الْمُتَشَابه بِمَا لَا يُطَابق الْمُحكم طلب افتتان النَّاس عَن دينهم وَإِرَادَة إضلالهم.
قَوْله: وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} (يُونُس: 1) إِنَّمَا ذكر هَذَا تَصْدِيقًا لما تتضمنه الْآيَة الَّتِي قبلهَا حَيْثُ يَجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ، وَقيل: الرجس السخط.
وَقيل: الْإِثْم، وَقيل: الْعَذَاب.
وَقيل: الْفِتَن والنجاسة، أَي: يحكم عَلَيْهِم بِأَنَّهُم أنجاس غير طَاهِرَة، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: الرجز: بالزاي وَبِه فسر الرجس أَيْضا.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: الرجل الخذلان وَهُوَ الْعَذَاب وَهُوَ شَبيه قَوْله: {على الَّذين لَا يعْقلُونَ} أَي أَمر الله وَلَا أَمر رَسُوله لأَنهم مصرون على الْكفْر.
وَهَذَا أَيْضا رَاجع إِلَى معنى الَّذين يتبعُون مَا تشابه بِمَا لَا يُطَابق علم الراسخين.
قَوْله: وَكَقَوْلِه: {وَالَّذين اهتدوا} (مُحَمَّد: 17) إِلَى آخِره، رَاجع فِي الْحَقِيقَة إِلَى معنى الَّذين صدرهم مُجَاهِد فِي كَلَامه الْمَذْكُور لِأَن مُرَاده من ذَلِك فِي نفسر الْأَمر الراسخون فِي الْعلم الَّذين اهتدوا وَزَادَهُمْ الله هدى، فَافْهَم، فَإِنِّي لم أر أحدا من الشُّرَّاح أُتِي سَاحل هَذَا فضلا أَن يغوص فِيهِ.
وَالله أعلم.

زَيْغٌ شَكٌّ.
ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ} وَفسّر الزيغ بِالشَّكِّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هم أهل الْبدع، {فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ} أَي: من الْكتاب الَّذِي هُوَ الْقُرْآن، وَيُقَال: هم أهل الضلال وَالْبَاطِل وَالْخُرُوج عَن الْحق (يتبعُون مَا تشابه مِنْهُ) الَّذِي يُمكنهُم أَن يحرفوه إِلَى مقاصدهم الْفَاسِدَة وينزلوه عَلَيْهَا.
قَوْله: (ابْتِغَاء الْفِتْنَة) ، أَي: طلبا أَن يفتنوا النَّاس عَن دينهم.

والراسِخُونَ يَعْلَمُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قَالَ ابْن نجيح عَن مُجَاهِد: {الراسخون فِي الْعلم يعلمُونَ تَأْوِيله يَقُولُونَ آمنا بِهِ} (آل عمرَان: 7) وَكَذَا قَالَ الرّبيع بن أنس.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: الراسخون فِي الْعلم الَّذين رسخوا أَي: ثبتوا فِيهِ وتمكنوا، وَيَقُولُونَ كَلَام مُسْتَأْنف يُوضح حَال الراسخين، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْعَالمُونَ بالتأويل يَقُولُونَ: آمنا بِهِ أَي: بالتشابه كل من عِنْد رَبنَا أَي كل وَاحِد من الْمُتَشَابه والمحكم من عِنْد الله، وَيجوز أَن يكون: يَقُولُونَ، حَالا من الراسخين.
وَقَرَأَ عبد الله أَن تَأْوِيله إلاَّ عِنْد الله، وَقَرَأَ أبي: وَيَقُول الراسخون.



[ قــ :4296 ... غــ :4547 ]
- ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قَالَتْ تَلا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذِهِ الآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتابِ وَأُخَرُ مُتشابهاتٌ فَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {أُولُوا الألْبابُُِ} قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولائِكَ الَّذِينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ.


عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين: ابْن قعنب القعْنبِي شيخ مُسلم أَيْضا وَيزِيد من الزِّيَادَة.
ابْن إِبْرَاهِيم أَبُو سعيد التسترِي، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْأُخْرَى وبالراء نِسْبَة إِلَى تستر مَدِينَة من كور الأهواز وَبهَا قبر الْبَراء بن مَالك، وتسميها الْعَامَّة ششتر، بشينين معجمتين الأولى مَضْمُومَة وَالثَّانيَِة سَاكِنة، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، واسْمه زُهَيْر، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن القعْنبِي أَيْضا وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن القعْنبِي فِي السّنة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير.
.

     وَقَالَ : روى هَذَا الحَدِيث غير وَاحِد عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة.
وَلم يذكر وَالقَاسِم، وَإِنَّمَا ذكره يزِيد بن إِبْرَاهِيم عَن الْقَاسِم فِي هَذَا الحَدِيث، وَعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة سمع من عَائِشَة أَيْضا انْتهى.
وَفِيه نظر لِأَن غير يزِيد ذكر فِيهِ الْقَاسِم وَهُوَ حَمَّاد بن سَلمَة قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَنبأَنَا الْحسن بن عَليّ الشطوي حَدثنَا ابْن الْمَدِينِيّ حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن ابْن أبي مليكَة.
قَالَ: حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة، فَذكره.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ ذكر حَمَّاد فِي هَذَا الحَدِيث للاستشهاد على مُوَافَقَته يزِيد بن إِبْرَاهِيم فِي الْإِسْنَاد.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا يزِيد بن إِبْرَاهِيم وَحَمَّاد بن سَلمَة عَن ابْن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة أَيْضا عِنْد الطَّبَرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة.

قَوْله: (تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْآيَة: وَهِي قَوْله: (هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب) الْآيَة.
قَوْله: (فَإِذا رَأَيْت الَّذين يتبعُون مَا تشابه مِنْهُ) ، قَالَ الطَّبَرِيّ: قيل: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الَّذين جادلوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمر عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقيل: فِي أَمر هَذِه الْأمة.
وَهَذَا أقرب لِأَن أمرى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، أعلمهُ الله نبيه مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته وَبَينه لَهُم بِخِلَاف أَمر هَذِه الْأمة فَإِن علم أَمرهم خَفِي على الْعباد.
قَوْله: (فَأُولَئِك الَّذين سمى الله) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: هم الْخَوَارِج، قيل: أول بِدعَة وَقعت فِي الْإِسْلَام بِدعَة الْخَوَارِج، ثمَّ كَانَ ظُهُورهمْ فِي أَيَّام عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ تشعبت مِنْهُم شعوب وقبائل وآراء وَأَهْوَاء وَنحل كَثِيرَة منتشرة، ثمَّ نبعت الْقَدَرِيَّة ثمَّ الْمُعْتَزلَة ثمَّ الْجَهْمِية وَغَيرهم من أهل الْبدع الَّتِي أخبر عَنْهَا الصَّادِق المصدوق فِي قَوْله: وَسَتَفْتَرِقُ هَذِه الْأمة على ثَلَاث وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إلاَّ وَاحِدَة.
قَالُوا: وَمن هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي: أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) .
قَوْله: (فاحذروهم) ، بِصِيغَة الْجمع وَالْخطاب للْأمة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فَاحْذَرْهُمْ، بِالْإِفْرَادِ أَي: احذرهم أَيهَا الْمُخَاطب.